الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الماوردي: قال الشافعي: والشعر حكمه كلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. (1)
وقال ابن تيمية: إن الأمثلة المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذي هو حكمة، وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخيلات عظيمة أفادت تأليفا وتنفيرًا (2).
قال ابن قدامة: وليس في إباحة الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء، والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة العربية والاستشهاد به في التفسير، وتعرف معاني كلام تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستدل به أيضًا على النسب والتاريخ وأيام العرب. (3)
فالشعر أنواع: فما كان فيه حكمة، أو موعظة حسنة، أو دفاع عن حق، أو إبطال لباطل، أو نحو ذلك من وجوه الخير فهو خير وهو مشروع. وما كان فيه كذب، أو شرك، أو لهو، أو مجون، أو إغراء بشرٍّ أو نصر لباطل، أو إبطال لحق، أو ثناء على أهل الشر، أو ذم لأهل الخير، أو نحو ذلك فهو شر وهو ممنوع، وبالجملة فحكمه حكم ما اشتمل عليه.
يقول ابن حجر: الذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجوٍ وعن الإغراق في المدح والكذب المحض والتغزل بمعين لا يحل، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك (4).
الوجه الثالث: سيرته صلى الله عليه وسلم تشهد على قلة معرفته للشعر، واستحالة تأليفه له
.
من أين للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف الشعر أو أن يقوله؟ والله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]. ويقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226].
(1) الحاوي في فقه الشافعي للماوردي 17/ 202.
(2)
مجموع الفتاوى 28/ 651.
(3)
المغني لابن قدامة 23/ 188، وانظر الحاوي في فقه الشافعي للماوردي 17/ 202:210. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 147.
(4)
فتح الباري 10/ 539.
قَالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا لَشاعرٌ، وقالوا: إن القرآنُ شِعْرٌ؛ فأنزَلَ الله تَعالى هذهِ الآيةَ الكريمةَ يرُدُّ بها على افْتِرَائِهِمْ هَذا، ويقولُ لهمْ: إنَّ القرآنَ فيما حَوَاه من حِكَمٍ وأحْكَامٍ، وفي أُسْلُوبِه يَتَنَاقَضُ مع الشِّعْرِ. وإنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ يَتَنَافَى مَعَ حَالِ الشُّعْراءِ، فهوَ لا يَنْطِقُ إلا بالحَقِّ والحِكْمَةِ، والصِّدْقِ، ويَتَّبِعُهُ الصَّادِقُونَ المُخْلِصُونَ. والشُّعَراءُ يقولونَ الباطِلَ والزُّورَ، ولا يَتَّبِعُهُمْ إلا الضَّالُّونَ.
والشُّعَرَاءُ يَخُوضونَ في كُلِّ لغْوٍ، ألم تر أنهم في كل واد من أودية القول يهيمون على وجوههم، في كلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الكَلَامِ، فلا يهتدون إلى الحق؟ فَهُمْ يَخُوضُونَ مرةً فِي شَتيمةِ فلانٍ، ومَرةً في مَدِيحِ فُلانٍ، فلا يَهْتَدُونَ إلى الحقِّ.
والشُّعْرَاءُ يقُولُونَ مَا لَا يَلْتَزِمُونَ بهِ في عَمَلِهِمْ، وَيتبَجَّحُونَ بأقْوَالٍ وأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُمْ ولا مِنْهُمْ، فَيتكَثَّرُونَ بِمَا ليسَ لهُمْ، والرَّسُولُ الذي أُنْزِلَ عليهِ القُرآنُ ليسَ بِكَاهِنٍ، ولا شَاعِرٍ لأنَّ حالَهُ مُنَافٍ لِحَالِ الشُّعَراءِ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ فهو ينطق بالحكمة، وهم ينطقون بالزور.
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} يظهر منه أن الله تولى الدفاع عن حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:{وَمَا غَوَى} [النجم: 2] نفي لقولهم هو شاعر إذ الشعراء يتبعهم الغاوون (1).
يقول محمد الأمين الشنقيطي: أما دعواهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، وقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36]، وقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]. وأمّا تكذيب الله لهم في ذلك، فقد ذكره في قوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]، وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36، 37]؛ لأن قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون (2).
(1) أيسر التفاسير لأسعد حومد (الشعراء 224: 226) بتصرف.
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/ 104
يقول ابن كثير عن آية سورة (يس): يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ما علمه الشعر، {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه، عليه الصلاة والسلام، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه.
ويقول: قال أبو زُرْعة الرازي: حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبي أنه قال: ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طَرَفَة: ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ (2)
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 6/ 588، ويقول عبد العزيز القارئ في مقالة (شعر أهل الحديث) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد 10 صـ 293: من المجمع عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعرًا ولم ينظم الشعر، بل طبعه الله عز وجل على خلاف سجية الشعراء ومنع عنه ملكة الشعر. . حتى ما كان يستقيم في لسانه في الغالب، وإن كان يجري على لسانه أحيانًا، إلا أن النفي عنه بالجملة أن يكون شاعرًا، فإذا جرى على لسانه بيت أو بيتان مستقيمان فإن ذلك لا يعني أنه قال شعرًا، لأن جريان كلام منظوم بغير قصد لنظمه وعنايته بإيجاده موزونًا، يجري على كل الألسنة ولا يعتبر شعرًا.
ويقول صـ 294: وكون الرسول أميًا لم يعن مذمة الكتابة والقراءة. . وكذلك كونه ليس شاعرًا لا يعني ذم الشعر. . فلا يفهم من قوله: {مَا يَنْبَغِي لَهُ} إلا أن الشعر مع مقام الوحي لم يكن مناسبًا، كما أن الأمية كانت مناسبة، والدليل على أن المقصود هو تأكيد أن القرآن ليس بشعر أن الآية جاءت في معرض هذا المعنى حيث يقول بعدها:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فيكون المعنى وما ينبغي أن يكون القرآن شعرًا؛ لأنه كتاب إرشاد وتعليم وموعظة للناس، والشعر ليس محلا للتفصيل والتبيين والإيضاح بل هو محل الإجمال والإشارة. . فهذا الكلام ليس من نوع الشعر ولكنه (قرآن مبين).
(2)
أخرجه أحمد 6/ 31، 146، والنسائي في عمل اليوم والليلة (996)، وفي السنن الكبرى (10834)، عن الشعبي، عن عائشة، وأخرجه الترمذي (2848)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (997) أيضًا، وأحمد 6/ 138: من حديث المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها كذلك، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2057).
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن عائشة: كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، وآخره أوله. فقال أبو بكر ليس هكذا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي"(1).
ومع فصاحته صلى الله عليه وسلم كان يبغض الشعر، روى الإمام أحمد عن أبي نوفل قال: سألتُ عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. (2)
يقول ابن عاشور: تقدير المعنى: نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحىً إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى: أن القرآن ليس من الشعر في شيء. ودل على أن هذا هو المقصود من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} قوله عقبه {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكرًا وقرآنا وما هو بشعر. والتعليم هنا بمعنى الوحي، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4، 5] وقال {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113](3).
يقول: وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين أي ما يتأتّى له الشعر، قُصِدَ منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحَى به للنبي صلى الله عليه وسلم شعرًا بنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه، أي فطر الله النبي صلى الله عليه وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر؛ لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذّبين دابر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا وأن يكون قرآنه شعرًا؛ ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام.
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/ 590، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 117) عن معمر عن قتادة، به.
(2)
أخرجه أحمد (6/ 134)، والطيالسي في المسند (1593)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 245)، وابن أبي شيبة (26615) وقال الهيثمي في المجمع 8/ 220: رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (3059).
(3)
التحرير والتنوير 23/ 57. وانظر أيضًا: نظم الدرر 6/ 279، وأحكام القرآن لابن العربي 4/ 1609.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له؛ لأن الشعر صنف من القول له موازين وقوافٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست مِن طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر؛ لأن إنشاد الشعر غير تعلّمه، وكم من راوية للأشعار ومن نَقَّادٍ للشعر لا يستطيع قول الشعر، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضّل بعض الشعراء على بعض، وهو مع ذلك لا يقرض شعرًا. وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختلّ وزنه في إنشاده، وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، ومنها جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والمُلَح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حدّ الإِغراق وكادّعاء الشاعر أحوالًا لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خِلوٌ من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قَرَضَ الشعر، ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لَعُدَّ غضاضة في شعره، وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حُرمة كماله في أَنْفُسِ قومه يستوي فيها العدوّ والصديق. على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة والإِقبال على السُكر والميسر والنساء، فلو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل، فتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطة مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة (1).
(1) التحرير والتنوير 23/ 62، 63، 64 بتصرف. ويقول أحمد المراغي في تفسيره 23/ 30: لأن الشعر يسير مع العواطف والأهواء وليس مع ما يمليه العقل الصحيح، فكان مستقر المبالغات والأراجيف والمدائح والتفاخر ومبني على الركون إلى الأهواء تبعًا لفائدة ترجى، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا. والخلاصة: إن الله تعالى كما جعل رسوله أميا لتكون الحجة أتم والبرهان على المشركين أقوم كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدَّعو عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها، والأباطيل التي ينمقها، وليس بوحي من عند ربه.