الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على وجهين: أحدهما: أن يؤخر التنزيل للآية فلا ينزل من اللوح المحفوظ، والثاني: أن ينزل القرآن فيتلى، ويعمل به. ثم يؤخر فينسخ العمل به دون اللفظ أو ينسخ العمل به واللفظ، أو ينسخ اللفظ ويبقى العمل. (1)
ثانيًا: قراءة (ننسها)
وهي قراءة الجمهور وتحمل معنيين:
الأول: الترك.
(أو ننسها) من النسيان الذي هو بمعنى الترك، فيكون المعنى: ما ننسخ من آية أو نتركها بلا نسخ نأت بخير منها أو مثلها، وقدر بعض العلماء هنا مقدر وهو (حكم)، فالمعنى ما ننسخ من حكم آية أو نترك حكمها نأت بخير منها أو مثلها.
ويرد على هذا إيراد وهو: كيف تكون الآية باقية (أي متروكة لم تُنسخ)، ويُقال نأت بخير منها أو مثلها؟ وللإجابة على ذلك وجوه:
أولها: أن المراد بننسها نثبت لفظها ونترك حكمها.
ثانيها: أن المراد بالآية: الآية من آيات التوراة، فالمعنى ما ننسخ من آية من آيات التوراة نأت بآية في القرآن مثلها أو خير منها، لكن هذا القول لم يقل به هنا إلا قلة قليلة من أهل العلم (أعني القول بأن المراد بالآية آية التوراة).
القول الثاني:
أن المراد بقوله تعالى (ننسها) أي: نرفع لفظها فلا يستقر منها في القلوب والأذهان شيء، (وهو من النسيان المعهود لدى الناس)، ومثال ذلك ما صح عن أنس بن مالك من وجوه أن الذين قُتلوا ببئر معونة أنزل الله فيهم قرآنًا يتلى (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نُسخ ذلك بعد.
ومثال ذلك أيضًا في صحيح مسلم من حديث أبي الأسود: بَعَثَ أَبو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ
(1) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها (1/ 258).
الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا في الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّى قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ. وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْهَا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، فَتُكْتَبُ شَهَادَةً في أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1)
قال ابن عطية: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان. والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.
فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة، وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان:
أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقًا بكم خيرًا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
والمعنى الثاني: أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الثالث: أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضًا، على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الرابع: أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في {مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
(1) التسهيل لتأويل التنزيل تفسير سورة البقرة (2/ 186)، تفسير الطبري (1/ 479)، الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها (1/ 258)، النكت والعيون (1/ 171).
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير؛ فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث: ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع: ما ننسخ أو نؤخره مثبتًا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها؛ لأنها تحتمل، وقد قال "جميعها" العلماء إما نصًا وإما إشارة فكملناها.
وقال الزجاج: إن القراءة "أو نُنْسِها" بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك؛ لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآنًا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
قال ابن عطية: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنًا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر؛ لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها (1).
(1) المحرر الوجيز (1/ 194: 193).