الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
قال الرازي: قال مالك: إجماع أهل المدينة وحدها حجة
.
وقال الباقون: ليس كذلك.
حجة مالك: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة لتنفي خبثها؛ كما ينفي الكير خبث الحديد) والخطأ خبث؛ فكان منفيًا عنهم.
فإن قيل: وجد في الخبر ما يقتضي كونه مردودًا؛ لأن ظاهره أن كل من خرج عنها، فإنه من الخبث الذي تنفيه (المدينة)؛ وذلك باطل؛ لأنه قد خرج منها الطيبون؛ كعلي، وعبد الله، رضي عنهما، بل ذكروا ثلاثمائةٍ ونيفًا من الصحابة الذين انتقلوا إلى (العراق) وهم أمثل من الذين بقوا فيها؛ كأبي هريرة وأمثاله.
سلمنا سلامته عن هذا الطعن؛ لكنه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز التمسك به في مسألة علميةٍ.
سلمنا صحة متنه؛ لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك محمولا على من خرج منها؛ لكراهية المقام بها، مع أن في المقام بها بركةً عظيمةً؛ بسبب جوار الرسول، وجوار مسجده صلى الله عليه وسلم، ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها؛ لأن الكاره للمقام بها، مع هذه الأحوال لابد وأن يكون ضعيف الدين، ومن كان كذلك، فهو خبث؟
سلمنا أن المراد كونها نافيةً للقول الباطل؛ لكن قوله: (لتنفي خبثها) ليس فيه صيغة عمومٍ.
سلمناه؛ لكن لم لا يجوز تخصيص هذا القول بزمانه، ويكون المراد بالخبث الكفار.
ثم إنه معارض بأمور ثلاثة:
الأول: أن الذي دل على كون الإجماع حجةً وارد بلفظين: لفظ (المؤمنين) في آية المشاقة، ولفظ (الأمة) في غيرها، وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين ببلدة، دون بلدةٍ؛ فوجب اعتبار الكل.
الثاني: أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجةً.
الثالث: أن القول به يؤدي إلى المحال؛ لأن من كان ساكن المدينة، كان قوله حجةً، فإذا خرج منها لا يكون قوله حجةً، ومن كان قوله حجةً في مكانٍ، كان قوله حجةً في كل مكانٍ؛ كالرسول صلى الله عليه وسلم.
والجواب: قوله: (يقتضي أن كل من خرج من (المدينة)، فهو خبث):
قلنا: لا نسلم؛ لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان خبثًا، فإن (المدينة)، تخرجه؛ وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة، فهو خبث.
قوله: (إنه خبر واحدٍ، فلا يجوز التمسك به في العمليات):
قلنا: لا نسلم أن هذه المسألة علمية، بل لما ثبت بهذا الخبر ظن أن إجماع أهل المدينة حجة، والعمل بالظن واجب - وجب العمل به.
قوله: (نحمله على من كره المقام بالمدينة):
قلنا: تقييد المطلق خلاف الأصل؛ ولو جاز ذلك، لجاز في قوله:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115]
وفي قوله، عليه الصلاة والسلام:(لا تجتمع أمتي على خطأٍ) حمله على بعض الصور، ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام، وتقييد المطلق خلاف الأصل، وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورةٍ، فكذا هاهنا.
قوله: (ليس في قوله: لتنفي خبثها صيغة عمومٍ):
قلنا: لا نسلم؛ فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها، فلولا انتفاء جميع أفراد الخبث عن (المدينة)؛ وإلا لما صح القول بأنها تنفي الخبث.
قوله: (لم لا يجوز تخصيصه بزمانه؟):
قلنا: لأن التخصيص خلاف الأصل.
قوله: الأدلة على أن الإجماع حجة غير مختصة يقوم دون قومٍ.
قلنا: تلك الأدلة لا تقتضي أن إجماع أهل (المدينة) حجة، ولكنها لا تبطل ذلك، فإذا أثبتناه بدليلٍ منفصلٍ، لم يلزمنا محذور.
قوله: لا أثر للمكان.
قلنا: لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدةٍ معينة بالعصمة؛ كما أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمانٍ معينٍ بالعصمة؛ فإنه تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر المم؛ بلي: العقل لا يدل على ذلك، وإنما الرجوع فيه إلى السمع.
قوله: (من كان قوله حجة في مكانٍ، كان حجةً في كل مكانٍ؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم):
قلنا: هذا قياس طردي في مقابلة النص؛ فكان باطلا، والله أعلم.
فهذا تقرير قول مالك رحمه الله وليس بمستبعدٍ؛ كما اعتقده هو، وجمهور أهل الأصول، والله أعلم.
المسألة الرابعة
(إجماع المدينة حجة)
قال القرافي: قوله: (الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة):
قلنا: لم يقل مالك: إن إجماع (المدينة) حجة؛ لأجل البقعة، إنما اختلف أصحابه في تقرير مذهبه على قولين:
.........................................................................
......................................................................
............................................................................
.................................................................................
................................................................................
...........................................................................
منهم من يقول: إنما مقصوده تلك الأقوال المنقولة خاصة، إما عن قولٍ سمعوه من رسول الله عليه السلام، أو عن فعل وضع كما كان في الصاع والمد، فينقل الأبناء عن الآباء، والإخلاف عن الأسلاف أن هذا هو المد الذي كانوا يؤدون به الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأذان كان على هذه الصورة في زمانه عليه السلام كما قاله مالك لأبي يوسف، لما ناظره في الأذان، والصاع. والأوقاف.
فسأل أبناء الصحابة، فأخبروه بذلك.
فقال له: هذا أذان القوم، وهذا صاعهم، وهذه أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم.
فرجع أبو يوسف عن مذهب أبي حنيفة إلى ذلك، ومتى كان هذا هو المقصود خرج الحديث المنقول، والواقعة المنقولة عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم، واليقين.
فأقل أحوالها أن يرتقي عن رتبة الآحاد، فلا يختلف في تقديمه على الأحاديث الصحيحة المروية بالآحاد.
ومنهم من قال: بل المقصود ما هو أعم من هذا وهو أنهم اتفقوا على فعل، أو كانوا في أنفسهم يفعلون فعلا لا يعلم مستندهم فيه، فإنه يكون حجة، ويقدم على الأحاديث؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم ما عدلوا عن الحديث مع طلاعهم عليه إلا وقد اطلعوا على ناسخ، وكذلك القول في الترك.
كما قال مالك في خيار المجلس أن الساعات مما تتكرر، فلو كان خيار المجلس مشروعًا لكان ذلك متكررًا بـ (المدينة) مشتهرًا، فحيث لم يكن له عندهم أثر دل ذلك على عدم اعتبار بيع الخيار، وأنه نسخ بغيره، وعلى كل تقدير، فلا عبرة بالمكان، بل لو خرجوا من هذا المكان إلى مكان آخر كان الحكم على حاله، فهذا سر هذه المسألة عند مالك، لا خصوص المكان، بل العلماء مطلقًا خصوصًا أهل الحديث يرجحون الأحاديث الحجازية على العراقية، حتى يقول بعض المحدثين: إذا تجاوز الحديث (الحرة) انقطع نخاعه.
وسببه أنه مهبط الوحي، فيكون الضبط فيه أيسر وأكثر، وإذا بعدت الشقة كثر الوهم والتخليط، فلو خرج أولئك الرواة بجملتهم وسكنوا غير
(الحجاز) كان الأمر بحاله لم يحصل فيه، وبذلك يندفع كثير من الأسئلة عن المسألة، كاستشكاله الفرق بينه وبين قوله عليه السلام إذا خرج من موضعه، فإنا نلتزم التسوية في أن الأمرين حجة في جميع المواطن.
قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): إجماع المدينة: نقل واجتهاد.
فالأول: ثلاثة أقسام: نقل شرع مبتدأ بقول، أو فعل، أو إقرار.
ونقل ترك كالصاع، والأذان، والأجناس، والمنبر.
والثاني: كنقلهم العمل المتصل في عهدة الرقيق.
والثالث: كترك أخذ الزكاة من الخضروات مع كثرتها بـ (المدينة)، ولم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده منها زكاة، فهذه حجة عندنا اتفاقًا، يترك لأجلها الأخبار والقياس والاجتهاد، وإجماعهم بالنظر والاجتهاد.
ففيه لأصحابنا ثلاثة أقوال:
قال ابن بكير والأبهري، وأبو الفرج، وغيرهم: ليس بحجة، ولا يرجح به أحد الاجتهادين، وأنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك وأصحابه.
وقيل: ليس بحجة، ولا يرجح به أحد الاجتهادين.
وقال ابن العدل، وابن بكير وغيرهما: هو حجة كالإجماع في النقل، ووقع لمالك في رسالته لليث بن سعد ما يدل عليه، وهذا مذهب أصحابنا المغاربة، ومتى كان الإجماع عن اجتهاد قوم الخبر عليه عند جمهور أصحابنا.
وقال بعض العلماء: إجماع (البصرة) حجة، وكذلك (الكوفة).
وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع: قيل: إجماع (الكوفة) مع (البصرة) حجة، فيتحصل فيهما ثلاثة أقوال:
المجموع، كل واحدة على حالها، (الكوفة) وحدها.
قوله: (لا يقتضي الخبر أن كل ما خرج من (المدينة) فهو خبث):
تقريره: أن الموجبة الكلية لا يجب انعكاسها، فقولنا:(كل خبث خارج من (المدينة)،) لا يقتضي أن كل خارج خبث، كما أنه إذا صدق:(كل إنسان حيوان) لا يلزم: كل حيوان إنسان، بل تنعكس جزئية لا كلية.
فيصدق أن بعض الخارج خبث كما يصدق بعض الحيوان إنسان، وهو صحيح نقول به.
قوله: (تقييد المطلق خلاف الأصل):
قلنا: لا نسلم أنه مطلق، بل عام؛ لأنه اسم جنس أضيف، وقوله عليه السلام:(خبثها) كقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) عام في جميع أفراد الماء والميتة.
فالجواب المتجه أن نقول: الأصل عدم التخصيص، ولا نقول: الأصل عدم التقييد، وبينهما فرق كبير تقدم، وهو أن التخصيص عكس التقييد، لأن التخصيص تنقيص، والتقييد زيادة على المسمي، ولذلك لا حاجة إلى قولكم:(الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها)، بل الاستدلال بصيغة العموم أولى.
قوله في الجواب عن قول السائل: لم لا يجوز تخصيصه بزمانه عليه السلام.
قال: (التخصيص خلاف الأصل):
قلنا: النص عام في جميع أفراد الخبث، مطلق في الأزمنة والأحوال، كما تقدم بيانه في تخصيص العموم، وإذا كان مطلقًا في الزمان لا يثبت التعميم، فلا يلزم التخصيص.
قوله: (قياس طردي في مقابلة النص):