الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي أحق به: بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين (1)، لا يومًا أو بعض يوم؛ بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولًا. . . . وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان. . . . فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وأنت بعد لم ترزق قوة الفصل بين درجات الكلام، فسبيلك أن تأخذ الحكم مسلمًا عن أهله، وتقنع فيه بشهادة العارفين به، فها هو الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن رقَّ له، فقال رَادًّا على أبي جهل: وماذا أقول؟ ! والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته (2).
هذا وإن بيان وبلاغة آيات القرآن الكريم تأبى وتتنافى ودعوى الأخذ من هذه الأشعار المتكلفة الضعيفة.
كما أنا لو سلمنا جدلًا بأن القرآن اقتبس في عشر آيات منه، من عشرة أبيات، فمن أين أتى القرآن بأكثر من ستة آلاف آية أخرى؟ !
الوجه التاسع: منافاة أسلوب القرآن لأسلوب الشعر عامة
.
ولو تنزلنا مرة أخرى مع القوم حسب عقولهم، وافترضنا صحة نسبة الأبيات إلى امرئ القيس؛ فإننا جميعًا سوف نصطدم بالاختلاف البائن بين أسلوب القرآن الكريم كلام رب العالمين وبين هذه الأشعار كلام المخلوقين.
وقد بوَّب الإمام البيهقي قبل رواية حديث الوليد الآنف الذكر فقال: باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز، وأنه لا يشبه شيئًا من لغاتهم مع كونهم من أهل اللغة وأرباب اللسان (3).
(1) سبق قول ابن عطية في المحرر الوجيز 1/ 49: وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.
(2)
النبأ العظيم صـ 113: 116 (ملخصًا) وقد مرَّ قول الوليد محققًا في الوجه الأول.
(3)
دلائل النبوة للبيهقي 2/ 198.
ويقول القاضي عياض: من إعجاز القرآن صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آية، وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه؛ بل حارت فيه عقولهم، وتدلَّهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر، . . .، وإنه مما جُمع في قوة جزالته، ونصاعة ألفاظه، وحسن نظمه وإيجازه وأسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن أقدار الخلق عليها كإحياء الموتى، وقلب العصا، وتسبيح الحصا (1).
ويقول ابن حزم: إن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس (2).
ويقول: وأنه ليس من نوع كلام المخلوقين، لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه، وأنَّ آية ذلك الأقسام التي في أوائل السور، والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها، قال: وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجًا عن البلاغة المعهودة بلا شك، فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلًا (3).
هذا وإن البون شاسع بين القرآن والشعر والفروق بينهما كثيرة، ودليل ذلك في الأمور التالية:
الأول: لم ينزل القرآن الكريم على النمط المألوف من كلام العرب، فلم يأت على أسلوب الخطابة ولا الوصية ولا المثل ولا المنافرة ولا المفاخرة ولا المحاورة ولا نظم القصيد، فأسلوب وطريقة الشعر معروفة في الشكل العمودي للقصيدة العربية مع اتحاد القافية وتساوي الأشطر واتحاد بحر القصيدة، وليس شئ من هذا في القرآن فهو لم يكن شعرًا ولا نثرًا مرسلًا ولا سجعًا ولا مزاوجةً بل جاء على مذهب خارج عن المعهود من نظام كلام العرب ومبائن للمألوف من مناهج كلامهم، ينصرف على وجوه مختلفة، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأمثال، وترغيب وترهيب وأمر ونهي ووعد
(1) الشفا 1/ 264، 267.
(2)
الفصل في الملل والنحل 1/ 87.
(3)
السابق نفسه 3/ 12.
ووعيد وتبشير وتخويف وهو أثناء ذلك يتردد بين الإيجاز والإطناب، فما أجملَ القرآنَ فيما اشتمل عليه من دقة التصوير، وجمال الوصف، مع سمو التعبير، وعظمة التأثير، وروعة الإيجاز وبلاغة التكرار، وليس الشعر يبلغ في هذا فتيلًا (1).
قال أبو بكر العربي: القرآن خرج عن أنواع كلام العرب، وخصوصا عن وزن الشعر؛ ولذلك قال أخو أبي ذر لأبي ذر:"لقد وضعتُ قوله على أقوال الشعراء فلم يكن عليها"(2)، ولا دخل في بحور العروض الخمسة عشر، ولا في زيادات المتأخرين عليها؛ لأن تلك البحور تخرج من خمس دوائر: إحداها دائرة المختلف ينفك منها ثلاثة أبحر: وهي الطويل، والمديد، والبسيط؛ ثم تتشعب عليها زيادات كلها منفكة. الدائرة الثانية دائرة المؤتلف ينفك منها بحر الوافر، والكامل، ثم يزيد عليها زيادات لا تخرج عنها. . . وهكذا الدوائر الخمس ولقد اجتهد المجتهدون في أن يُجروا القرآن أو شيئا منه على وزن من هذه الأوزان فلم يقدروا، فظهر عند الولي والعدو أنه ليس بشعر (3).
يقول الطاهر بن عاشور: كيف يكون القرآن شعرًا والشعر كلام موزون مقفّى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة؟ فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعراء، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه؟
(1)"القرآن معجزة العصور" لمحمد عبد المنعم خفاجي وآخرين من صـ 112: 116 بتصرف. ويقول د. مصطفى مسلم في (مباحث في إعجاز القرآن) صـ 142: الآية في النظم القرآني ليست بيت شعر، وجملة نثر، ومقطع سجع، بل هي قطعة من القرآن لها بداية ونهاية متضمنة في سورة، ولكل آية مقطع تنتهي به هو الفاصلة، وليست هذه الفاصلة قافية شعر، ولا حرف سجع، وإنما هي شاهد قرآني لا يوجد إلا فيه، ولا يعتدل في كلام غيره.
إن النظم القرآني البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآي والمقاطع، وتماسك الكلمات واتساقها في التراكيب؛ بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات، ونظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما لم يدع في نفس واحد منهم موضع طمع، حتى خرست الألسن أن تدَّعي وتتقول.
(2)
صحيح مسلم (6516)
(3)
أحكام القرآن 4/ 1609، 1610
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهلُ الصناعة منهم وكُلُّ مَنْ زَاولَ مَبَادِئَ القَافية مِنَ المولدين، ولا أحسبهم دَعوهُ شعرًا إلا تعجلًا في الإِبطال، أو تمويهًا على الإِغفال، فأشاعوا في العرب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شاعر، وأن كلامه شعر (1).
الثاني: إن الأشعار الشهيرة ومنها المعلقات - فخر العرب - تخلو من كل قيمة فكرية أو إنسانية أو روحية أو أمر أو نهي أو إرشادٍ إلى خير بخلاف القرآن العظيم، فالأوامر فيه تصل إلى الألف آية وكذلك النواهي، ويحض على فعل كل خير وينهى عن كل شرِّ، ويرشد ويهدي إلى كل صلاح ونفع في الدنيا والآخرة.
وقد ذكر أبو بكر الباقلاني فصلًا جيدًا عن الشعر الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده (2).
وقال الشافعي مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب الله. فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
فالقرآن الكريم حوى علمَ الأولينَ والآخرين فهو أصل العلوم كلها، فعلم الكلام من القرآن، وعلم الفقه وأصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلوم مثل التاريخ والطب والجدل وأصول الصنائع وغيرها الكثير. واشتمل على علم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة ومنها أهوال يوم القيامة وأحوال الناس فيه، كما يفصل أخبار مآلهم ففريق في الجنة وفريق في السعير، ثم ينتقل إلى وصف الجنة ونعيم أهلها وإلى وصف النار وجحيم أهلها إلى ما هنالك مما لا يعلم إلا عن طريق الوحي وهذا كثير جدا في القرآن.
يقول القاضي عياض: ومن إعجازه جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات،
(1) التحرير والتنوير 23/ 57، 58 مختصرًا.
(2)
في كتابه إعجاز القرآن صـ 160.
والرد على فِرَق الأمم ببراهين قوية، وأدلة بينة سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعدُ أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها كقوله تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إلى ما حواه من علوم السير، وأنباء الأمم والمواعظ والحكم، وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب والشيم، قال الله جل اسمه:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الزمر: 27](1).
بل إن من خصائص القرآن الإخبار عن مستقبل الناس في الدنيا، وما سيحدث لهم من انتصار وتمكين لبعضهم، أو خزي وذلٍّ لبعض آخر، إلى آخر ما هو ليس في طوق البشر. ومَن تعاطى ذلك من المتنبئين والشعراء افْتُضِحَ فِي حِيْنِه، وما جاء في القرآن كان هو الحق المبين، فَمَنْ أصدقُ مِنَ الله حَدِيثًا. ومن إخبار القرآن عن ذلك وهو كثير قوله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 1 - 5]. (2)
(1) الشفا 1/ 277.
(2)
يقول الزرقاني في مناهل العرفان 2/ 307، 308: معنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد صلى الله عليه وسلم بها، . . .، من ذلك قصص عن الماضي البعيد المتغلغل في أحشاء القدم، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلا عن التحدث به، وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء. وسر الإعجاز في ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف وجاء على النحو الذي أخبر به في إجمال ما أجمل وتفصيل ما فصل، وأنه إن اخبر عن غيب الماضي صدقه ما شهد به التاريخ، وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء وما يجد في العالم من تجارب وعلوم، وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالي وما تجيء به الأيام.
وهذا القرآن قد جاء بما حدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير من بدء الخليقة إلى حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه صلى الله عليه وسلم أميا لا يعرف شيئا من كتب السابقين وأنبائهم.
فالقرآن ليس كتاب قصص، وليس كتاب متعة وتسلية على نحو دواوين الشعراء فهو ليس شعرا أو أدبا أو حكمة أو تاريخًا أو اجتماعا، إنما هو خلاصة لكل ما في الحياة من حقائق ومعارف وعلوم وثقافات، ومنهج كامل لكل جانب من جوانب الحياة الروحية والعقلية والاجتماعية والسياسية، فهو كتاب الإنسانية كلها، وصحيفة البشرية قاطبة (1).
يقول السيوطي: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء؛ أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها (2).
وظهر أثر هذا الأمر في القرآن في المجتمعات التي سلَّمت له وآمنت به، كيف أثَّر فيها وغير من الأخلاق الرديئة، وأرسى الأخلاق الحميدة مع الدعوة إلى الحق والعدل والعلم، ورسم المثل الإنسانية العليا وأهداف الأفراد والشعوب وتحديد الفلاح في الدنيا والآخرة.
الثالث: هذه القصائد الجاهلية العالية الحبْك والصياغة، لا تخلو من أخطاء تندُّ عن
فمن غيوب الماضي أن يخبر عن تلك القصص الرائعة للأنبياء إخبار مَن حضرها قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] كذكر بدء الخلق وقصص أصحاب الكهف وذي القرنين، ومن غيوب الحاضر ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن وفضح المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن غيوب المستقبل إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون في بضع سنين، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لن يُقتل؛ لأن الله عاصمه كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وتحققت نبوءة القرآن فلم يتمكن أحد من أعدائه أن يقضي عليه مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم، وإخبار القرآن عن القرآن بأنه لن يُحرَّف قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولم يحدث مع تطاول السنين ولن يحدث، وما جاء في مقام التحدي بأن الإنس والجن لن يأتوا بمثل القرآن قال عز وجل:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ولم يحدث أن جاء أحد بمثل سورة منه. بتصرف.
وهذا بخلاف المعجزات التي يكشف عنها العلم الحديث من وقت لآخر، وتفصيلها في باب الإعجاز من هذه الموسوعة.
(1)
"القرآن معجزة العصور" لمحمد عبد المنعم خفاجي وآخرين صـ 114.
(2)
انظر الإتقان للسيوطي 4/ 25: 33 ففيه تفصيل.
الشاعر، ومن ذلك ما ذكره أبو بكر الباقلاني إذ درس في كتابه (1) معلقة امرئ القيس المشهورة فأبان ما اشتملت عليه من أخطاء لغوية وفنية وغيرها.
قال ابن عطية: فالله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، . . .، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطي لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل، كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام (2).
الرابع: فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم (3).
الخامس: أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق، وتنزه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيدًا، ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي، فالشعر يعتمد على المبالغة والتهويل حتى قالوا أعذب الشعر أكذبه، وليس شيء من هذا في القرآن الكريم، وكيف يكون ذلك وهو كلام الله وحده لا كلام مخلوق سواه؟ !
(1) إعجاز القرآن من صـ 241: 322
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي 1/ 49.
(3)
من النقطة الرابعة إلى الثامنة في هذا الوجه من التفسير الكبير للفخر الرازي 2/ 115، 116 بتصرف وزيادات.
يقول القلقشندي: لم ينزل الله القرآن على صفة نظم الشعر؛ بل نزهه عنه بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 41] وحرم نظمه على نبيه محمد؛ تشريفا لمحله وتنزيها لمقامه منبها على ذلك بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]؛ وذلك أن مقاصد الشعر لا تخلو من الكذب، والتحويل على الأمور المستحيلة، والصفات المجاوزة للحد، والنعوت الخارجة عن العادة، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، وسب الأعراض، وغير ذلك مما يجب التنزه عنه لآحاد الناس، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله؟ (1).
وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شاعر! فقيل: لِما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذب، لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب، ومِنْ ثَمَّ سموا الأدلة الكاذبة شعرا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} (2).
السادس: إن الكلام الفصيح البليغ إنما يتفق في القصيدة: في البيت والبيتين والباقي لا يكون، وليس كذلك القرآن؛ لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته.
يذكر الباقلاني فصاحة القرآن فيقول: ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والفوائد الغزيرة والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
(1) صبح الأعشى في صناعة الإنشا 1/ 91.
(2)
فتح الباري 10/ 538.
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبأن عليه الاختلال.
ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام ولذلك ضُرِبَ المَثَلُ بِامرِئِ القَيسِ إِذَا رَكِبَ والنابغةِ إذا رَهِبَ وبِزُهَيرٍ إذا رَغِبَ ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها فيأتي بالغاية في البراعة في معنى فإذا جاء إلى غيره قَصُرَ عنه ووَقَفَ دُونَه، . . .، ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصد أصلًا ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر تقصيرًا عجيبًا، . . .، ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانا بَيِّنا ومنهم من يوجد بضد ذلك.
وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة؛ فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة؛ فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت؛ بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة؛ فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر (1).
(1) إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني من صـ 35: 37.
يقول عبد القاهر الجرجاني: يقول ابنُ مسعودٍ في صفةِ القرآن: "لا يَتْفَهُ ولا يَتَشانُّ"(1) وقال: "إِذا وقعتُ في آلِ حم وقعتُ في رَوضات دَمِثاتٍ أتأنَّقُ فيهم" أي أَتتبَّع محاسنَهن. قال ذلك من أجلِ أوزان الكلمات ومن أجل الفواصلِ في أواخرِ الآيات (2).
السابع: أن كل من قال شعرًا فصيحًا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وفي القرآن التكرار الكثير ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة بل ولم يظهر التفاوت أصلًا.
الثامن: أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة؛ لذا يبتعد الشعر عنها وتقل في الشعر الجاهلي خاصةً.
التاسع: مما يقوله القاضي عياض: ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا، ويودون انقطاعه لكراهتهم له، وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته تُولِيه انجذابًا ليل قلبه إليه وتصديقه به، قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير 2/ 116: إنهم قالوا: إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند المطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن فإنه جاء فصيحًا في كل الفنون على غاية الفصاحة ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} الآيات [الإسراء: 68].
(1)
هذا الأثر في مسند الإمام أحمد 1/ 405 من حديث طويل: (إن هذا القرآن لا يختلف، ولا يستشن ولا يتفه لكثرة الرد) وذكر هذا الأثر بهذا اللفظ أبو عبيد القاسم بن سلام في (غريب الحديث) 3/ 153، 4/ 55. و (يتشان): لا يخلق، وهو مأخوذ من (الشن) وهو الجلد الخلق البالي. و (يستشن): يصير شنا باليا. و (يتفه) من الشيء (التافه)، أي لا يبتذل حتى يلحق بالخسيس.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 388.
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ويدل على أن هذا شيء خُصَّ القرآن به أنه يَعْتَرِي مَنْ لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روى عن نصراني أنه مر بقارئ، فوقف يبكى. فقيل له: مم بكيت؟ قال: للشجا والنظم.
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده فمنهم من أسلم لها لأول وَهْلَةٍ، ومنهم من كفر، فَحُكِيَ في الصحيح عن جبير بن مطعم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} وإلى قوله:{الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير للإسلام (1).
وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليهم: {حم} فصلت إلى قوله: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف، وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقام عتبة لا يدرى بم يراجعه، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم، وقال: والله لقد كلمني بكلام، والله ما سمعت أذناى بمثله قط فما دريت ما أقول له (2).
وقال مالك بن نبي: وهناك شهادات سجلتها لنا السيرة في ذلك العصر، تقدم لنا معلومات واسعة عن التأثير الغلاب الذي كان لآيات القرآن على النفس البدوية.
فعمر رضي الله عنه يتحول إلى الإسلام بفعل هذا التأثير، على حين قد عبر الوليد بن المغيرة الذي كان مثالا في الفصاحة والفخر الأدبي عن رأيه في (سحر القرآن) بقول: والله، . . .، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه.
(1) صحيح البخاري (4476).
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 273.
هذه اللغة التي لم تعبر حتى تلك اللحظة - قبيل الرسالة - إلا عن ذكاء بدو الصحراء، تحتاج بقدر ما أن تثري لكي تشبع رغبات عقل واجهته - منذ ذلك الحين - المشاكل الغيبية والشرعية والاجتماعية بل العلمية أيضًا. (1)
العاشر: مما يقوله القاضي عياض: ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهى، وخبر واستخبار، ووعد ووعيد، وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد، وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته، ولانت جزالته، وقل رونقه، وتقلقلت ألفاظه؛ فتأمل أول (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر من الحسد في كلامهم وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم، وإهلاك الله لهم، ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله عليه وسلم على أذاهم وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام (2).
الحادي عشر: مما يقوله أبو بكر الباقلاني: كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وُصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه؛ حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خُروجٌ يُرْتَضَى، وتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، أما القرآن فإنه على اختلاف فنونه، وما يتصرف
(1) الظاهرة القرآنية صـ 191.
(2)
الشفا 1/ 280.
فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد، وهذا أمر عجيب تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة ويتجاوز العرف (1).
الثاني عشر: إنه لا يزال الناس قديما وحديثا إذا سُرُّوا مِن كلامٍ أو أسلوبٍ وأعجبهم جماله حَاكُوه وقَلَّدُوه.
يقول الباقلاني: الناس إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة. وكذلك رأينا أصحاب هذا الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدركَ اللَّاحِقُ السَّابِقَ وأَرْبَى عليه، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبدة، تؤخذ بالتعلم، وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.
فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم، وهم شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟
وما ذاك إلا لأن فيه من غريب تأليفه في بنيته، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته وجُمله وآياته، من نظام له سمتٌ وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظام تعاطاه الناس أو يتعاطونه. فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يحاذونه به، ولا سبيلًا يسلكونه إلى تذليل منهجه. يقول ابن عطية: لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد.
وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين؛ لأفسد بذلك مزاجه في فم كل قارئ، ويجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذًا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغل
(1) إعجاز القرآن صـ 38.
دخيل، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد (1) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42].
الثالث عشر: أن الشعر قاله ويقوله الناس - منذ أن نطق الإنسان - المجيدون منهم الآلاف بل يزيدون، فضلا عن غيرهم، بل إن الشعراء المجيدين يفاضل الناس بينهم فيقولون: فلان أَشْعَرَ من فلان أو فلان أشعر الناس في الهجاء، وفلان أشعر الشعراء في الوصف، وآخر في الرثاء إلى غير ذلك.
وليس شيء من هذا في القرآن في دبير أو نفير، فإذا كان امرؤ القيس أشعر الشعراء؛ فإن ذلك لم يكن مسلما به حتى في زمانه.
يقول عبد القاهر الجرجاني: في حديث علقمة الفحل أنه لما قال له امرؤ القيس، وقد تناشدا: أَيُّنَا أَشعرُ؟ ، قال: أنا، غيرَ مُكْتَرِثٍ ولا مُبالٍ، حتى قال امرؤ القيس: فقُلْ وَانْعَتْ فَرَسَكَ وناقتَك، وأقولُ وأَنْعَتُ فرسي وناقتي.
فقال علقمة: إني فاعل، والحكَمُ بَيْني وبَينك المرأةُ من ورائك، يعني أُمَّ جُنْدُب امرأة امرئ القيس، فقال امرؤ القيس:
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جُنْدَبِ
…
نُقَضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ
وقال عَلْقمة:
ذَهَبْتَ مِنَ الهِجْرَانِ في كُلِّ مَذْهَبِ
…
وَلَمْ يَكُ حَقًّا كُلُّ هَذَا التَّجَنُّبِ
وتحاكما إلى المرأة، ففَضَّلَت علقَمة.
ويقول عبد القاهر: وقالوا: كان الأوائل لا يفضلون على زهير أحدا في الشعر ويقولون: "قد ظلمه حقَّه من جعله كالنابغة". قالوا: "وعامة أهل الحجاز على ذلك".
(1) الوجه الثاني عشر جاء ملخصًا من كتاب (النبأ العظيم) للدكتور: عبد الله دراز صـ 134 وانظر تفصيل إعجاز أسلوب القرآن وخصائصه في الكتاب نفسه من صـ 135: 16، وليس منها شيء في أسلوب الشعر.