الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستكبارهم عن الحق المبين، قال تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124]، بل بلغ بالقوم الحمق واللجاج بالباطل، أن ابتغى كل منهم حصول الوحي له كما أخبر الله عنهم {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} [المدثر: 52]، فكبح الله جماح غرورهم ولجاجهم، إذ أشار إلى عظم أمر النبوة، وأنها تكون لصاحب الأهلية واللياقة للتلقي عن الله عز وجل، فلا قيمة للاعتبارات الاجتماعية والمالية والسياسية البشرية، وإنما العبرة كل العبرة لنبل الخلق وشرف النفس، وصفاء السريرة، وطيب الطوية، وهذا لا يعلمه علم اليقين إلا الله رب العالمين، فهو يصطفي من يشاء {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} والنبوة رحمة إلهية للناس جميعًا، فلما قضت حكمة الله ظهورها في زمانٍ ما؛ شرف سبحانه بها حسب مشيئته وحكمته من كان أهلًا لها {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]، أما الذين اقترفوا بتجبرهم وتكبرهم جريمة الإعراض عن رسالة الله، ودفعهم الغل والحسد إلى تنفير الناس من رسالة الله، فسلكوا ذلك الأسلوب من المكر والخداع والمراوغة؛ فإنهم لهذه الأوصاف الخسيسة، ليسوا أهلًا للنبوة، ولكنهم جديرون أن يجازوا على تجبرهم، وتطاولهم وتعاليهم بالضد، بالذل والهوان والتحقير ويعاقبوا على مكرهم وكفرهم بالعذاب الأليم {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124].
وتقلب مجرموا مكة بين أنواع الكفر، ومن ذلك زعمهم أن أمر الوحي والنبوة إنما يليق برجل كثير المال، عظيم الجاه من مكة أو الطائف.
5 - قوة يقين النبي بالوحي:
يجب أن نضيف إلى معارفنا عن الوحي رأي الذات المحمدية نفسها فيه، ولا بد لنا في سبيل ذلك من عودة الذاكرة إلى أوصاف هذه الذات، فإنها أخلاقية رفيعة تنعم بقدر
عظيم من الفطانة ورجاحة العقل، ذات منزهة عن الصغائر والسفاسف لا ترقى إليها الظنون، وقد سبق الحديث عنها، ثم لننظر عَلَامَ استقر رأي هذه الذات؟ وهل تمت قناعتها اعتباطًا أم باستخدام كامل الطاقة الفكرية؟ .
انطلق فكر محمد صلى الله عليه وسلم في دراسة بادرة الوحي إلى غايتها تدريجيًا فرؤى بذلك نزوع عقله الراجح، وإلى رغبته الملحة في الوصول إلى اليقين في هذه الظاهرة، لقد جاءه الملك في غار حراء فجأة يأمره بفعل ما لا يقدر عليه {أَقْرَأ} ، ثم هو يغطه ويرسله أمر فجائي إلزامي خارج عن ذاته، بعيد كل البعد عن سوانح فكره، راح بحال مضطربة فناجى خديجة رضي الله عنها بالذي جرى، وعبر عن عمق تأثره بقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد خشيت على نفسي" أصدر قوله هذا بداهة فجاء إقرارًا عفويًا دالًا على حقيقة أمره، حدث عجيب لم يعرفه ولم تعرفه خديجة! ! أثار في نفسه التساؤل فانطلق معها إلى ورقة، ثم فتر الوحي ويلوح له الملك على كرسي بين السماء والأرض، حدث لم يخطر من قبل بباله، يفزع إلى التدثر والتزمل بعدًا عنه، فيوافيه على الرغم من إرادته، أدى كل ذلك إلى تنشئة يقينه بالوحي، ونموه وتعاظمه، وكانت كل حالة من أحوال الملك شاهدًا جديدًا على حقيقة الوحي، واستقلاله عن ذاته، وشاهدًا على صدوره عن الذات الإلهية العلية. لقد استقر به مطاف التعجب والاستفسار إلى هذه القناعة الذاتية القاطعة، والمعرفة اليقينية، وتتوالى عليها الأيام وأحداث الوحي في تزيدها إلا قوةً ورسوخًا.
6 -
معارف الوحي فوق مطامع الذات الإنسانية وإمكانها. في بيئة الجهالة القاتمة بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجاء قومَه بعقيدة وأحكام تنافي ما أقاموا عليه من وثنية وتقاليد عفنة نتنة، وقاوم عقائد القوم بحدة وصلابة حتى أزعجهم وأقلقهم، هذا نهج لا ينصرف إليه ذهن متزعم، وإنما يجيء الوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأمره بالتزامه، على الرغم مما يلقى من عنت القوم؛ عرف ورقة بن نوفل هذه الحقيقة قبل وقوعها، فأعلم محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذ يخرجك قومك، فقال:"أوَمخرجِيّ هم؟ " قال: نعم، إذ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا