الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الرابع
قال الرازي: التمسك بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أمته لا تجتمع على خطأ)
.
والكلام هاهنا يقع في موضعين: أحدهما: إثبات متن الخبر. والثاني: كيفية الاستدلال به.
أما الأول: فللناس فيه طرق ثلاثة:
الطريق الأول: ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر؛ قالوا: لأنه نقل هذا المعني بألفاظ مختلفةٍ؛ بلغت حد التواتر:
الأول: روى عنه، عليه الصلاة والسلام: أنه قال: (أمتي لا تجتمع على خطأ).
الثاني: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن).
الثالث: (لا تجتمع أمتي على ضلالةٍ).
الرابع: (يد الله على الجماعة) رواه ابن عمر، رضي الله عنهما.
الخامس: (سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة، فأعطيتها).
السادس: (لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة) ألا وروى: (ولا على خطأ). وروى عن الحسن البصري وابن أبي ليلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخبر، وكان الحسن يقول: إذا حدثني أربعة من الصحابة تركتهم، وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:، وهذا الخبر من مراسيله.
السابع: (عليكم بالسواد الأعظم) وذلك جماعة الأمة؛ لأن كل من دونهم، فالأمة بأسرها أعظم منه.
الثامن: أبو سعيد مرفوعًا: (يد الله على الجماعة، ولا نبالي بشذوذ من شذ).
التاسع: (من خرج من الجماعة قيد شبرٍ، فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه).
العاشر: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهليةً).
الحادي عشر: أبو أمامة مرفوعًا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم).
الثاني عشر: عمران بن الحصين مرفوعًا: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلها الدجال).
الثالث عشر: قام ابن عمر في الناس خطيبًا، وقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق، حتى يأتي أمر الله).
الرابع عشر: (ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) رواه جبير بن مطعمٍ، وجابر.
الخامس عشر: (من سره أن يسكن بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد) خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب به أيضًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جماعة الصحابة، رضي الله عنهم.
السادس عشر: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق؛ لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم القيامة).
السابع عشر: ثوبان مرفوعًا: (لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله).
الثامن عشر: أنس وقوم آخرون، عنه عليه الصلاة والسلام:(ستفترق أمتي كذا وكذا فرقةً، كلها في النار إلا فرقةً واحدةً، قيل: ومن تلك الفرقة؟ قال: (هي الجماعة).
وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة على معنى واحد، وهو أن الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ، وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شيءٍ واحد، ثم إن كل واحدٍ من تلك الأخبار يرويه جمع كثير، صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر؛ من جهة المعنى.
الطريق الثاني: الاستدلال وهو من وجهين:
أحدهما: أن هذه الأخبار، لو صحت، لثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة، وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرةً على البحث عنه بأقصى الوجوه؛ أما الأولياء؛ فلتصحح هذا الأصل العظيم بها، وأما الأعداء؛ فلدفع مثل هذا الأصل العظيم.
فلو كان في متنها خلل، لاستحال ذهولهم عنه، مع شدة بحثهم عنه، وطلبهم له، فلما لم يقدر أحد على الطعن فيها، علمنا صحتها.
وثانيهما: أنه قد ظهر من التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة، وظهر منهم استدلالهم على ذلك بهذه الأخبار، والاستقراء دل على أن أمتنا
لا يجمعون على موجب خبرٍ؛ لأجل ذلك الخبر، إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر؛ فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر.
الطريق الثالث: أنا نسلم أن هذه الأخبار من باب الآحاد، وندعى الظن بصحتها، وذلك مما لا يمكن النزاع فيه، ثم نقول: إنها تدل على أن الإجماع حجة؛ فيحصل حينئذٍ ظن أن الإجماع حجة.
وإذا كان كذلك، وجب العمل به؛ لأن دفع الضرر المظنون واجب، وهذا الطريق أجود الطرق.
فنقول: أما الطريق الأول، وهو ادعاء التواتر فبعيد؛ فإنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر؛ لأن العشرين، بل الألف لا يكون متواترًا؛ لأنه ليس يستبعد في العرف إقدام عشرين إنسانًا على الكذب في واقعةٍ معينة بعباراتٍ مختلفةٍ، وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه الروايات يستحيل صدوره عن الكذب.
سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار في الجملة؛ لكنكم: إما أن تدعوا القطع بلفظها، أو بمعناها: أما القط بلفظها: فهو أن يقال: إنا، وإن جوزنا في كل واحدٍ من هذه الأحاديث أن يكون كذبًا، إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبًا، بل لابد أن يكون بعضها صحيحًا.
وأما القطع بمعناها: فهو أن يقال: إن هذه الألفاظ على اختلافها مشتركة في إفادة معنى واحدٍ، فذلك المشترك يصير مرويا بكل هذه الألفاظ؛ فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر.
فنقول: إن أردتم الأول: فهو مسلم؛ لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل
واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة، دلالة قاطعةً؛ إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب، لا على هذا الوجه، لم يحصل الغرض؛ لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحة أحد هذه الأخبار، فيحتمل أن يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالةً قاطعةً على حقية الإجماع؛ لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار، بعد فراغهم من تصحيح المتن، يتمسكون بواحد منها على التعيين؛ كقوله عليه الصلاة والسلام:(لا تجتمع أمتي على خطأ) ويبالغون فيه سؤالا وجوابًا، ومعلوم أنه باطل.
وأما إن أردتم الثاني: فنقول: ذلك المعنى المشترك بين الأخبار: إما أن يكون هو أن الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجةً:
فإن كان الأول: فقد ادعيتم أنه نقل نقلا متواترًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإجماع حجة، ومعلوم أن ذلك باطل؛ وإلا لكان العلم بكون الإجماع حجةً جاريًا مجرى العلم بغزوة بدرٍ وأحدٍ، ولما وقع الخلاف فيه.
وأيضًا: فإنا نراكم، بعد الفراغ من تصحيح متن هذه الأخبار، تتمسكون بلفظ خبر واحد، وتوردون عليه الأسئلة والأجوبة، ولو كان ذلك منقولا؛ على سبيل التواتر، لكان ذلك الاستدلال عبثًا.
وبهذا: يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة على، وسخاوة حاتم؛ بسبب الأخبار المتفرقة، وبين هذه المسألة، فإنا بعد سماع تلك الأخبار المتفرقة، لا نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة على؛ بل يحصل العلم الضروري بذلك.
أما هاهنا: فقد سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار، نفتقر إلى الاستدلال
ببعضها على هذا المطلوب؛ فعلمنا أن كون الإجماع حجةً ليس جزءًا من مفهوم هذه الألفاظ.
وإن ادعيتم أن هذه الأخبار دالة على معنىً مشتركٍ بين كلها، وذلك المعنى يقتضي كون الإجماع حجةً: فلابد من الإشارة إلى ذلك المعنى، ثم من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون الإجماع حجةً، وأنتم ما فعلتم ذلك.
فإن قلت: (القدر المشترك بين هذه الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة، وبعدها عن الخطأ، وما يجرى هذا المجرى):
قلت: تدعون التواتر في مطلق التعظيم، أو في تعظيم، ينافي إقدامهم على الخطأ في شيءٍ ما.
الأول: مسلم، ولا يفيد الغرض.
والثاني: ادعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجةً، وقد تقدم إبطاله.
وأما الطريق الثاني، وهو الاستدلال: فضعيف.
قوله: (لو كانت هذه الأحاديث ضعيفةً لطعنوا فيها):
قلت: وقد طعنوا فيها بأنها من الآحاد.
فإن قلت: (إن أحدًا من الصحابة والتابعين لم يقل: إنها من الآحاد، بل اتفقوا على أنها متواترة).
سلمنا أنهم طعنوا فيها من هذا الوجه، لكن كان يجب أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل.
قلت: الجواب عن الأول: أن النقل عن المؤمنين؛ أنهم جعلوها من باب التواتر، ثبت بالتواتر، أو بالآحاد؟
الأول: يقتضي كونها متواترةً عندنا؛ لأنه متى كان الخبر متواترًا، وصح عندكم بالتواتر كونها متواترة عندهم، لزم كونها متواترةً عندكم؛ لكنكم في هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك.
والثاني: يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد؛ لأن كونها متواترة عن الصحابة والتابعين، لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد، كانت عندنا من باب الآحاد؛ لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر في التواتر.
وعن الثاني: أن نقول: ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن يعلم فساده؛ فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار، ولا فسادها، بل ظنوا صحتها؛ فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل.
وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو قوله: (الصحابة والتابعون أجمعوا على صحة الإجماع، وإنما أجمعوا على صحته لهذه الأخبار، وعادة أمتنا أنهم لا يجمعون على موجب خبرٍ؛ لأجل ذلك الخبر إلا وكان الخبر مقطوعًا به):
قلنا: المقدمات الثلاثة ممنوعة؛ فلا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على صحة الإجماع.
سلمناه، لكن لا نسلم أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار، بل إنما قالوا به لأجل الآيات.
فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين، كان ذلك مكابرةً؛ فإن تلك الأخبار
أظهر بكثيرٍ من ادعاء هذين المقامين، ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار، فلأن لا يجوز ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى.
سلمنا هما، لكن لا نسلم أن عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على موجب خبر؛ لأجل ذلك الخبر، إلا وقد قطعوا بصحته؛ ألا ترى أن الصحابة أجمعوا على حكم المجوس؛ بخبر عبد الرحمن، وأجمعوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها، ولا خالتها؛ بخبر واحد؟!. وبالجملة: فهم مطالبون بالدلالة على هذه العادة التي ادعوها.
فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه، وثبت أن الصحيح هو الطريق الثالث؛ وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد؛ وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها، بل كل واحد منها يكفي في الاستدلال.
المقام الثاني: في كيفية الاستدلال: التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على خطأ) فإن قيل: إن كان المراد بقوله: (أمتي) - كل من يؤمن به إلى يوم القيامة، خرج الإجماع عن كونه حجةً.
وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول ذلك الخبر، دل ذلك على أن إجماعهم حجة؛ لكنا إنما نعرف إجماعهم، إذا عرفناهم بأعيانهم، وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك غير معلومٍ؛ فحينئذٍ يخرج الإجماع عن كونه حجةً.
سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر؛ لكن لم قلت: إن هذه اللفظة تدل على نفي الخطأ عنهم؟ لاحتمال أن قوله: (لا تجتمع أمتي على خطأٍ) جاء بسكون
العين؛ على أن يكون ذلك نهيًا منه صلى الله عليه وسلم لأمته عن أن يجتمعوا على خطأٍ، فاشتبه ذلك على الراوي، فنقله مرفوعًا؛ على أن يكون خبرًا.
سلمنا كونه خبرًا؛ لكن لم قلت: إنه يدل على نفي الخطأ بأسره عنهم، ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم؟!
وإذا كان كذلك، فإما أن نحمله على نفي السهو، أو نفي الكفر؛ جمعًا بينه وبين الحديث المروى في هذا الباب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(أمتي لا تجتمع على ضلالة).
سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم وأفعالهم؛ فلم لا تجوز مخالفتهم؟ فإن المجتهد قد يكون مصيبًا، مع أن المجتهد الآخر يكون متمكنًا من مخالفته.
والجواب: أما السؤال الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وقوله: (ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن). وقوله: (من فارق الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه).
قوله: (لعل هذا الحديث ورد على صيغة النهي):
قلنا: عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك الرواية، ومطلوبنا هاهنا الظن، وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد باب الاستدلال بأكثر النصوص.
ثم أنه مدفوع بسائر الأحاديث، وأما أن النكرة في النفي تعم، فقد تقدم بيانه في باب العموم.
قوله: (نحمله على نفي السهو):
قلنا: اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع، فلا يمكن ذكره في معرض التعظيم، ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك فضيلة.
قوله: (نحمله على نفي الكفر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة):
قلنا: كل حديث مستقل بنفسه، ولأن الضلال لا يقتضي الكفر؛ قال الله تعالى:} ووجدك ضالا فهدى {[الضحى:7] وقال:} فغلتها إذن وأنا من الضالين {[الشعراء: 20].
قوله: (هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم؛ فلم لا تجوز مخالفتهم)؟
قلت: لأن الأمة على قولين: منهم من قال: إن الإجماع حجة؛ لا تجوز مخالفته.
ومنهم من قال: إنه ليس بحجة، فلو قلنا: إنه حجة، تجوز مخالفتها، لكان قولا خارجًا عن أقوال الأمة، فلو كان الحق، ذلك لكانت الأمة متفقين على الخطأ، وذلك باطل بالحديث.
المسلك الرابع
(فائدة)
الربقة
قال القرافي: قال صاحب (المجمل): الربقة: قلادة كالخيط.
قوله في الطريق الثالث: (الناس يتمسكون بواحد من هذه الأخبار على التعيين) كقوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأٍ)، ويبالغون فيه سؤالا وجوابًا، ومعلوم أنه لا يفيد القطع).
قلنا: قد تقدم كلام التبريزي في المسلك الأول - أن معنى تمسك العلماء في هذه المسائل القطعية بالظاهر الواحد أن المقصود به دلالته بقيد ما يضاف إليه من السنة والكتاب، وقرائن الأحوال الحالية، والمقالية، فهو مقيد بقيد يقبل القطع معه.
وكذلك القول في كل ظاهرٍ، المراد به ما هو معه من العواضد والمبهمات، وليس المقصود الاقتصار عليه وحده.
فهذا هو المحسن لتمسك العلماء بالظواهر في الأدلة القطعية، وهو جواب سعيد سديد.