الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: إذا قال صاحب الشرع: " جعلت الفعل دليلا "، صار دليلا، كما إذا قال:" جعلته سببا "، فإنه يكون سببا حقيقة.
المسألة الثالثة
قال الرازي: قال القاضي أبو بكر رحمه الله: النسخ رفع، ومعناه: أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل، بحيث لولا طريان الناسخ لبقى
، إلا أنه زال؛ لطريان الناسخ.
وقال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله: إنه بيان، ومعناه: أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت، ثم حصل بعده حكم آخر.
والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة: أن من قال ببقاء الأعراض، قال: الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ، ثم إن الطارئ يكون مزيلا لذلك الباقي.
ومن قال بأنها لا تبقى، قال: الضد الأول ينتهي بذاته، ويحصل ضده بعد ذلك، من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في إزالة ما قبله؛ لأن الزائل بذاته لا يحتاج إلى مزيل.
وإذا ظهر هذا التمثيل، عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة إلى هذه المسألة نفيا وإثباتا، فنقول: احتج المنكرون للرفع بوجوه:
الحجة الأولى: أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل بقاء الباقي، فإما أن يوجدا معا، وهو محال بالضرورة، أو يعدما معا
وهو محال؛ لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو عدما معا لوجدا معًا، وذلك محال.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: الحادث أقوى من الباقي لحدوثه.
قلت: هذا باطل لوجهين:
أحدهما: أن الباقي: إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلًا له حال حدوثه، أو لا يحصل:
فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثًا، كان ذلك الزائد حادثًا، فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويًا للضد الطارئ في القوة، وإذا استويا في القوة، امتنع رجحان أحدهما على الآخر، وإذا امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة.
وإن كان الثاني، وهو: ألا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلًا له حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، وحينئذ يبطل الرجحان.
وثانيهما: أ، الشيء حال حدوثه، كما يمتنع عدمه، فالباقي حال بقائه لا بد له من سبب؛ لكونه ممكنًا، وهو مع السبب يمتنع عدمه، فإذا امتنع العدم عليهما، استويا في القوة، فيمتنع الرجحان.
الحجة الثانية هي: أن طريان الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان زوال المتقدم معللًا بطريان الطارئ لزم الدور، وهو محال.
الحجة الثالثة: أن الطارئ: إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدومًا، أو
موجودًا:
فإن كان الاول: استحال أن يؤثر في عدمه؛ لأن إعدام المعدوم محال.
وإن كان الثاني: فقد وجد مع وجود الأول، وإذا وجدا معًا، لم يكن بينهما منافاة، وإذا لم يكن بينهما منافاة، لم يكن أحدهما رافعًا للآخر.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كالكسر مع الانكسار؟
قلت: الانكسار عبارة عن: زوال تلك التأليفات عن أجزاء ذلك الجسم، والتأليفات أعراض غير باقية، فلا يكون للكسر أثر في إزالتها.
الحجة الرابعة هي: أن كلام الله تعالى قديم، والقديم لا يجوز رفعه، فإن قلت: المرفوع تعلق الخطاب.
قلت: الخطاب إما أن يكون أمرًا ثبوتيًا، أو لا يكون:
فإن لم يكن أمرًا ثبوتيًا، استحال رفعه وإزالته، وإن كان أمرًا ثبوتيًا، فهو إما أن يكون حادثًا، أو قديمًا: فإن كان حادثًا، لزم كونه تعالى مُحلا للحوادث، وإن كان قديمًا، لزم عدم القديم، وهو محال.
واعلم أن هذه الوجوه، كما أنها قوية في نفسها، فهي أقوى لزومًا على القاضي رحمه الله؛ لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد بالضد.
والقول بكون النسخ رفعًا عين القول بإعدام الضد بالضد، فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى.
واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر، وهو: أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقًا باستمرار هذا الحكم أبدًا، أو يكون متعلقًا
بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني:
فإن كان الأول: استحال نسخه، وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا، وهو محال.
والثاني: يقتضي بطلان القول بالرفع؛ لأن الله تعالى، إذا علم أن ذلك الحكم لا يبقى إلا إلى ذلك الوقت، استحال وجود ذلك الحكم بعد ذلك، وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا ن وإذا كان ممتنع الوجود بعد ذلك، استحال أن يقع زواله بمزيل؛ لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبًا لغيره.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يقال: علم الله تعالى أن ذلك الحكم لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ، لا لذاته، وإذا علم الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت؛ لطريان ذلك الناسخ لم يكن ذلك قادحًا في تعليل زواله بالنسخ؟
ويزيده تقريرًا أن يقال: إن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في الوقت الفلاني، فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا، ولم يكن ذلك الوجوب قادحا في افتقاره إلى المؤثر؛ لأنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى المؤثرى، فكذا هاهنا.
واحتج القائلون بالرفع بأمرين:
أولهما: أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة؛ فوجب أن يكون في الشرع أيضا كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير، ولأننا ذكرنا في باب نفي الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير.
وثانيهما: أن الخطاب كان متعلقا بالفعل، فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه
لذاته، وإلا لزم ألا يوجد، وإن لم يكن لذاته، فلا بد من مزيل، ولا مزيل إلا الناسخ.
والواجب عن الأول: أنه تمسك بمجرد اللفظ، وهو لا يعارض الدلائل العقلية.
وعن الثاني: أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى ذلك الوقت المعين، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط، فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر، والله أعلم.
المسألة الثالثة
قال القرافي: قوله: " قال الأستاذ: الخطاب انتهى بذاته ".
تقريره: أن القاضي والأستاذ اتفقا على أن الهطاب: اقتضاء الدوام باعتقادنا، وإنما الخلاف في نفس الأمر، فالقاضي يقول فيه: اقتضاء الدوام في نفس الأمر، ومثله في كتبه بالنسخ، فقال: النسخ كالفسخ، فكما أن الإجارة إذا كانت مستمرة قبلت الفسخ، أما إذا أجره شهرا، فانقضى ذلك الشهر، فإن الفسخ حينئذ متعذر؛ لعدم الدوام حينئذ.
وغيره يقول: لا دوام في نفس الأمر، بل لم يقتض النص العبادة في نفس الأمر، إلا إلى هذه الغاية، والناسخ بينهما. قوله:" والمثال الكاشف عن حقيقة المسألة الأعراض ".
قلنا: لا نسلم صحة هذا التمثيل، ولا نسلم أن الأعراض مساوية للمسألة؛ لأن كلام الله تعالى قديم واجب الوجود؛ لا يوصف بما توصف به الأعراض من عدم بقائها زمنين، وهذا المثال بعيد جدا عن المسألة.
قوله:" الباقي إما أن يحصل له أمرا زائدا على ما كان حاصلا له قبل حدوثه، أو لا يحصل، فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا ".
قلنا: هذه العبارة غير متجهة، بل ينبغي أن تقولوا: إما أن يحصل أمر زائد بعد حدوثه، أما قبل حدوقه، فقد حصل له أمر زائد، وهو الحدوث؛ لأنه لم يكن حاصلا قبل الحدوث، والمتجه أن تقولوا: بعد الحدوث؛ فيتجه البحث.
وكشفت عدة منالنسخ، فوجدتها كذلك.
قوله:" يكون الحادث الزائد مساويا للضد الطارئ في القوة ".
قلنا: لا نسلم المساواة حينئذ؛ لأن الحادث في الباقي هو مقارنة الوجود الحاصل عند الحدوث للأزمنة المستقبلة؛ إذ لا يعني للبقاء إلا مقارنة الوجود للأزمنة، والمقارنة: نسبة وإضافة عدمية، والضد الحادث حدوثه حدوث وجود الوجود أقوى من الأمر العدمي، وأمكن دفعه للعدمي، فهذا فرق يمنع المساواة.
قوله:" وإن لم يحصل أمر زائد، لزم المساواة ".
قلنا: لا نسلم؛ لأنكم قد تريدون بعدم حصول الزائد زائدا وجوديا، وهو ظاهر كلامكم؛ لأنكم جعلتموه مساويا للضد الحادث؛ وحينئذ يصدق أنه ما حصل زائد وجودي، وحصل زائد عدمي؛ وأمكن أن يقال: إنه موجب للضعف، فيكون اللازم على تقدير عدم حدوث أمر زائد وجودي حصول الضعف لا حصول المساواة؛ عكس ما قلتموه.
قوله: " الباقي لا بد له من السبب؛ لكونه ممكنا، ومع السبب يمتنع عدمه ".
قلنا: لا نسلم أن الباقي يحتاج للسبب؛ لأن المحتاج للسبب هو الممكن، إذا كان في حيز العدم، أما بعد الوجود، فلو أثر فيه، لزم تحصيل الحاصل، أو الجمع بين المثلين، سلمنا أنه لا بد من حصول السبب معه؛
لكن لا نسلم أنه امتنع العدم عليه حينئذ؛ لأن الامتناع إنما ينشأ تعلق السبب به من تعلق التأثير، والأثر زمن التأثير فيه من السبب التام واجب الوقوع، ممتنع العدم، لكن يكون السبب معه أعم، ولا يلزم من تسليم كون السبب معه كونه في زمن التأثير، أو هو مؤثر فيه حينئذ.
قوله: " طريان الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان الطارئ علة لعدمه، لزم الدور ".
قلنا: أمكن فك الدور بأن الطارئ ليس علة لعدم المنعدم، ولا يلزم من ذلك أن المنعدم يعدم بذاته، كما قدرتموه في الأعراض؛ فإن المسألة هي مثالها؛ لجواز أن يكون باقيا بذاته، والله تعالى يعدمه؛ كما يقوله القاضي في الأجسام، والأعراض باقية بذاتها، والله تعالى تتعلق قدرته بإعدام أي شيء شاء منها، فلا يلزم من عدم التعليل العدم الذاتي.
قوله: " الطارئ: إما أن يطرأ حال كون الأول معدوما، أو موجودا، فإن كان الأول، استحال أن يؤثر في عدمه ".
قلنا: لا نسلم؛ لأن الضد يطرأ في أول أزمنة العدم الذي يلي آخر أزمنة الوجود، فيمتنع استمرار الوجود في ذلك الزمن؛ فيكون مؤثرا في العدم، مع أنه ما طرأ إلا في زمن العدم، ولا يلزم إعدام المعدوم، وإنما يلزم إعدام المعدوم، أن لو تقرر العدم في زمان قبل طروء الضد، فيحصل الضد عدمه بعد ذلك، أما على ما ذكرناه من تقرر العدم، فلا، والقاعدة أن تحصيل الحاصل أبدا لا يلزم إلا مع تعدد الزمان، أما مع إيجاده، فلا، وكذلك نقول في طرف الوجود المؤثر: يؤثر في كل حادث أول أزمنة وجود الحادث، ومع ذلك لا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنه لم يقرر وجوده قبل ذلك.
قوله: " التأليفات أعراض لانتفاء زمانين، فلا أثر للكسر في إزالتها ".
قلنا: ذكر الفرق في هذه المقام غير متجه؛ لأنكم أول المسألة ادعيتم
التسوية بين الأعراض، وبين هذه المسألة؛ حتى جعلتموها مثلا لها، فذكر الفرق بعد ذلك غيرمسموع، بل أنتم تضطرون إلى الجواب بما ذكرناه في رفع الحياة للموت، وكسر الفخار، وتسخين الماء البارد، وتبريد السخن، وغير ذلك من طيران الأضداد، والتأثيرات العادية، ما أنكره السوفسطائية، وجعلوا مستندهم عين ما ذكرتموه من النكتة.
قوله:" إن لم يكن التعلق أمرا ثبوتيا، استحال رفعه ".
قلنا: لا نسلم؛ فإن النسب والإضافات كلها ليست ثبوتية في الخارج، وهي تتضاد، ويرفع بعضها بعضا؛ كالمعية ترفع القبلية، والبعدية ترفع المعية، والتأخير يرفع التقدم، ووجود العالم رفع عدمه، وكل نقيض وجودي يرفع عدمه، غلى غير ذلك من النسب المتضادة، والتعلق هو عندنا من باب النسب؛ لأنه نسبة بين الكلام القديم، وفعل المكلف.
قوله: " إن كان وجوديا حادثا، لزم كون الله تعالى محالا للحوادث ".
قلنا: لا نسلم؛ لأن هذا التعلق ليس صفة لله تعالى، بل بين الكلام القديم، وفعل المكلف نسبة مخصوصة، فأمكن أن يقال: هو صفة للفعل، فتكون صفة البعد؛ لأن فعل العبد صفته، وليس هذا بأولى من قولكم، " يكون صفة للأمر " لأنه نسبة بينهما، فليس أحدهما أولى به من الآخر، بل بل نقول: العبد أولى؛ لأن صفة الحدوث مستحيلة على الآمر، فيتعين العبد.
قوله:" إن كان عدمه لذاته، لزم ألا يوجد ".
قلنا: قولكم: " عدمه لذاته " يصدق بطريقين:
أحدهما: أنه مستحيل.
والثاني: أنه ممكن الدوام في نفسه، وممكن الوجود؛ غير أن إرادة الله