الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني
في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل
قال الرازي: المسألة الأولى: نسخ السنة بالسنة، يقع على أربعة اوجه:
الأول: نسخ السنة المقطوعة، بالسنة المقطوعة.
والثاني: نسخ خبر الواحد بخبر الواحد؛ كقوله، عليه الصلاة والسلام:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) وقال في شارب الخمر: (فإن شربها الرابعة، فاقتلوه) ثم حمل إليه من شربها الرابعة، فلم يقتله.
والثالث: نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع، ولا شك فيه.
والرابع: نسخ الخبر المتواتر، وهو جائز في العقل غير واقع في السمع عند الأكثرين؛ خلافًا لبعض أهل الظاهر.
لنا: أن الصحابة، رضي الله عنه، كانت تترك خبر الواحد، إذا رفع حكم الكتاب؛ قال عمر، رضي الله عنه:(لا ندع كتاب ربنا؛ لقول امرأة، لا ندري أصدقت أم كذبت).
وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنا نقول: هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر، فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرًا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر؟
واحتج أهل الظاهر بوجوه:
الأول: أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد، فجاز نسخه به، والجامع دفع الضرر المظنون.
الثاني: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار معارضًا لحكم المتواتر، وجب تقديم المتأخر؛ قياسًا على سائر الأدلة.
الثالث: أن نسخ الكتاب وقع باخبار الآحاد من وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه} [الأنعام: 145] الآية: منسوخ بما روي بالآحاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع).
وثانيها: قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] منسوخ بما روي بالىحاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها).
وثالثها: قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180] منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وصية لوارث).
ورابعها: أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين، وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد، وجب جواز نسخ الخبر المتواتر؛ لأنه لا قائل بالفرق.
الرابع: أن أهل قباء قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد، ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك.
الخامس: أنه، عليه الصلاة والسلام، كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ.
والجواب عن الأول: أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع، كما سبق.
وعن الثاني: أن المتواتر مقطوع في متنه، والآحاد ليس كذلك؛ فلم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعًا من ترجيح خبر الواحد؟
وأما الآيات: فقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} [الأنعام: 145] إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية، ولا يتناول ما بعد ذلك، فلم يكن يكن النهي الوارد بعده نسخًا.
وعن الثانية: أنا إنما خصصنا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح المرأة على عمتها) لتلقى الأمة هذا الحديث بالقبول، وأيضُا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنًا، فقبلوه مخصصا، لا ناسخًا.
وعن الثالثة: أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر، ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلًا؛ استغناء بالإجماع عنه، وإذا جاز ذلك، فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر، ثم يضعف نقله؛ استغناء بالإجماع عنه.
وإذا كان كذلك، لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعًا به عندهم، ثم يضعف نقله؛ لإجماعهم على العمل بموجبه، وهذا هو الجواب أيضًا عن الرابعة.
والجواب عن الحجة الرابعة: لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة، ففلهذا قبلوا الخبر، أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم، نحو كون المسجد قريبًا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في ذلك.
والجواب عن الحجة الخامسة: أنّا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد، إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني
في الناسخ والمنسوخ
قال القرافي: قوله: "يجوز نسخ الآحاد بالآحاد كقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)."
قلنا: هذا إنما يصح أن لو قلنا الآن حين حدث النسخ؛ لأنهما آحاد في زماننا، وليس كذلك، بل هذا النسخ وقع في زمانه عليه السلام أو سمعوا اللفظ منه عليه السلام في الموطنين، فاللفظان حينئذ يقطع بصدورهما منه عليه السلام فإن السماع مشافهة يفيد القطع بالنطق كالتواتر، فهذا المثال ليس من هذا الباب وإنما كان يكون منه لو سكت عن هذه المسألة إلى حين نقل هذا اللفظ، ولم يوجد إلا بطريق الآحاد، وكذلك السؤال في شارب الخمر؛ لأن الجميع وقع في زمانه عليه السلام الأمر بقتله، وترك قتله.
قوله: "الصحابة كانوا يتركون الكتاب بخبر الواحد، كقول عمر رضي الله عنه: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدق أم كذبت) ".
قلنا: لاحجة فيه؛ لأنه علل الرد بعدم الوثوق بصدقها، وحصول الشك فيه، والكلام في خبر الواحد إذا كان ظاهر العدالة، سالمًا عن المطاعن.
قوله: "جاز التخصيص بخبر الواحد، فيجوز النسخ به".
قلنا: الفرق أن النسخ قضاء بالرفع على حكم علم ثبوته في هذا الفرد باعتبار الزمان المستقبل، فيتعين الاحتياط فيه، والتخصيص لم يتعين فيه ذلك، بل هو غير مراد قطعًا، فضعف أمره.
قوله: "نسخ الكتاب في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي
…
الآية} [الأنعام: 145] بنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع ".
قلنا: الآية اجتمع فيها لفظان متعارضان، فيتعين صرف أحدهما للآخر، فلفظ (أوحى) ماض لا يتناول إلا إلى حين ورود الآية ولفظ (لا) لنفي المستقبل بنص سيبويه، وكما في قوله تعالى:{لا يموت فيها ولا يحيا} [الأعلى: 13]، والمراد الاستقبال بالضرورة.
قال النحاة: (لم) و (لما) لنفي الماضي، و (ما) و (ليس) لنفي الحال، و (لا) لنفي المستقبل، غير أن (لن) نص في العموم من (لا)، وحينئذ لا بد من صرف (لا) لـ (أوحي) أو صرف (أوحي) للفظ (لا) فإن صرفنا (لا) للفظ (أوحي)، فلا نسخ؛ لعدم التعارض بين الآية والخبر، وإن عكسنا كان تخصيصًا لا نسخًا، فلا حجة فيه.
قوله: "خصص قوله عليه السلام: (لا تنكح المرأة على عمتها) قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] ".
قلنا: لا نسلم، بل ذلك تخصيص له، وليس هو من النسخ في شيء، سلمنا أنه نسخ، لكن لا نسلم أنه حين قضى بالنسخ كان آحادًا؛ فإن هذا
الحكم متقدم في زمن الصحابة، فلعلهم سمعوه، أو كان متوترًا، وإن كان كذلك فالقطع حاصل.
وكذلك قوله عليه السلام: (لا وصية لوارث).
قوله: "الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين".
قلنا: لا نسلم أن الله تعالى شرع الجمع بينهما قط حتى يكون منسوخًا، ولا نسلم أن لنا خبرًا من أخبار الآحاد يقتضي أحد الأجلين بعد شرعية الجمع، وإنما ورد آيتان متعارضتان من حيث الجملة، وهما قوله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وقوله تعالى: {وأولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن} [الطلاق: 4] فمن السلف من قال: يجمع بين الآيتين بأن يجب الأمران.
ومنهم من قال: يجمع بينهما بحمل الأجل على غير الحوامل.
هذا مدرك المسألة.
قوله: "كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة للأطراف، ويبلغون الناسخ والمنسوخ".