الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الخامس
في المجمعين
قال الرازي: قبل الخوض في المسائل لابد من مقدمة، وهي أن الخطأ جائز؛ عقلا، على هذه الأمة؛ كجوازه على سائر الأمم، لكن الأدلة السمعية منعت منه. وهي واردة بلفظين:
أحدها: لفظ (المؤمنين) في آية المشاقة.
والآخر: لفظ (الأمة) في سائر الآيات والخبر.
فأما لفظ (المؤمنين) فقد مر في باب العموم: أنه للاستغراق.
وأما لفظ (الأمة) فإنه يتناول كافة الأمة.
فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر قول كل المؤمنين، وقول كل الأمة؛ فإن خرج البعض، فلابد من دليل منفصل.
وإن اكتفينا بالبعض، لم يمكن إثباته بهذه الأدلة؛ بل لابد من دليل آخر، إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي ذلك الحكم في البعض لا تمنع من ثبوته في البعض؛ لأن ما يدل على ثبوت حكم في الكل، لا يمنع من ثبوته في البعض، ولا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء المدلول.
المسألة الأولى: لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به، وذلك الاستدلال: إما أن يكون قبل يوم القيامة، وهو محال على التقدير الذي قالوه، لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون، أو بعده، وهو باطل؛ لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال.
المسألة الثانية
لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة؛ لأن آية المشاقة دالة على وجوب اتباع المؤمنين، وسائر الأدلة دالة على وجوب اتباع الأمة، والمفهوم من الأمة- في عرف شرعنا- الذين قبلوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة
لا عبرة بقول العوام، خلافا للقاضي أبي بكر، رحمه الله.
لنا وجوه:
أحدها: أن العالم، إذا قال قولا، وخالفه العامي، فلا شك أن قول العامي حكم في الدين، بغير دلالة، ولا أمارة، فيكون خطأ، فلو كان قول العالم أيضا خطأ، لكانت الأمة بأسرها مخطئة في مسألة واحدة، وإن كان ذلك الخطأ من وجهين، ولكنه غير جائز.
وثانيها: أن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من تتصور في حقه الإصابة، والعامي لا يتصور في حقه ذلك؛ لأن القول في الدين- بغير طريق- غير صواب.
وثالثها: أن خواص الصحابة- رضي الله عنهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب.
ورابعها: أن العامي ليس من أهل الاجتهاد؛ فلا عبرة بقوله، كالصبي، والمجنون.
احتج المخالف: بأن أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل.
والجواب: إيجاب متابعة الكل لا يقتضي ألا يجب إلا متابعة الكل، والأدلة التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء؛ فوجب القول به.
القسم الخامس
في المجمعين
قال القرافي: قوله: (لفظ الأمة يتناول كافة الأمة):
قلنا: على العبارة مناقشة لغوية، وهي أن النحاة قالوا: إن (كافة) و (قاطبة) لا يجوز إضافتها، بل لا يكونان إلا تابعين.
نقول: (جاء الناس كافة وقاطبة)، وأنكروا على (الحريري) قاطبة الكتاب في (المقامات)، وعلى صاحب (المفصل) كافة الأبواب.
قوله: (لفظ (المؤمنين) مر في باب العموم أنه للاستغراق، فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر كل المؤمنين):
قلنا: لا نسلم، بل يلزم من هذا أن يكون المعتبر قول واحد واحد لا المجموع، لما تقدم في باب العموم أنه كلية لا كلي.
قوله: (لا يعتبر العوام في الإجماع):
قلنا: قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): في المسألة ثلاثة أقوال: ثالثها: الفرق بين المسائل المشهورة نحو كون الطلاق يحرم، ونحو ذلك، فيعتبرون، وبين دقائق المسائل، فلا يعتبرون.
وحكى في المجتهدين المشاركين لأهل الاجتهاد في النظر والعلم، غير أنهم لم يشتهروا به ولا تظاهروا به- قولين، وأنه لا عبرة بغير الفقيه الذي لم يتوسم بالفقه، وإن شارك الفقهاء في النظر ووجوه الاجتهاد، ولكنهم علماء بغير الفقه.
قال: وقال قوم: لا عبرة بمن لا يقول بالقياس؛ لأنه أكثر مجال الفقه
قال: وهو غير صحيح؛ فإنه إنما أهمل مدركا واحدا، ولو صح ذلك لم يعتبر قول منكري العموم والمراسيل، وصيغة الأمر، وغير ذلك.
قوله: (قول العامي بغير مدرك خطأ؛ فيلزم اجتماع الأمة على الخطأ):
قلنا: لا نسلم أنه خطأ؛ لأن الأمة معصومة لا يفوتها الحق، فمن قال بقولهم كان قوله صوابا، كما أن من قال بقول الأمة بعد تقرر الإجماع كان قوله صوابا، وإن جهل هو مدرك الأمة، كذلك العامي يقول بقول الأمة جاهلا للمدرك، وقوله صواب.
سلمنا أن قوله خطأ، لكن لا نسلم الإجماع على الخطأ؛ لأن هاهنا أمرين: أحدهما الحكم، ومن عدى العامي قد حكم به لمستند صحيح، والآخر المدرك، وقد ظفر به العلماء ما عدا العامي، فالعلماء مصيبون في حكمهم، ومدركهم، فلم يوجد خطأ بالنسبة إلى كل واحد من أفراد الأمة حتى يحصل الإجماع على الخطأ.
قوله: (أجمع الصحابة خواصهم وعوامهم على عدم اعتبار العوام):
قلنا: لا نسلم هذا الإجماع، غايته أنهم أفتوا بما عندهم، ولم ينقل عنهم أنهم قالوا: قولنا بمفرده إجماع دون عوامنا.
قوله: (لا عبرة بقول العامي كالمجنون):
قلنا: إن الصبيان والمجانين كالبهائم لا يتصفون بالإيمان والإسلام الفعليين
الواجبين، وإن اتصفوا بالحكمتين، وأما العامي فمتصف بالإيمان الفعلي، والإسلام الفعلي، وأهل للتصور، فيتصور ما قاله الإجماع تصورا صحيحا، ونقول به على وجهه كما قاله العلماء، كما نقول نحن اليوم بقولهم، وإن كنا جاهلين بمستندهم.
قوله: (أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل):
قلنا: لا نسلم، بل كل واحد واحد فهو كلية لا كل، وإلا تعذر الاستدلال بها في النفي والنهي كما تقدم أول العموم، فالحقيقة حينئذ غير مرادة، والتجوز إلى البعض أولى من التجوز إلى الكلي الذي هو المجموع؛ لأنه أقرب للحقيقة من جهة أن اللفظ يقتضي حقيقة الإثبات لكل واحد، والواحد بعض.
* * *