الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا مما يدل على أن أول من نطق بهذه العبارة هو القرآن الكريم؛ لأنه لو كان امرؤ القيس قد قالها قبل القرآن الكريم، لما كان للفصل الذي عقده فائدة، ولكانت الخنساء قد ضمنت أبيات امرئ القيس في شعرها، لا آيات القرآن الكريم، ولكان القرآن الكريم نفسه قد ضمن أبيات امريء القيس. وثَمَّ أمر مهم وهو أن هذه الأبيات المفتراة لو بلغت علماءنا المتقدمين، فلماذا لم يثيروا قضية التشابه بين القرآن الكريم وشعر امرئ القيس؟
الوجه الثامن: لو افترضنا صحة نسبة الأبيات إلى امرئ القيس - وهو أمر مستحيل - وافترضنا أن هناك تشابه في الكلمات بين ألفاظ القرآن وهذه الأشعار فإن ذلك يشهد للقرآن بالفصاحة والبلاغة والبيان
.
إذ إن كلاهما باللسان العربي والكلمات المشتركة جاءت في القرآن على أفصح ما يكون الكلام وأبلغه، بينما هي في الأبيات المكذوبة جاءت في غاية السخافة والسفول، ثم إنه لا غضاضة في أن يحصل تشابهٌ في بعض الكلمات، وجاء القرآن بما تعهده العرب في كلامها من أمثلة واستعارات وغير ذلك من ضروب البلاغة.
ثم إن القرآن الكريم نزل ليتحدى كفار قريش، قائلًا لهم: إنكم تنطقون بهذه الأحرف، وتقولون تلك الكلمات، لكنكم مع ذلك عاجزون عن أن تأتوا بمثل القرآن من جهة القوة والإحكام والإتقان، هذا ومعلوم أن التشابه في بعض الكلمات والتراكيب لا يعني الاقتباس والنقل.
وسوف يترتب على فرض صحة نسبة الأبيات للجاهلية؛ تساؤل هو: لماذا لم يواجه فصحاء قريش النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التشابه وهم أحفظ للشعر من مستشرقي عصرنا؟ ولماذا عندما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل آية منه لم يقتبسوا من هذه الأشعار كما اقتبس هو؟ (1)
يقول أبو بكر الباقلاني: الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعرًا ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم - لبادروا إلى معارضته؛ لأن الشعر مُسخَّر لهم مُسهَّل عليهم، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب والاقتدار اللطيف؛ فلما لم نرهم
(1) وانظر الوجه الأول من وجوه الرد على الشبهة.
اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه - علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن، وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن، وقد ذهب أولئك النفر عنه، وخفي عليهم مع شدة حاجتهم عندهم إلى الطعن في القرآن، والغض منه، والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، فلن يجوز أن يخفي على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق (1).
فالقرآن لم يخرج عن معهود لغة العرب؛ فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وهذا من إعجاز القرآن وإفحامه للعالمين أجمعين؛ إذ حروف اللغة وكلماتها موجودة ملك الجميع لكن من ذا الذي يؤلف بينها؟ .
يقول عبد الله دراز: صنعةُ البيان مثلُ صنعةِ البنيان، فالمهندسون البَنَّاءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعًا، وسقفًا موضوعةً، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأَكَنِّها للناس من الحَرِّ والقَرِّ وفي الانتفاع بالساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، فمنهم من يفي بذلك، ومنهم من يخل بشيء منه، كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة، وليست كل هذه الطرائق تجمل في كل موطن أو تقبح في كل موطن إذًا لأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا. . . والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الطرائق فضلًا عن حسن الاختيار فيها إلى أن يتكون الأسلوب الخاص بكل إنسان وعلى حسب ذلك يقع التفاوت في درجات الكلام.
فالجديد في لغة القرآن، أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير أشرف المواد، وأمسها بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها
(1) إعجاز القرآن للباقلاني صـ 53.