الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأخبر أن الفضل بيده اليمنى، والقسط بيده الأخرى مع أن كلا يديه يمين كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا"(1).
فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها، وبعضها أفضل من بعض لم يمتنع أنه هو العالي علوًا مطلقًا، وإن كان منه ما هو أعلى من غيره (2).
وقال أيضًا: والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض، هو القول المأثور عن السلف وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم (3).
الوجه الثالث: الجمهور على وقوع البدل إلى أثقل
.
قال ابن حزم: قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل. وقد أخطأ هؤلاء القائلون.
وجائز نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف، والشيء بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وإن احتج محتج بقوله الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} ، وبقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وبقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، فلا حجة لهم في شيء من ذلك.
أما قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، فنعم، دين الله كله يسر، والعسر والحرج هو ما لا يستطاع، أما ما استطيع فهو يسر، وأما قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ} منه، ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسًا ومشاهدةً، ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة، وأنها لو كانت صلاة واحدة
(1) مسلم (1827).
(2)
درء التعارض (3/ 293).
(3)
مجموع الفتاوى (17/ 13)، وانظر مجموع الفتاوى (17/ 9) وما بعدها.
كانت أخف علينا من الخمس، وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة، ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلًا لكان أخف بلا شك.
وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين، ولا يشك ذو عقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام، وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم، فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا، كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله عليه وسلم الإصر الذي كان عليهم، والأغلال التي كانوا يطوقونها، إذ يقول تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج، وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى، من قتل أنفسهم بأيديهم، فكل شيء كلفناه يهون عند هذا، وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل، وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم، وخفف عنا ذلك كله. ولله الحمد والمنة.
وأما قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ؛ فإنما معناه بخير منها لكم، وكلام الله لا يتفاضل في ذاته، فمعناه أكثر أجرًا.
ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول: لا ننسخ الأخف إلا بالأثقل لكنا أقوى شغبًا ممن خالفه، لأنه لا خلاف أن الأثقل فاعله أعظم أجرًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة: هي على قدر نصبك ونفقتك، كانت الناسخة أعظم أجرًا، فلا يكون ذلك إلا لثقلها، فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به.
ثم نقول: إن من قال: إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء: فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها؛ لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها، والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها، وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة.
فصار قول من خالفنا مؤديًا إلى الخروج عن الإسلام جملة، ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة. وقد قال الشاعر:
هل الولد المحبوب إلا تعلة
…
وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وفي الأكل والشرب مشقة، فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع، دون تكلف تناول ومضغ وبلع، لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا، فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه، أو الإشراف على الحتف.
ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه، وبما يدخل بين أضراسه، ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك، ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدا، فكيف بالأعمال المكلفة.
ولكن العسر والمشقة تتفاضل، فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق، وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر.
وقد جاء في الأثر: "حُفت الجنة بالمكاره" فبطل بهذا الحديث نصًا قول من قال: إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل.
وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف، والشيء بمثله، والشيء بإسقاطه جملة، ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
فإن اعترضوا بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ، فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها؛ لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل، فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء.
وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الأول ثم ثقلنا به، فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه، ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال.
فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان، ونسخ إباحة الإفطار في رمضان، وإطعام مساكين - بدل ما يفطر من أيامه - بوجوب صيامه فرضًا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر، ولزوم الصيام فيه، ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه، ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه، وقد كان الكلام فيها فيما ناب الإنسان أخف بلا شك، ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء بإيجاب القتال، وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} ، فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالًا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة.
وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره أن في الخمر والميسر منافع للناس، فأبطل تعالى علينا تلك المنافع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها، ونسخ تعالى الأذى والحبس عن الزواني والزناة والرجم والتغريب، ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن (1).
الشبهة الرابعة عشر: قالوا بأن النسخ يتعارض مع قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] لأن الآية هنا تثبت الحفظ، وفي آية النسخ تثبت النسيان حيث يقول الله تعالى:{أَوْ نُنْسِهَا} .
والجواب على هذه الشبهة من هذه الوجوه:
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 497: 493)، وانظر: الفقيه والمتفقه (1/ 250)، روضة الناظر (1/ 251)، الإحكام للآمدي (3/ 125)، تفسير القرطبي (2/ 59).