الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
قال الرازي: ذكروا في حده أمورا ثلاثة:
أحدها: أنه الذي يدخله الصدق، أو الكذب.
وثانيها: أنه الذي يحتمل التصديق، أو التكذيب.
وثالثها: ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفيا، أو إثباتا.
قال: واحترزنا بقولنا: "بنفسه" عن الأمر؛ فإنه يفيد وجوب الفعل، لكن لا بنفسه؛ لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل، والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر، ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا؛ تبعا لذلك.
وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل، فأما قولنا:"هذا الفعل واجب، أو قبيح": فإنه يفيد بصريحه تعلق الوجوب، أو القبح بالفعل.
واعلم أن هذه التعريفات ردية.
أما الأول: فلأن الصدق والكذب نوعان تحت الخبر، والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها، فإذن: لا يمكن تعريف الصدق والكذب، إلا بالخبر، فلو عرفنا الخبر بهما، لزم الدور.
واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن كلمة "أو" للترديد، وهو ينافى التعريف، ولا يمكن إسقاطها هاهنا؛ لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا.
وثانيها: أن كلام الله، عز وجل، لا يدخله الكذب، فكان خارجا عن هذا التعريف.
وثالثها: أن من قال: "محمد ومسيلمة صادقان" فإن هذا خبر، مع انه ليس بصدق، ولا كذب.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد، وهو إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وذلك لا ترديد فيه.
وعن الثاني: أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وخبر الله تعالى كذلك؛ لأنه صدق.
وعن الثالث: أن قوله: "محمد ومسيلمة صادقان" خبران، وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا؛ لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، وإلى مسيلمة، وأحد الخبرين صادق، والثاني كاذب.
سلمنا أنه خبر واحد، لكنه كاذب؛ لأنه يقتضى إضافة إليها معا، وليس الأمر كذلك؛ فكان كذبا لا محالة.
وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه: أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذبا، فقولنا:"الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب" جار مجرى أن يقال: "الخبر: هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق، أو كذب، فيكون هذا تعريفا للخير بالخير، وبالصدق والكذب.
والأول: هو تعريف الشيء بنفسه.
والثاني: تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به.
وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته؛ فإذا قلنا: "إن السواد موجود" فهو خبر، مع أنه إضافة شيء إلى شيء آخر.
فإن قلت: السؤال إنما يلزم أن لو قال: "إضافة أمر إلى أمر آخر" وإنه لم يقل ذلك، بل قال:"إضافة أمر إلى أمر" وهذا اعم من قولنا: "إضافة أمر إلى أمر آخر".
وأيضا: فقولنا:"السواد موجود" معناه: أن المسمى بلفظ "السواد" مسمى بلفظ "الموجود".
قلت: الجواب عن الأول: أن الإضافة مشعرة بالتغاير؛ إذ لو لم يكن ذلك معتبرا، لدخل اللفظ المفرد في الحد.
وعن الثاني: أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية، بل عن وجوده وحصوله في نفسه، ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث، أمكنه أن يشك في أنه، هل هو موجود أم لا؟ فموضع الإلزام هاهنا، لا هناك.
وثانيها: أنا إذا قلنا: "الحيوان الناطق يمشي" فقولنا: "الحيوان الناطق" يقتضى نسبة الناطق إلى الحيوان، مع أنه ليس بخبر؛ لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة.
فإن قلت: أزيد في الحد قيدا آخر؛ فأقول: "إنه الذي يقتضى نسبة أمر؛ إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام" والنعت ليس كذلك.
قلت: إن عنيتم بكون الكلام تاما: إفادته لمفهومه، فذاك حاصل في النعت مع المنعوت؛ لأن قول القائل:"الحيوان الناطق" يفيد معناه بتمامه.
وإن عنيتم به: إفادته لتمام الخبر، لم يعقل ذلك، إلا بعد تعقل الخبر، فإذا عرفتم به الخبر لزم، الدور، وإن عنيتم به معنى ثالثا، فاذكروه.
وثالثها: أن قولنا: "نفيا وإثباتا" يقتضى الدور؛ لأن النفي: هو الإخبار عن عدم الشيء، والإثبات: هو الإخبار عن وجوده، فتعريف الخبر بهما دور.
وإذا بطلت هذه التعريفات، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر عني عن الحد والرسم؛ لدليلين:
الأول: أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا: "إنه موجود، وإنه ليس بمعدوم، وإن الشيء الواحد لا يكون موجودا، ومعدوما، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء" فلو كان تصور مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب، لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك؛ فكان يجب ألا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا، ولما لم يكن كذلك، علمنا صحة ما ذكرناه.
والثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر، ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر؛ ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا، وإلا لم يكن الأمر كذلك.
فإن قلت: الخبر نوع من أنواع الألفاظ، والألفاظ ليست تصوراتها بديهية، فكيف قلت: إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا؟
قلت: حكم الذهن بين أمرين؛ بأن أحدهما له الآخر، أو ليس له الآخر، معقول واحد، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وكل أحد يدركه من نفسه، ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية مع ألمه، ولذته، وجوعه، وعطشه.