الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
قال الرازي: في شرائط التواتر
اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها- باضطرار- الحجة علينا فيها هو العلم، ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين، بل يجب أن يعتبر السامع حال نفسه، فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار، صار محجوبا بها، وإلا فالحجة عنه زائلة، ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم، صح أن نبحث عن أحوالهم، فنقول: لو لم يكونوا على هذه الصفة لما، وقع لنا العلم بخبرهم.
واعلم أن هاهنا أمورا معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم، وأمورا ظن أنها معتبرة، مع أنها في الحقيقة غير معتبرة:
أما القسم الأول: فنقول: إن تلك الأمور: إما أن تكون راجعة إلى السامعين، أو إلى المخبرين: أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران:
الأول: ألا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال، وتحصيل التقوية أيضا محال؛ لأن العلم الضروري أيضا يستحيل أن يصير أقوى مما كان.
مثاله: إذا كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات، لا يجتمعان، ولا يرتفعان- لم يكن للأخبار عنه أثير في العلم به.
والثاني: قال الشريف المرتضى: يجب ألا يكون السامع قد سيق بشبهة، أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر، وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف؛ لأن
عنده الخبر عن النص على إمامة على، رضي الله عنه، متواتر، ثم لم يحصل العلم به لبعض السامعين، فقال ذلك؛ لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة.
واحتج عليه بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر: إذا كان بالعادة، جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال، فيحصل للسامع، إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك الحكم، ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك.
فإن قلت: يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبار، والحوادث العظام بالأخبار المتواترة؛ لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء.
قلت: إنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور، ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا.
أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران:
الأول: أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه؛ لأن غير الضروري يجوز دخول الالتباس فيه؛ فلا جرم لا يحصل العلم به، ولذلك فإن المسلمين يخبرون اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحصل لهم العلم بها.
الثاني: العدد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي أبو بكر: اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا، وأتوقف في قول الخمسة.
واحتج عليه: بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين، لوقع بخبر كل أربعة صادقين؛ وهذا باطل؛ فذاك مثله.
بيان الملازمة: أنه لو وقع العلم بقول أربعة، ولا يقع بقول مثلهم، مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط، لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها، ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود المدينة، فلا نعرفها، ولما لم يجز ذلك، صح قولنا.
وإنما قلنا: (إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة) لأنه لو وقع العلم بخبر كل أربعة، إذا كانوا صادقين، لكان يجب إذا شهد أربعة أنهم شاهدوا فلانا على الزنا- أن يستغنى القاضي عن التزكية؛ لأنهم إذا كانوا صادقين، وجب أن يحصل له العلم بقولهم؛ وحينئذ يستغنى عن التزكية.
وإن لم يحصل له العلم بقولهم، قطع بكونهم كاذبين قطعا، وحينئذ يستغنى أيضا عن التزكية، ولما لم يكن كذلك، بل أجمعوا على وجوب إقامة الحد، وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم، علمنا أن العلم لا يحصل بخبر الأربعة.
فإن قيل: الملازمة ممنوعة.
قوله: (لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين، ولا يقع بخبر أربعة صادقين آخرين، لزم كذا وكذا
…
).
قلنا: لم قلت: إنه يلزم ذلك؟
بيانه: أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم؛ وإذا كان كذلك، جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة، ولا بخلقه عند خبر أربعة أخرى، ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة، وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة، كما أن التكرار
على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة المطردة وأما تكراره مرتين أو ثلاثا، فقد يكون سببا لحفظه، وقد لا يكون، والعادة فيه مختلفة.
سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شيء اطرادها في مثله؛ فلم قلت: يلزم من حصوله العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة أربعة؟
بيانه: أن الشهادة، وإن كانت خبرا في المعنى، لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر الذي ليس بشهادة؛ فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة، ولا يفعله عند لفظ الشهادة، وإن كان الكل خبرا؟.
سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة، وبين لفظ الخبر الذي ليس بشهادة- غير معتبر؛ فلم لا يجوز أن يقال: لما كان من شرط الشهادة أن يجتمع المخبرون عند الشهادة، وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على الكذب؛ فلا جرم لم يفد العلم؛ بخلاف الرواية؟.
سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم؛ لكنه يوجب الجزم بان قول الخمسة لا يفيد أيضا؛ لأن قول الخمسة، لو أمكن أن يفيد، فإذا شهدوا، فإن كانوا صادقين، وجب أن يفيد العلم الضروري، وإن لم يحصل العلم بصدقهم، وجب القطع بكذبهم، فهذا يقتضي أن تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد.
سلمنا ذلك؛ لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد العلم، لعين ما تقدم ذكره في الخمسة.
والجواب: أما الأسئلة الثلاثة الأولى، فواردة؛ ولا جواب عنها.
وأما المعارضة بقول الخمسة، فالجواب: أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة، والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة، وإن وجب عليه إقامة الحد؛ لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك، والخامس ما شاهده، فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم، وإن لم يعرفهم بأعيانهم، وكان الخامس كاذبا؛ فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم، وهذا بخلاف الأربعة؛ فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم؛ وجب أن يكون واحد منهم كاذبا.
وبهذا التقدير: تسقط الحجة بقولهم، ولزم على الحاكم رد قولهم، وإقامة الحد عليهم؛ فظهر الفرق.
واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة، أو القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا، أو القول بأنه لا يلزم من كون قول الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم.
قوله: (يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة):
قلنا: أهل العراق يقولون: يحلف خمسون من المدعى عليهم؛ كل واحد منهم على أنه ما قتل، ولا عرف قاتلا، فكل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر.
وعند الشافعي- رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين؛ كل واحد منهم بحسب ظنه، فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر.
المسألة الثانية: الحق، أن العدد الذي يفيد قولهم العلم- غير معلوم؛ فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم، وإن الناقص عنهم بواحد، أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على الكذب.
ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا، وذكروا وجوها:
أحدها: الاثنا عشر؛ لقوله تعالى: {وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا} [المائدة: 12].
وثانيها: العشرون، وهو قول أبي الهذيل؛ قال: لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] أوجب الجهاد على العشرين، وإنما خصهم بالجهاد؛ لأنهم إذا أخبروا، حصل العلم بصدقهم.
وثالثها: الأربعون: لقوله تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] نزلت في الأربعين.
ورابعها: السبعون؛ لقوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} [الأعراف: 115].
وخامسها: ثلاثمائة وبضعة عشر؛ عدد أهل بدر.
وسادسها: عدد بيعة الرضوان.
واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها، فإن قلت:(إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد، تعذر عليكم الاستدلال به على الخصم):
قلت: إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر، بل المرجع فيه إلى الوجدان؛ كما تقدم بيانه.
فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر، إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة، فأما إذا نقلوا عن قوم آخرين، فالواجب حصول هذه الشرائط في كل تلك الطبقات، ويعبر عن ذلك ب (وجوب) استواء الطرفين والواسطة).
وأما القسم الثاني: وهي الشرائط التي اعتبرها قوم، مع أنها غير معتبرة فأربعة:
الأول: ألا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد؛ وهو باطل؛ لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق، لكان إخبارهم مفيدا للعلم.
الثاني: ألا يكونوا على دين واحد، وهذا الشرط اعتبره اليهود، وهو باطل؛ لأن التهمة، لو حصلت لم يحصل العلم، سواء كانوا على دين واحد، أو على أديان، وإن ارتفعت، حصل العلم، كيف كانوا.
الثالث: ألا يكونوا من نسب واحد، ولا من بلد واحد، والقول فيه ما تقدم.
الرابع: شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين؛ لئلا يتفقوا على الكذب، وهو باطل؛ لأن المفيد حينئذ قول المعصوم، لا خبر أهل التواتر.
المسألة الثالثة: في خبر التواتر من جهة المعنى.
مثاله: أن يروي واحد: أن حاتما وهب عشرة من العبيد، وأخبر آخر: أنه وهب خمسة من الإبل، وأخبر آخر: أنه وهب عشرين ثوبا، ولا يزال يروي كل واحد منهم من هذا الخبر شيئا،؛ فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من وجهين:
الأول: أن هذه الجزيئات مشتركة في كلي واحد؛ وهو كونه سخيا؛ والراوي للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتضمن، فإذا بلغوا حد التواتر، صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر.
الثاني: أن نقول: هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا، بل لابد، وأن يكون
الواحد منهم صادقا؛ وإذا كان كذلك، فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزيئات المروية، ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا.
والوجه الأول أقوى؛ لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة.
المسألة الخامسة
في أن المعتبر هو حصول العلم لا غيره
قال القرافي: قوله: (من الشروط الراجعة إلى أحوال المخبرين أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه؛ فإن غير الضروري يجوز حصول اللبس في):
قلنا: هذه العبارة غير موفية بالمقصود، فقد يكونون مضطرين من جهة النظر، والاستدلال كما في الحدسيات، ومع ذلك لا يفيد خبرهم العلم، ولا مدخل للتواتر في مثل هذا، بل الذي صرح به الناس أن يكون أمرا حسيا؛ فلا يحصل التواتر في غير الأمور الحسية.
قوله: (العلم التواتري عندكم من الأمور العادية، فجاز أن يخلقه الله- تعالى- عقيب أربعة، ولا يخلقه عقيب أربعة):
تقريره: أن الإخبار لابد معه من قرائن أحوال حالية، وحينئذ جاز أن تتخلف تلك القرائن في بعض الصور، فلا يحصل العلم بقول الأربعة، ولا نسلم أن القاضي يحتاج إلى التزكية في قول كل أربعة، بل إنما يحتاج إليها حيث لا يحصل له العلم، ولا نسلم أن العلم يتعذر عليه في خبر كل أربعة، فقد حصل العلم لخزيمة في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس، وكذلك حصل العلم لغيره من الأمة بإخباره- عليه السلام عن أمور الدين
وغيره، وإذا تصور حصول العلم بخبر الواحد في صورة جاز حصوله بالأربعة في عدة من الصور، فلا يحتاج الحاكم للتزكية.
قوله: (يشترط في الشهادة اجتماع المخبرين عند الشهادة):
قلنا: لا نسلم هذا الشرط؛ فإن المالكية لا تشترط اجتماع الشهود إلا في مسألتين: السرقة، والزنا.
قوله: (لو لم يحصل العلم بصدق الخمسة لحصل العلم بكذبهم):