الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام في الناسخ والمنسوخ
وهو مرتب على أقسام
القسم الأول
في حقيقة النسخ، وفيه مسائل
المسألة الأولى: النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء، وقال القفال: إنه للنقل والتحويل.
لنا: أنه يقال: نسخت الريح آثار القوم، إذا أعدمتها، ونسخت الشمس الظل، إذا أعدمته؛ لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر، فيظن أنه انتقل إليه، والأصل في الكلام الحقيقة، وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألا يكون حقيقة في النقل؛ دفعًا للإشتراك.
فإن قيل: وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز؛ لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى، وإذا كان ذلك مجازًا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله.
ثم نعارض ما ذكرتموه، ونقول: بل النسخ هو النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر، كأنك تنقله إليه، أو تنقل حكايته، ومنه تناسخ، وتناسخ القرون قرنًا بعد قرن.
وتناسخ المواريث، إنما هو: التحويل من واحد إلى آخر، بدلًا عن الأول؛ فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل، ويلزم ألا يكون حقيقة في الإزالة؛ دفعًا للإشتراك، وعليكم الترجيح.
والجواب عن الأول، من وجهين:
أحدهما: أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة، ويكونان أيضًا ناسخين؛ لكونهما مختصين بذلك التأثير.
وثانيهما: أن أهل اللغة، إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فهب أنه كذلك، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة، لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس.
وعن الثاني: أن النقل أخص من الزوال؛ لأنه حيث وجد النقل، فقد عدمت صفة، وحصلت صفة أخرى، فإذن: مطلق العدم أعم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر؛ وإذا دار اللفظ بين العام والخاص، كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في خاص، على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات، والله أعلم.
الكلام في الناسخ والمنسوخ
قال القرافي: قال صاحب (المجمل) في اللغة: إذا أزال الشيء الشيء فقد نسخه، ونسخت الشمس الظل، والمشيب الشباب، وتناسخ المواريث، إذا مات وارث بعد وارث قبل القسم، وتناسخ القرون.
وقال أبو حاتم: النسخ: أن يحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى، ومنه نسخ الكتاب.
قوله: " وقيل: إنه الإبطال، نسخت الشمس الظل، إذا عدم؛ لأنه قد لا يحصل في موضع آخر ".
تقريره: أن الشمس، متى كانت على سمت الرءوس، فإن الشمس إذا انت عند الزوال، تبطل الظل بالكلية، وتكسوا ضم الشمس القائم، وهذا يتعذر بأرض " مصر " لأن عرضها يكون أكثر من الميل الأعظم، وإنما يتأتى ذلك في بلد عرضه أقل من الميل كـ " الحجاز " بـ " مكة " إحدى وعشرون درجة، وعرض " قبرص " خمسة وعشرون، فلا يتأتى ذلك بها، بل فيما هو جنوبي عنها يومين، وما عدا ذلك، فلا يعدم الظل ألبتة في الفصول الأربعة، بل لابد من بقاء جزء منه عند الزوال.
قوله: " المزيل لآثار القوم هو الله تعالى فإضافته للريح مجاز ".
قلنا: العرب لم تخص وضعها بالمؤثر الحقيقي، بل لما هو أعم، فيكون حقيقة في الفاعل الحقيقي نحو خلق الله تعالى، وفي المؤثر العادي؛ نحو: أحرقته النار، وقتله السم، وأرواه الماء، وأشبعه الخبز، وإلى ما ليس بمؤثر ألبتة؛ نحو: سقط الحائط، وبرد الماء، ومات زيد، ولا خلاف أن هذه الألفاظ حقائق، فحينئذ الوضع ليس خاصا بالمؤثر، فقولهم:" نسخت الريح آثار القوم " حقيقة لغوية، وإن كان الله تعالى هو المؤثر؛ من حيث الفعل والواقع في نفس الأمر.
قوله: " النسخ هو التحويل، ومنه نسخ الكتاب ".
قلنا: لا نسلم أن ما في الكتاب حول؛ بل عمل مثله، وعمل مثل الشيء ليس تحويلا له؛ لخلاف تحويل الحجر من مكان إلى مكان، فتعين أن يكون نسخ الكتاب مجازا.
(فائده)
رأيت في شرح المقامات أن بعض الفضلاء بعث بناسخ إلى صديق له، ومعه رقعة فيها مكتوب:" قد بعث إليك بناسخ، وأعرفك بصفته: أنه غن نسخ، مسخ، وإن نقط، غلط، وإن أشكل، أشكل، ولقد أمليته زيدا، فسمع عمرا، وكتب خالدا، وقرأ عبد الله ".
وقال في شرح المقامات: " نسخ " إذا نقل اللفظ والمعنى، و " سلخ " إذا نقل المعنى دون اللفظ، و" مسخ " إذا افسد اللفظ والمعنى. قوله:" ومنه تناسخ القرون ".
قلنا: ليس في القرون تحويل، إنما كل قرن يتقدم مانه، ويحدث قرن آخر في زمان آخر، وليس القرن الأول يوجد في زمان القرن الثاني، فلا تحويل حينئذ، إنما هو من مجاز التشبيه، لما أشبه القرن الثاني الأول من حيث الجملة، عد كأنه تحول في الزمان الثاني حقيقة؛ بخلاف تناسخ المواريث؛ فإن الحق ينتقل من وارث إلى وارث.
قوله: " لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ من حيث فعل الشمس والريح المؤثر في تلك الإزالة ".
قلنا: إطلاق التأثير على فاعل المثر، وجعله مثرا بذلك مجاز، ومذهب أهل الحق أن الله تعالى هو الخالق لجميع الآثار الصادرة في الوجود عن الشمس وغيرها بقدرته من غير واسطة، والذي قلمتموه إنما يأتي على طريق الفلاسفة القائلين بأن أجرام الكواكب أثرت، والله تعالى هو خالقها فقط