الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: مر الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول، والله أعلم وأحكم.
المسلك الثاني
قال القرافي: قوله: (الوسط من كل شيء خياره):
تقريره: قال اللغويون: إنما سمى الخيار وسطًا، لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط.
(فائدة)
دخل عمر بن عبد العزيز على عبد الملك بن مروان، فقال له: كيف نفقتك في أهلك؟ فقال له: حسنه بين سيئتين يا أمير المؤمنين
.
يشير على قوله تعالى:} والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا {[الفرقان:67].
قلت: واعتبرت جميع الأشياء [كلها] من هذا الباب، فوجدتها كذلك، فالغضب ينبغي أن يكون كذلك.
وكذلك الحلم، والشدة واللين، والحب والبغض، والزهد والسخاء، وجميع هذه الحقائق ينبغي للإنسان فيها ألا يفرط، ولا يفرط.
(فائدة)
قال النحاة: (وسط) بالفتح: اسم، و (وسط) بالتسكين: ظرف، مثل (بين) مسكن الوسط
، فيمكن أن يقال:(تخرج الديون من وسط التركة) بالتسكين، ولا يمكن ذلك مع التحريك؛ لأنك إذا قسمت التركة نصفين على السوية بحيث لا يرجح أحدهما على الآخر، يستحيل أن يخرج من بين هذين شيئًا، وبهذا التفسير لا يمكنك أن تجلس في وسط الدار بالتحريك، وتجلس في وسط الدار بالتسكين.
قوله: (لو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية):
قلنا: عليه ثلاثة أسئلة:
الأول: إن صدق لفظ الخيرية، لا نسلم أنه مشروط بالعصمة، بل يصدق ذلك لغة على من كثر خيره، وكذلك أن كل ما هو موصوف في الدنيا بالخيرية لا يمكن أن يقال: هو خير محض لا يشوبه شر، بل لابد من الشوائب، لكن الحكم للغالب، وكذلك الموصوف بكونه شرًا، لابد من شائبة خير فيه.
قال الشافعي رضي الله عنه لما سئل عن العدل: أدركت الناس فلم أر أحدًا فعل الخير فلم يمحضه بشر قط، ولا فعل الشر فلم يمحضه بخير قط، ولكن العدل من غلب خيره على شره، فأخس ما في العالم الحيات والعقارب، وفيها منافع جليلة، نص عليها الأطباء، لا توجد في غيرها حتى يقول المالكي في كتابه:(أكل لحوم الحيات على وضعه المخصوص يعيد عصر الشباب)، ومنافع هذه الحشرات كثيرة، ليس هذا موضعها، وأنفع شيء في العالم من الأدوية الترياق، وهو يقتل إذا استعمله الممتلئ، أو الصغير السن، أو استعمل منه نصف أوقية.
والغذاء والشراب أكثر الأشياء ملاءمة للإنسان، وهما سبب الأمراض والأسقام، وفي ذلك يقول الشاعر [الوافر]:
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تكثر فديتك من صحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
…
يكون عن الطعام أو الشراب
الثاني: أنا إنما ادعينا جواز الخطأ، والخطأ ليس من باب المحظورات، بل قد يكون من الواجبات، فيثاب عليها، قال عليه السلام:(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران).
الثالث: أن صيغة (أمة وسطًا) نكرة في سياق الإثبات، فتكون مطلقة، فلا تعم أنواع الخيور.
قوله: (وإذا لم يقدموا على شيء من المحظورات، وجب أن يكون قولهم حجة):
قلنا: المدارك الشرعية تتوقف على نصب شرعي، فلا يلزم من عدم الخطأ كونه حجة حتى ينصبه الشرع.
قوله: (إذا تعذر حمل الآية على كل واحد واحد، وجب حملها على البعض، وهم الأئمة المعصومون):
قلنا: هاهنا محمل واحد، وهو الكل من حيث هو كل، وهو مقصودنا؛ فإن العصمة إنما تثبت للمجموع، لا لكل واحد واحد.
قوله: (أخبر الله - تعالى - على أنه جعلهم خيرًا، فلا يكون ذلك من فعلهم):
قلنا: لا يتأني؛ لأن الله - تعالى - هو خالق الطاعات في العبد،
ويصدق عليه أنه من فعله عادة ولغة، كما قال تعالى:} إنما تجزون ما كنتم تعملون {[الطور:16] إلى غير ذلك من النصوص.
قوله: (الوسط): اسم لما يكون متوسطًا بين شيئين):
قلنا: لا نسلم، بل ذل اسمه متوسط.
أما الوسط فاسم لما ذكرناه.
قوله: (جعلهم عدولا عند أداء الشهادة، وذلك في يوم القيامة، وذلك مما لا نزاع فيه):
قلنا: لا نسلم أن الإنسان إذا كان في الدنيا ليس بعدل يصدق عليه في الآخرة أنه عدل، بل لا يكون يوم القيامة الفاسق إلا فاسقًا، كما أنه لا يكون الكافر إلا كافرًا.
غير أن ذلك باعتبار ما مضى، كما قال الله تعالى:} إنه من يأت ربه مجرمًا {[طه:74]، فجعله يوم القيامة مجرمًا.
وهذه الآية سبقت مساق المدح، فلا يحسن فيها ما يحصل في يوم القيامة من عدم المخالفات؛ لعدم القدرة عليها حينئذ.
قوله: (الأمة معصومة يوم القيامة):
قلنا: لا نسلم؛ لأن العصمة إنما تكون في إمكان المعصية، والنهي عنها، وكلاهما متعذر يوم القيامة، فلا عصمة كما لا يصدق على المجنون والصبي أنهما معصومان، وكذلك العاجز، لعدم القدرة تارة، ولعدم النهي أخرى.
قوله: (الخطاب مع الموجودين عند الخطاب):
تقريره: أن صيغة (كنتم) تقتضي وقوع ذلك بالفعل، فيكون من باب الحكم بالمشتق، لا أنه متعلق الحكم، فلا يصدق إلا على الموجود زمن الخطاب.
قوله: (يتوقف ذلك على العلم ببقاء أعيانهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم):
قلنا: لا نسلم أنه يشترط في الإجماع وفاته عليه السلام بل يمكن اجتماع أمته في حياته، وقد تقدم بيانه في (كتاب النسخ)، ونحن نقطع بأن الصحابة أجمعت على وجوب قتال الكفار في زمانه عليه السلام والصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت إلى غير ذلك من الأحكام المجمع عليها.
قوله: (إذا تعذر حمله على ظاهره يحمل على امتناع خلو هذه الأمة عن العدول):
تقريره: إذا كان بعضهم لا يخطئ فقوله حق، وقول البقية إذا أجمعوا موافق له، فيكون الجميع حقًا، وهو المطلوب.
قوله: (دليلنا: قوله تعالى:} قال أوسطهم {[القلم:28]):
قلنا: النزاع في لفظ (وسط) لا في لفظ (أوسط).
وكذلك الجواب عن قوله عليه السلام: (خير الأمور أوسطها)، وبقية الاستشهادات.
قوله: (لا صغيرة على الإطلاق):
قلنا: لا خلاف أن المعاصي تختلف باختلاف مفاسدها، فليس قتل النفس كغصبٍ.
فليس إجماعًا، إنما امتنع هذا القائل من إطلاق لفظ الصغر على معصية الله - تعالى - استعظامًا لها.
قوله: (لا يخبر الله - تعلى - بعدالتهم إلا أن يكونوا عدولا في كل شيء، بخلاف عدول الحاكم؛ فإن الحاكم يبني على الظاهر):
قلنا: لا نسلم؛ لأن العدالة مقدار من الطاعة لا على وجه الاستيعاب، فإذا وجد صح الإخبار عنه كسائر الحقائق).
* * *