الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث الثاني
قال الرازي: في حاله عليه السلام بعد النبوة
.
قال جمهور المعتزلة، وكثير من الفقهاء: إنه لم يكن متعبدا بشرع أحد.
وقال قوم من الفقهاء: بل كان متعبدا بذلك، إلا ما استثناه الدليل الناسخ، ثم اختلفوا، فقال قوم: كان متعبدا بشرع إبراهيم، وقيل: بشرع موسى، وقيل: بشرع عيسى.
واعلم أن من قال: غنه كان متعبدا بشرع من قبله: إما أن يريد به أن الله تعالى كان يوحى إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله، أو يريد: أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم.
فإن قالوا بالأول: فإما أن يقولوا به في كل شرعه، أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور.
والثاني مسلم، ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه كان متعبدا بشرع غيره؛ لأن ذلك يوهم التبعية، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان تبعا لغيره، بل كان أصلا في شرعه.
وأما الاحتمال الثاني، وهو: حقيقة المسألة: فيدل على بطلانة وجوه:
الأول: لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع في أحكام الحوادث إلى شرعه، ألا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه لم يفعل ذلك لوجهين:
الأول: أنه لو فعل، لاشتهر.
والثاني: أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة، فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال:" لو كان موسى حيا، لما وسعه إلا اتباعي " ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد.
فإن قيل: الملازمة ممنوعة؛ لاحتمال أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم علم في تلك الصور: أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله، فلا جرم توقف فيها على نزول الوحي، أو لأنه عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع، فانتظر الوحي.
أو لأن أحكام تلك الشرائع، إن كانت منقوله بالتواتر، فلا يحتاج في معرفتها الى الرجوع إليهم، وإلى كتبهم، وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها؛ لأن اولئك الرواة كانوا كفارا، ورواية الكافر غير مقوبلة.
سلمنا الملازمة، لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم، لما احتكم إليه اليهود.
والجواب: قوله: " إنما لم يرجع إليها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله ":
قلنا: فلما لم يرجع في شيء من الوقائع إليهم؛ لوجب أن يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله.
قوله " إنما لم يرجع إليها، لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع ":
قلنا: العلم بخلو كتبهم عنها، لا يحصل إلا بالطلب الشديد، والبحث الكثير، فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب.
قوله:" ذلك الحكم: إما أن يكون منقولا بالتواتر، أو بالآحاد ".
قلنا: يجوز أن يكون متن الدليل متواترا، إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير، وبحث دقيق، فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم، والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام.
قوله: " إنه رجع في ارجم إلى التوراة ":
قلنا: لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها، والدليل عليه أمور:
احدها: أنه لم يرجع إليها في غير الرجم.
وثانيها: أن التوراة محرفة عنده، فكيف يعتمد عليها؟
وثالثها: أن من أخبرة بوجود الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره.
فثبت أن رجوعه إليها، كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم، كما أنه ثابت في شرعه، فهو أيضا ثابت في شرعهم، وأنهم أنكروه كذبا وعنادا.
الحجة الثانية: أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأمصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله؛ ضرورة أن التأسي به واجب، وحيث لم يفعلوا ذلك ألبتة، علمنا بطلان ذلك.
الحجة الثالثة: أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه، إذا عدم حكم الحادثة في الكتاب والسنة، ولو كان متعبدا بحكم التوراة، كما تعبد بحكم الكتاب، لم يكن له العمل باجتهاد نفسه، حتى ينظر في التوراة والإنجيل.
فإن قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوب معاذا في العمل بالاجتهاد، إلا إذا
عدمه في الكتاب، والتوراة كتاب، ولأنه لم يذكر التوراة؛ لأن في القرآن آيات دالة على الرجوع إليها، كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا السبب.
قلت: الجواب عن الأول من وجهين:
الأول: أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن، فلا يحمل على غيره إلا بدليل.
الثاني: أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل، والعناية بتمييز المحرف منها عن غيره، كما عهده منه تعلم القرآن، وبه ظهر الجواب عن الثاني.
الحجة الرابعة: لو كانت تلك الكتب حجة علينا، لكان حفظها من فروض الكفايات؛ كما في القرآن والأخبار، ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم، حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرع، والربا في غير النسيئة، ودية الجنين، والرد بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين، وغير ذلك من الأحكام.
ولما لم ينقل عن واحد منهم، مع طول أعمارهم، وكثرة وقائعهم، واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما، وقد اسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم؛ كعبد الله بن سلام، وكعب، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، وكيف يحصل الياس قبل العلم! - دل على أنه ليس بحجة.
احتجوا بأمور:
أحدها: قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} [المائدة: 44]
وثانيها: قوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] أمره أن يقتدى بهم.
وثالثها: قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].
ورابعها: قوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123].
وخامسها: قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} [الشورى: 13].
والجواب عن الأول: أن قوله: {يحكم بها النبيون} [المائدة: 44] لا يمكن إجراؤه على ظاهرة؛ لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة، وذلك معلوم بالضرورة؛ فوجب:
إما تخصيص الحكم، وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه، وذلك لا يضرنا، فإن نبينا حكم بما فيه من معرفة الله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله.
أو تخصيص النبيين، وهو أن النبيين حكموا بكل ما فيه، وذلك لا يضرنا. وعن الثاني: أنه تعالى أمر بأن يقتدى بهدى مضاف إلى كلهم، وهداهم الذي التفقوا عليه هو الأصول، ودون ما وقع فيه النسخ.
وعن الثالث: أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا تشبيه الموحى به بالموحى به.
وعن الرابع: أن الملة محمولة على الأصول، دون الفروع، ويدل عليه أمور: