الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
قال الرازي: أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة؛ بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم
، ومتى كان كذلك، كان الإجماع حجةً.
بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين:
الأول: أنه لابد من الإمام؛ والدليل عليه: أن الإمام لطف، وكل لطف واجب، فالإمام واجب، وإنما قلنا: إن الإمام لطف؛ لأنا نعلم أن الخلق، إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح، ويحثهم على الواجبات، كان حالهم في الإتيان بالواجب، والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم، إذا لم يكن لهم هذا الرئيس، والعلم بذلك بعد استقراء العادة ضروري.
وإنما قلنا: إن اللطف واجب؛ لوجهين:
الأول: أن اللطف كالتمكين؛ في كونه إزاحةً لعذر المكلف، فإذا كان التمكين واجبًا، فكذا اللطف، إنما قلنا: إن اللطف كالتمكين؛ لأنه يثبت في الشاهد أن أحدنا، إذا دعا غيره إلى طعام، وكان غرضه نفع ذلك الغير، وبقي على ذلك الغرض إلى وقت التناول ولم يبدله، وعلم أنه متى تواضع له، فغنه يتناول طعامه، ومتى لم يفعل ذلك، لم يتناوله، فإن تركه التواضع في هذه الحال، يجرى مجرى رد الباب عليه، والعلم به ضروري.
الثاني: أن المكلف، لو لم يجب عليه فعل اللطف، لم يقبح منه فعل المفسدة أيضًا؛ لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده القبيح، وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب.
فثبت أن اللطف واجب، وثبت أنه لابد في زمان التكليف من الإمام.
الثاني: أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصومًا، والدليل عليه أنه إنما احتاج الخلق إلى الإمام؛ لصحة القبيح عليهم، فلو تحققت هذه الصحة في الإمام، لافتقر الإمام إلى إمامٍ آخر، ولزم التسلسل، وهو محال.
فثبت أنه يجب أن يكون معصومًا، وثبت أنه لابد في زمان التكليف من إمام معصومٍ، وإذا ثبت هذا، وجب كون الإجماع حجةً؛ لأنه مهما اتفق العلماء على حكمٍ، فلابد، وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم؛ لأنه أحد العلماء، بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا لكل الأمة، وقول المعصوم حق، فإذن: إجماع الأمة يكشف عن قول المعصوم الذي هو حق؛ فلا جرم؛ قلنا: الإجماع حجة.
والسؤال عليه: أنا لا نسلم أنه لابد من إمامٍ، ولا نسلم أنه لفظ، ولا نسلم أن الخلق، إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح، ويحثهم على الطاعات، كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس.
بيانه: أنكم تزعمون أن الله عز وجل ما أخلى العالم قط من رئيسٍ، فقولكم:(وجدنا، متى خلا عن الرئيس، حصلت المفاسد) باطل؛ لأنكم إذا لم تجدوا العالم خاليًا عنه قط، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنا وجدنا العالم، متى خلا عن الإمام، حصلت المفاسد؟ بل الذي جربناه أنه متى كان الإمام في الخوف والتقية، حصلت المفاسد؛ لكنكم لا توجبون ظهوره وقوته، فالذي
تريدونه من أن ظهور المفسدة عند عدمه أزيد مما وجدتموه عند خوفه وتستره - شيء ما جربتموه، والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه، فأنتم لا تقولون به؛ فظهر فساد قولكم.
سلمنا إمكان هذه التجربة؛ لكنا نقول: تدعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس - كيف كان - أو بوجود الرئيس القاهر؟
الأول ممنوع؛ فلابد من الدلالة، واستقراء العرف لا يشهد لهم ألبتة؛ لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر، فأما السلطان الضعيف، فلا، بل الشخص الذي لا يرى، ولا يعرف، ولا يظهر منه في الدنيا أثر، ولا خبر، فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن القبائح، ولا رغبة في الطاعات؛ فلم قلتم: إن مثل هذا الإمام يكون لطفًا؟.
وإن أردتم الثاني، فهو مسلم؛ لكنكم لا توجبونه.
فالحاصل: أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفًا، أنتم لا توجبونه، والذي توجبونه، لا يعرف بالاستقراء كونه لطفًا.
فإن قلت: نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام، فأما البحث عن كيفية، فذاك يتعلق بالفضل، ونحن الآن لا نتكلم فيه.
ثم السبب في تستره ظاهر، وهو أن الإمام، لو أزيل عنه الخوف، لظهر، ولزجر الناس عن القبائح، ورغبهم في الطاعات، فحيث أخافوه، كان الذنب من قبلهم.
قلت: إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام، كيف كان، سواء كان ظاهرًا، أو
مخفيًا، ودللتم على وجوبه بكونه لطفًا، ودللتم على كونه لطفًا بتفاوت حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي، فلابد من إثبات هذه المقدمة عند وجود الإمام؛ كيف كان الإمام حتى يمكن الاستدلال به على وجود الإمام، كيف كان ونحن نمنع ذلك؛ فإن تمسكتم باستقراء أحوال العالم:
قلنا: ذلك التفاوت إنما يحصل من الإمام القاهر، وأنت محتاج إلى بيان حصول التفاوت من وجود الإمام، كيف كان، فما لم تشتغلوا بإثبات هذه المقدمة، لا يتم دليلكم، فأي نفعٍ لكن هاهنا في أن تذكروا السبب في غيبته وخوفه؟
سلمنا: أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق، من الوجه الذي ذكرتموه، لكنه متى يجب نصبه؟! إذا خلال عن جميع جهات القبح، أو إذا لم يخل؟
الأول: مسلم؛ ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع جهات المفسدة، وأنتم ما فعلتم ذلك.
والثاني: ممنوع؛ لأن بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز نصبه؛ لأنه يكفي في كون الشيء قبيحًا اشتماله على جهة من جهات القبح، ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهةٍ واحدةٍ من جهات الحسن، ما لم يعرف انفكاكه عن كل جهات القبح.
فإن قلت: ما ذكرته مدفوع من أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفًا بما ذكرته، جاز القدح في كون معرفة الله تعالى لطفًا بذلك؛ لأن الذي يمكننا في بيان أن معرفة الله تعالى لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات، والاحتراز عن القبائح العقلية.
فأما بيان خلوها عن جميع جهات القبح، فمما لم يوجبه أحد، فلو قدح هذا في كون الإمامة لطفًا، لقدح في كون معرفة الله تعالى لطفًا.
وثانيها: أن ما ذكرته يفضي إلى تعذر القطع بوجوب شيء على الله تعالى؛ لكونه لطفًا؛ لأنه لا شيء يدعى كونه لطفًا إلا، والاحتمال المذكور قائم فيه.
وثالثها: أنه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبحٍ، وما لا دليل عليه، وجب نفيه.
ورابعها: أن جهات القبح محصورة، وهي: كون الفعل كذبًا، وظلمًا، وجهلا، وغيرها من الجهات، وهي بأسرها زائلة عن الإمامة؛ فوجب القطع بنفي اشتمالها على جهةٍ من جهات القبح.
قلنا: أما الأول فغير لازمٍ؛ لأن هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة، إن كان بعينه قائمًا في المعرفة من غير فرقٍ، وجب الجواب عنه في الموضعين، ولا يلزم من تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه من غير جوابٍ.
وإن حصل الفرق بين الصورتين، بطل ما ذكرتموه.
ثم إن الفرق أن معرفة الله، عز وجلن من الألطاف التي يجب علينا فعلها، فإذا علمنا اشتمال المعرفة على جهة مصلحة، ولم نعلم اشتمالها على جهة مفسدة، غلب على ظننا كونها لطفًا، والظن في حقنًا قائم مقام العلم، في اقتضاء العمل؛ فإنه كما يقبح الجلوس تحت الجدار المائل الذي يعلم سقوطه، كذلك يقبح إذا ظن ذلك؛ فلا جرم وجب علينا فعل المعرفة.
أما الإمامة: فهي من الألطاف التي توجبونها على الله عز وجل ولا يكفي
في الإيجاب على الله تعالى ظن كونها لطفًا؛ لأنه، عز وجل، عالم بجميع المعلومات، فما لم يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح لا يمكن إيجابه على الله، عز وجل، فظهر الفرق.
وعن الثاني: أنا لا نقول في فعلٍ معينٍ: إنه لطف، فيكون واجبًا على الله، عز وجل؛ لأن الاحتمال المذكور قائم فيه؛ بل نقول: الذي يكون لطفًا في نفسه، فإنه يجب فعله على الله عز وجل وذلك لا يقدح فيه الاحتمال المذكور.
وعن الثالث: أن نقول: ما المراد من قولك: (ما لا دليل عليه، وجب نفيه)؟.
إن عنيت به: أن ما لا يعلم عليه دليل، وجب نفيه، فهذا باطل؛ وإلا وجب على العوام نفي أكثر الأشياء؛ لعدم علمهم بأدلتها، وإن عنيت: أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس الأمر، وجب نفيه، فهذا أيضًا ممنوع، وبتقدير التسليم؛ لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل، فعله وجد، وأنتم لا تعلمونه!!
فإن قلت: (سبرت، وبحثت؛ فما وجدت):
قلت: أقم الدلالة على أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود.
وعن الرابع: أن صوم أول يوم من شوالٍ لم يشتمل على كونه ظلمًا، وجهلا، وكذبًا، مع أنه قبيح، فجوز هاهنا مثله، وبالجملة، فالتقسيم الذي يكون حجةً هو المنحصر، أما غيره فلا.
سلمنا أنه لابد في القدح في كونه لطفًا، من تعيين جهة المفسدة؛ لكن هاهنا جهتان:
إحداهما: أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف تاركًا للقبيح، لا لكونه قبيحًا؛
بل للخوف من الإمام، وأما عند عدم الإمام، فالمكلف إنما يتركه؛ لقبحه، لا للخوف من الإمام.
فإن قلت: هذا باطل بترتب العقاب على فعل القبيح؛ فإنه يقتضي أن يكون المكلف تاركًا للقبيح، لا لقبحه، بل للخوف من العقاب.
قلت: أنا سائل، فيكفيني أن أقول: لم لا يجوز أن تكون هذه الجهة مفسدةً مانعةً؟ وعليك الدلالة على أنها ليست كذلك.
ولا يلزم من قولنا: (ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة) أن يكون نصب الإمام غير مقتضٍ لها؛ لاحتمال أن يكون حال كل واحدةٍ منهما بخلاف حال الآخر.
والذي يحقق ذلك أن ترتيب العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا بالشرع، فقبل ورود الشرع يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة، فلما ورد الشرع به، علمنا أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة؛ لأن الشرع لا يأتي بالمفسدة، فنظيره في مسألتنا أن تقولوا: يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدةً من هذه الجهة، فلما ورد الشرع به، علمنا أنه لم يكن مفسدةً من هذه الجهة؛ لكن على هذا التقدير يصير وجوب الإمامة شرعيا.
وثانيهما: أن يقال: فعل الطاعة، وترك المعصية عند عدم الإمام أشق منهما عند وجوده، فيكون نصب الإمام سببًا لنقصان الثواب من هذا الوجه، وبتقدير هذا الاحتمال، فلا نسلم أنه يحسن نصب الإمام، فضلا عن وجوبه.
سلمنا أن الإمام لطف؛ لكن في كل الأزمنة، أو في بعشها؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم.
بيانه: أن من الجائز أن يتفق في بعض الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن طاعة الغير، ويعلم الله تعالى منهم أنه متى نصب لهم رئيسًا، قصدوه بالقتل، وإثارة الفتن العظيمة، وإذا لم ينصب لهم رئيسًا، فإنهم لا يقدمون على القبائح، ولا يتركون الواجبات، فيكون نصب الرئيس في ذلك الوقت مفسدةً، ثم هذا، وإن كان نادرًا، إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك الزمان النادر؛ وحينئذٍ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شيءٍ من الأزمنة.
فإن قلت: هذا مدفوع من وجهين:
الأول: أن الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين، وليس الكلام الآن فيه، بل في مطلق الرئيس.
الثاني: أن هذه مفسدة نادرة، والمفاسد الحاصلة عند عدم الإمام غالبة، وإذا تعارض الغالب والنادر، كان الغالب أولى بالدفع.
قلت: الجواب عن الأول: أنه كما يتفق الاستنكاف عن طاعة رئيسٍ معين، فقد يتفق الاستنكاف عن طاعة مطلق الرئيس، وأيضًا: فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن طاعة الرئيس المعين، فيكون نصب ذلك المعين مفسدةً، ثم إذا لم يمكن تحصيل المطلق، إلا في ذلك المعين، كما هو قولكم في الإمامة في أشخاص معينين، كان ذلك المطلق أيضًا مفسدةً.
وعن الثاني: هب أن الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر، إلا أن كل زمانٍ، لما احتمل أن يكون هو ذلك النادر، لم يمكنا القطع بوجوب نصبه في شيءٍ من الأزمنة.
سلمنا أن الإمامة لطف في كل الأزمنة؛ لكنها لطف يقوم غيرها مقامها، أو لا يقوم؟
الأول: مسلم؛ ولكن لما قام غيرها مقامها، لم يمكن الجزم بوجوبها على التعين.
والثاني ممنوع، فلابد من الدلالة عليه.
ثم إنا نبين إمكان البدل على الإجمال؛ تبرعًا؛ فنقول: إنكم توجبون عصمة الإمام، وليست عصمة الإمام بإمامٍ آخر معصومٍ، وإلا وقع التسلسل.
فإذن: له شيء سوى الإمام وقع لطفًا في الاحتراز عن القبائح، وأداء الواجبات.
وإذا ثبت ذلك في الجملة، فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم مقام الإمام؟ وحينئذٍ لا يكون نصب الإمام واجبًا عينًا.
سلمنا كون الإمام لطفًا على التعين؛ لكن في المصالح الدنيوية، أو الدينية؟
الأول مسلم، والثاني ممنوع.
بيانه: أن ما ذكرتموه من منفعة وجود الإمام ليس إلا في حصول نظام العالم، واندفاع الهرج والمرج، وذلك كله مصلحة دنيوية، وتحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب على الله تعالى، فما يكون لطفًا فيه أولى ألا يجب.
أو في إقامة الصلوات، وأخذ الزكوات، وذلك كله مصالح شرعية، فما يكون لطفًا فيه، لا يجب وجوده عقلا، وإن ادعيتم كونه لطفًا في شيءٍ آخر وراء ذلك، فهو ممنوع.
فإن قلت: الإمام لطف في المصالح الدينية العقلية؛ لأنه إذا زجرهم عن القبائح، وأمرهم بالواجبات العقلية مرةً بعد أخرى، تمرنت نفوسهم عليها، وإذا تمرنت نفوسهم عليها، تركوا القبائح؛ لقبحها، وأتوا بالواجبات؛ لوجه وجوبها، وذلك مصلحة دينية.
قلت: لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في هذا المعنى؛ فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب؛ على ما ذكرتموه، وربما صارت بالضد من ذلك؛ لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم، وعاندته نفوسهم، ازدادت المفسدة، وربما أقدموا على الأفعال والتروك؛ لمحض الخوف منه.
وبالجملة: فالتفاوت الحاصل في أحوال الخلق، إنما يظهر فيما عددناه من المصالح الدنيوية، أو فيما عددناه من المصالح الشرعية.
فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية العقلية فهذا التفاوت ممنوع فيه، فإن الاحتمالات متعارضة فيها.
سلمنا أنه لفظ؛ فلم قلت: إن كل لطف واجب؟
قوله في الوجه الأول: (فعل اللطف جار مجرى التمكين):
قلنا: هذا قياس، وقد بينا أنه لا يفيد اليقين، ثم نقول: لا نسلم أن فعل اللطف جارٍ مجرى التمكين.
قوله: (من قدم الطعام إلى إنسان، وأراد منه تناوله .....) إلى آخره:
قلنا: لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة على الإطلاق.
بيانه: أن الإرادات مختلفة، فقد يريد الإنسان من غيره أن يتناول طعامه إرادةً في الغاية، حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف لا يتناول طعامه إلا عند فعله.
وقد تكون الإرادة لا إلى ذلك الحد؛ كمن يقول: (أريد أن تأكل طعامي؛ لكن لا إلى حيث إنك لو لم تأكل طعامي، إلا عند تقبيلي رجلك، فعلته، بل إرادةً دون ذلك).
إذا ثبت هذا، فنقول: إلاراد: إن كانت على الوجه الأول، كان ترك التواضع قادحًا في تحققها؛ لكن لو كانت على الوجه الثاني، لم يلزم من عدم التواضع عدمها.
إذا ثبت هذا، فتقول: لم قلت: إن الله، عز وجل، أراد من المكلفين فعل الطاعات، والاجتناب عن القبائح إرادةً على الوجه؛ حتى يلزمه فعل اللطف؟.
بيانه: أن التكليف تفضل وإحسان، والمتفضل لا يجب عليه أن يأتي بجميع مراتب التفضل.
قوله في الوجه الثاني: (إن ترك اللطف كفعل المفسدة).
قلنا: إنه قياس؛ فلا يفيد اليقين؛ لاحتمال أن ما به وقع التغاير يكون شرطًا، أو مانعًا.
ثم نقول: الفرق أن فعل المفسدة إضرار، وترك اللطف ترك للإنفاع، وليس يلزم من قبح الإضرار قبح ترك الإنفاع؛ فإنه يقبح منا الإضرار بالغير، ولا يقبح ترك إنفاعه.
سلمنا أنه يجب فعل اللطف؛ لكن يجب فعل اللطف المحصل، أو فعل اللطف المقرب؟.
الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ فلم قلتم: إن الإمام لطف محصل؟.
بيانه: أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود الإمام يقدم الإنسان على الطاعة، ويحترز عن المعصية لا محالة؛ بل الذي يمكن ادعاؤه: أن الإنسان عند وجود الإمام يكون أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية؛ فيكون الإمام لطفًا مقربًا.
وإذا كان كذلك؛ فلم قلت بوجوبه على الله تعالى؟ وخرج على هذه المسألة مسألة الضيف؛ فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف، إذا علم أنه لو تواضع له، لأجابه إلى المقصود، أو ظن ذلك؟ فأما إذا علم قطعًا أنه لا يجيب به إليه، فلا نسلم أنه يحسن منه فعل ذلك التواضع، فضلا عن الوجوب.
وعلى هذا: لا يبعد أن يوجد زمان علم الله أن نصب الإمام في ذلك الزمان لا يكون لهم لطفًا محصلا؛ فلم قلت: يجب على الله عز وجل نصب الإمام في ذلك الزمان؟.
سلمنا أن اللطف واجب مطلقًا؛ لكن متى؟ إذا أمكن فعله، أو إذا لم يمكن؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع.
بيانه: إذا علم الله، عز وجل، أن كل من خلقه في ذلك الزمان، فإنه يكون كافرًا؛ أو فاسقًا، فحينئذ لا يكون خلق المعصوم في ذلك الزمان مقدورًا له، وإذا كان كذلك، فلم قلت:(إنه لا يحسن التكليف في هذه الحالة) وإذا حسن هذا التكليف، جوزنا في كل زمانٍ أن يكون هو ذلك الزمان؛ فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في شيءٍ من الأزمنة.
وخرج عليه مسألة الضيف؛ فإن هناك إنما يجب عليه التواضع، إذا كان ذلك التواضع مقدورًا له، فأما إذا لم يكن مقدورًا له، لم يتوقف التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع، بل حسن ذلك الالتماس بدون التواضع.
سلمنا كل ما ذكرتموه؛ ولكنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين، وإنه باطل؛ على ما ثبت في الكتب الكلامية، فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب.
ثم نقول: دليلكم منقوض بصورٍ:
إحداها: أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش معصومين، لكان حال الخلق في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا لم يكن كذلك.
وثانيتها: أنه لو وجد في كل بلدٍ إمام معصوم.
وثالثتها: لو كان الإمام عالمًا بالغيوب، وقادرًا على التصرف في الشرق والغرب، والسماء والأرض.
ورابعتها: لو كان بحيث لو شاء، لاختفى عن الأعين، ولطار مع الملائكة، فإن خوف المكلفين هاهنا يشتد منه؛ لأن كل أحدٍ يقول:(لعله معي، وإن كنت لا أراه) فكان انزجاره عن القبيح أشد.
ولا خلاص عن هذه الإلزامات، إلا بأحد أمرين:
الأول: أن يقال: إن هذه الأشياء، وإن حصلت فيها هذه المنافع، لكن علم الله - تعالى - فيها وجه مفسدةٍ، لا نعلمه نحن؛ ولذلك لم يجب على الله تعالى فعلها.
الثاني: أن يقال: إنها، وإن كانت خاليةً عن جميع جهات المفسدة، لكن لا يجب على الله تعالى فعلها، ثم إن كل واحدٍ من هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه؛ فيبطل به أصل دليلهم.
سلمنا أنه لابد من الإمام؛ فلم قلت: إنه معصوم؟.
قوله: (ولو لم يكن معصومًا، لافتقر إلى لطفٍ آخر).
قلنا: نعم؛ لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة؟.
فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجةٌ، نجوز كونه حجةً، وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام؛ لأنهم هم المستدلون؛ فيكفينا أن نقول: لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفًا لكل واحدٍ من آحاد الأمة، ويكون مجموع الأمة لطفًا للإمام؟ فعليهم إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة معصومًا.
ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الإجماع حجة.
سلمنا كونه معصومًا؛ فلم قلت: إن الإجماع يشتمل على قوله؟
وتقريره ما بيناه في أول الباب: أن العلم باتفاق كل الناس بحيث يقطع بأنه لم يشذ واحد منهم في الشرق والغرب - متعذر لا سبيل إليه.
سلمنا وجود قوله؛ لكن لا نسلم أن قوله صواب؛ لأن عندهم يجوز أن يفتي الإمام بالكفر، والبدعة؛ على سبيل التقية والخوف، ويحلف بالله تعالى، والأيمان التي لا مخرج منها: أن الأمر كذلك، وإذا كان كذلك، فلعله لما رأي أهل العالم متفقين على ذلك القول، خاف من مخالفتهم، فأظهر الموافقة على ذلك الباطل.
كيف، وعندهم: قد أظهر علي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنه، مع جميع رهط الهاشميين، والأمويين، والأنصار التقية؛ خوفًا من أبي بكرٍ، ومن عمر، رضي الله عنهما، مع قلة أنصارهما، وأعوانهما، فإذا جاز الخوف، والتقية في هذه الصورة، فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم على الباطل؟
سلمنا أنه أفتى به عن اعتقاد؛ فلم لا يجوز أن يكون ذلك خطأ من باب الصغائر، وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة الدلالة على أنه لا تجوز الصغيرة على الأئمة، فإن عولوا فيه على حديث التنفير فهو ضعيف؛ لأن العجز الشديد، والفتوى بالكفر، والفسق، وإباحة الدماء، والفروج، مع الأيمان الغليظة - أدخل في باب التنفير من وقوع الصغيرة، فإذا جاز ألا يكون منزهًا عنه؛ فلم لا يجوز أن يكون منزهًا عن الصغيرة؟
فهذا ما على هذه الطريقة من الاعتراضات، ومن أحاط بها، تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفروعًا؛ لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة، ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع، والله أعلم.
المسألة الرابعة
قال القرافي: قوله: (لا فرق في العقل بين عدم فعل اللطف وبين فعل المفسدة).
قلنا: لا نسلم، بل العقلاء أجمعون يفرقون بين من لم يعطهم ماله وبين من سبهم فإنهم لا يتأذون من الأول، ويتأذون من الثاني.
قوله: (يكفي في قبح الفعل اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح):
قلنا: لا نسلم، بل القبح لا يثبت إلا للمفسدة الخالصة، أو الراجحة.
أما المفسدة المرجوحة فلا، وكذلك الجهاد ليس بقبيح مع اشتماله على مفسدة ذهاب النفوس والأموال، وأذيته للأولياء، وشماتة الأعداء على تقدير الموت، وعدم النصر، ونظائره كثيرة، بل الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين.
والصوم فيه ترك اللذات، وغير ذلك من النظائر مما لا يحصي كثرةً.
* * *