الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
قال الرازي: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع، وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يقع
.
احتج المثبتون بصورتين:
إحداهما: أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت؛ لقوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت} [النساء: 15] ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نسخ الجلد بالرجم.
فإن قلت: بل نسخ ذلك بما كان قرآنًا، وهو قوله:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة):
قلت: إن ذلك لم يكن قرآنًا، ويدل عليه: أن عمر رضي الله عنه قال: (لولا أن يقول الناس: إن عمر زاد في كتاب الله شيئًا، لألحقت ذلك بالمصحف) ولو كان ذلك قرآنًا في الحال، أو كان ثم نسخ، لما قال ذلك.
ولقائل أن يقول: لما نسخ الله تعالى تلاوته، وحكم بإخراجه من المصحف، كفى ذلك في صحة قول عمر، رضي الله عنه، ولم يلزم منه القطع بأنه لم يكن البتة قرآنًا.
وثانيها: نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث) لأن آية المواريث لا تمنع الوصية، إذ الجمع ممكن، وهذا ضعيف؛ لأن كون الميراث حقًا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية؛ فثبت أن آية الميراث مانعة
من الوصية؛ ولأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) خبر واحد؛ إذ لو قلنا: إنه كان متواترًا، لوجب أن يكون الآن متواترًا؛ لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله، وما كان كذلك، وجب بقاؤه متواترًا ن وحيث لم يبق الآن متواترًا، علمنا أنه ما كان متواترًا في الأصل، فالقول بأن الآية صارت منسوخة به، يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وإنه غير جائز بالإجماع.
واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور:
الأول: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها او مثلها} [البقرة: 106] والاستدلال من وجوه أربعة:
أحدها: أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأتي بخير منه، وذلك يفيد أنه تعالى ياتي بما هو من جنسه، كما إذا قال للإنسان:(ما آخذ منك من ثوب، آتك بخير منه) أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه، فجنس القرآن قرآن.
وثانيها: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} يفيد: أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة، التي يأتي بها الرسول عليه السلام.
وثالثها: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} يفيد: أن المأتي به خير من الآية، والسنة لا تكون خيرا من القرآن.
ورابعها: أنه تعالى قال: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] دل على أن الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله، وهذا هو القرآن دون غيره.
الثاني: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] فوصفه بأنه مبين للقرآن، ونسخ العبادة رفعها، ورفعها ضد بيانها.
الثالث: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل: 101] أخبر تعالى بأنه هو الذي يبدل الآية بالآية.
الرابع: أنه تعالى حكى عن المشركين: أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية: {إنما أنت مفتر} [النحل: 101] ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه، لا يكون مزيلًا للإبهام.
الخامس: قوله تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس: 15] وهذا يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة.
السادس: أن ذلك يوجب التهمة والنفرة.
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في الآية الأولى؛ بوجه عام، ثم بما يخص كل واحد من تلك الوجوه:
أما العام: فهو: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} [البقرة: 106] ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخًا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئًا مغايرًا للناسخ، يحصل بعد حصول النسخ، والذي يدل على تحقق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبًا على الإتيان بذلك الخير، لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر، وهو دور.
وأما الوجوه الخاصة:
فالجواب عن الأول: لا نسلم ان ذلك الخير لا بد وأن يكون من جنس الآية المنسوخة، فليس تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثال آخر؛ وهو أن بقول القائل:(ممن يلقني بحمد وثناء جميل، ألقه بخير منه) في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء، أو من قبيل المنحة والعطاء.
وعن الثاني؛ وهو أن قوله: {نات بخير منها} يفيد أنه هو المتفرد بالغتيان بذلك الخير: أن نقول: المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه، والسنة في ذلك كالقرآن في أن المثبت لهما هو الله تعالى.
وعن الثالث؛ وهو قوله: السنة لا تكون خيرًا من القرآن: أن نقول: إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف، والأنفع في الثواب، لم يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرًا من مضمون الآية.
وعن الرابع: أن النسخ رفع الحكم، سواء ظهر ذلك بالقرآن، أو بالسنة وعلى التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به.
والجواب عن الحجة الثانية: أن النسخ لا ينافي البيان؛ لأنه تخصيص للحكم بالأزمان، كما أن التخصيص للحكم بالأعيان.
والجواب عن الحجة الثالثة: أن الناسخ، سواء كان قرآنا أو خبرًا، فالمبدل في الحقيقة هو الله تعالى.
والجواب عن الحجة الرابعة: أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه؛ لأنه يشك في نبوته، ومن تكن هذه حاله، فالنبي عليه الصلاة
والسلام مفترٍ عنده، سواء نسخ الكتاب بالكتاب، أو بالسنة، والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته.
والجواب عن الحجة الخامسة؛ وهي قوله تعالى: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} [يونس 15] أنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي، ولا يدل على أن الوحي لا يكون إلا قرآنا.
والجواب عن الحجة السادسة: أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه {ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3 - 4] والله أعلم.
المسألة الثالثة
في نسخ الكتاب بالسنة المتواترة
قال القرافي: قوله "نسخ الحبس في البيوت بالجلد، ثم نسخ بالرجم".
قلنا: عليه أربعة أسئلة:
الأول: لا نسلم أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس، بل ظاهر السنة أنها نزلت ثانيًا، وهو قوله عليه السلام:(خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام).
فقوله عليه السلام: (قد جعل الله لهن سبيلا) ظاهر في أنه الآن كما ورد عليه تعبير الحبس في البيوت لقوله تعالى: {أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15].
الثاني: سلمنا تأخر آية الجلد، لكن لم قلتم: إنها ناسخة، وذلك لأن
ظاهرها غير متعارض، فأمكن الجلد والحبس في البيوت حتى ينقلوا أن الله تعالى أبطل الحبس في البيوت بها.
الثالث: سلمنا أنه تعالى أبطل الحبس بها، لكن لا نسلم أن الحديث من باب التواتر؛ لأن المتواتر هو الذي ينقله عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والمسموع منه عليه السلام عند العمل لا يقال فيه: متواتر، ولا آحاد لعدم النقل عنه حينئذ.
الرابع: سلمنا صدق التواتر عليه لكنه تخصيص لآية الجلد حيث بينت أن الثيب كان يجلد، وحينئذ يتعين النسخ.
قوله: "نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث) ".
قلنا: إنما يتم ذلك حتى تثبتوا أن الصحابة لم يقضوا بإبطال الوصية للوارث إلا بهذا الحديث، وهو منقول إليهم؛ لاحتمال أن يقضوا به مسموعًا منه عليه السلام وحينئذ لا يصدق عليه أنه متواتر.
فإن قلت: إذا سمع منه عليه السلام كان مقطوعًا به، فهو في معنى التواتر.
قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يفهرس هذه المسالة بغير هذه الفهرسة، وتقولون:"يجوز نسخ الكتاب بالسنة المقطوع بها"
قوله: "كون الميراث حقًا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية".
قلنا: عليه سؤالان:
الأول: أن هذا اللفظ متغير في نفسه ومرادكم أن الميراث يمنع صرف الوصية.
فقلتم: "يمنع من صرفه إلى الوصية"، وهذه عبارة فيها خلل، وقد كشفت عدة نسخ، فوجدتها كذلك، واختصرها سراج الدين على ما ذكرته أنا.
الثاني: لا نسلم أنه يلزم من إثبات حق الوارث منع إثبات حق آخر له، ويدل على ذلك أن الوارث لو كان له دين، أو غير ذلك كان له أخذه مع الميراث، فأخذ الدين بسبب سابق كأخذ الوصية بسببها، وهو الإيصاء.
فإن قلت: قوله تعالى: {منهما السدس} [النساء: 11]، {فلهما الثلثان} [النساء: 176]، ونحوه من آيات المواريث صيغ شروط، وهذه أجوبتها، ومتى ذكر جواب شرط بعده كان هو كمال ما يترتب عليه، فلا يرد عليه لدلالته على الحصر.
قلت: لا نسلم أن كلها شروط كقوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] لا شرط فيه، بل خبر محض عن الحكم الشرعي باستحقاق ذلك، سلمنا أنها كلها شروط، وأن هذه الأوصاف تقوم مقام الشروط، وأن يصرح بالشرط، لكن ذلك يقتضي الحصر باعتبار ذلك الشرط لا مطلقًا.
فإذا قال: من زنى جلد مائة يقتضي أن هذا كمال ما يجلد باعتبار الزنا، وجاز أن يجلد باعتبار القذف؛ لأنه سبب آخر فكذلك هاهنا.
قوله: "هذا الخبر ليس متواترًا، فيلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد".
قلنا: جاز ألا يكون متواترًا، ولا يكون خبرًا واحدًا عند القضاء بالنسخ، بل مسموعًا منه عليه السلام فيكون نسخًا بالمقطوع كما قلتموه في الرجم وغيره.
قوله: "الثاني قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ".
قلنا: قد تقدم أن قوله تعالى: {لتبين للناس} [النحل: 44] فعل في سياق الثبوت، فيكون دالًا على القدر الأعم، والدال على الأعم غير