الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
قال الرازي: استدل أبو الحسن البصري على أن خبر أهل التواتر صدق
؛ وقال: لو كان كذبا، لكان المخبرون: إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا، أو لا، مع علمهم بكونه كذبا، والقسمان باطلان، فبطل كونه كذبا، فتعين كونه صدقا، فكان مفيدا للعلم.
إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون، مع علمهم بكونه كذبا؛ لأنهم على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب؛ لغرض ومرجح، أو لا لغرض ومرجح:
والثاني محال؛ أما أولا: فلأن الفعل لا يحصل في وقت دون وقت، إلا لمرجح؛ وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح، وهو محال.
وأما ثانيا: فلأن كونه كذبا جهة قبح؛ وجهة القبح صارفة عن الفعل، ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل، إلا لداع أقوى من ذلك الصارف.
وأما القسم الأول: وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض، فذلك الغرض إما نفس كونه كذبا، أو شيء آخر:
والأول: باطل؛ لأن كونه كذبا جهة صرف، لا جهة دعاء.
والثاني: باطل؛ لأن ذلك الغرض: إما أن يكون دينيا، أو دنيويا.
وعلى التقديرين: فإما أن يكون رغبة، أو رهبة.
وعلى التقديرات: فإما أن يقال: كلهم كذبوا لداع واحد من هذه الأقسام، أو يقال: فعله بعضهم؛ لبعض هذه الدواعي، وبعضهم للبعض الآخر.
وعلى كل التقديرات: فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل، أو لا بالتراسل، والأقسام كلها باطلة.
أما أنه لا يجوز أن يكون للدين: فلأن قبح الكذب متفق عليه، سواء كان ذلك بالعقل، أو بالشرع، فكان ذلك صارفا دينيا، لا داعيا دينيا.
وأما الرغبة الدنيوية: فقد تكون رجاء عوض على الكذب، أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا، وإن كان لا أصل له.
والأول باطل: لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة الكذب، وإن احتاج إليه، وكذا القول في القسم الثاني.
وأما الرهبة: فهي لا تكون إلا من السلطان، لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب؛ ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد؛ لأنه لا يعلم كل واحد منهم؛ حتى يجعله مضطرا إلى ذلك الكذب، ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام، مع أنهم، آخر الأمر، يقولونه؛ حتى يصير مشهورا بينهم.
ولأنا نعلم في كثير من الأمور: أنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه بالكذب، ولا يجوز أيضا أن يقال:(الجماعة العظيمة كذبوا؛ بعضهم للرغبة، وبعضهم للرهبة، وبعضهم للتدين) لأن كلامنا في جماعة عظيمة، أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي.
وأما القسم الثاني: وهو أنهم كذبوا، مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين، فذاك لا يمكن، إلا إذا اشتبه عليهم الشيء بغيره؛ والاشتباه في الضروريات باطل؛ وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة؛ وهذا إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة.
وأما عن توسط بين من أخبرنا، وبين من شاهد ذلك- واسطة واحدة، أو وسائط- فإنه لا يحصل العلم بخبرهم، إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر؛ وذلك إنما يعلم بطريقين:
الأول: أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر.
والثاني: أن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف، فلابد، وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه، ووقت حدوثه؛ فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت بعد أن لم تكن، لا جرم اشتهر فيما بين الناس وقت حدوثها؛ فلما لم يظهر شيء من ذلك، علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة.
هذا تمام الاستدلال، والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين: إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا، فذلك مسلم، أو اليقين، فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين؛ لأن التقسيم المفضي إلى اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والإثبات، ثم نبين فساد كل قسم سوى المطلوب بدليل قاطع، وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك.
فلنبين هذه الأشياء؛ فنقول: لم لا يجوز أن يقال: كذبوا، لا لغرض؟
قوله: (الفعل بدون المرجح محال):
قلنا: هذا لا يتم على مذهبك؛ لأنه يقتضي الجبر، وأنت لا تقول به.
بيان أنه يقتضي الجبر: أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك؛ وإلا لزم الجبر، فلو لم يترجح أحد الطرفين، إلا لمرجح، فذاك المرجح: إن كان من فعل العبد، عاد الطلب من أنه، لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر؟.
وإن كان ذلك؛ لمرجح آخر من فعله، لزم التسلسل، أو ينتهي إلى مرجح ليس من فعله، فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله: إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا، أو لا يكون واجبا: فإن كان الأول، لزم الجبر، وإن كان الثاني، فهو باطل، وبتقدير صحته: فالإلزام عليك وارد.
أما أنه باطل: فلأنه إذا لم يجب ترتب أثره عليه، جاز حينئذ ألا يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر، وجاز في وقت آخر أن يترتب؛ إذ لو لم يجز ذلك أصلا، لما كان ذلك مرجحا تماما، وكلامنا في المرجح التام، وإذا كان كذلك، فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت الآخر: إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت، دون الوقت الثاني، وإما ألا يكون كذلك:
فإن كان الأول: فقبل حصول تلك المزية: ما كان المرجح التام حاصلا، لكنا قد فرضناه حاصلا، هذا خلف، ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية، فنبين أنها من فعل الله، عز وجل، وبعد حصولها، فإن وجب ترتب الأثر عليها، لزم الجبر.
وإن لم يجب، افتقر إلى مزية أخرى، لا إلى نهاية؛ وهو محال.
وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل حصول مزية في ذلك الوقت، دون سائر الأوقات- كانت نسبة المزية إلى زماني
ترتب الأثر عليه، ولا ترتبه عليه- على السواء؛ ولا مرجح، ولا مخصص ألبتة؛ فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك المرجح، دون الوقت الثاني- يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي على الآخر، من غير مرجح، وهو محال.
وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير، يمتنع أن يكون فاعلا، وإذا حصل المرجح، وجب أن يكون فاعلا، وهذا هو الجبر، وأما بتقدير ألا يجب ذلك، فالإشكال وارد؛ لأن عند حصول مرجح الوجود، إذا جاز ألا يوجد الوجود، كان اللاوجود واقعا، لا عن مرجح أصلا، وإذا جوزت ذلك، بطل قولك:(الفعل لا يقع إلا عن الداعي) فلم لا يجوز إلا في أهل التواتر أن يكذبوا، لا لداع.
وأما قوله ثانيا: (كونه كذبا جهة صرف، لا جهة دعاء):
قلنا: هذا بناء على أن الكذب قبيح؛ لكونه كذبا، وقد مر الكلام في إبطاله في أول الكتاب.
سلمناه؛ لكن عند حصول الصارف، لو وجب الترك، وأنت لا تقول به.
وإن لم يجب: فقد جوزت عند حصول الصارف ألا يقع العدم، وجواز ألا يقع العدم يقتضي جوازه ألا يقع الوجود، فقد جوزت مع الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل؛ فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف امتناع أن يوجد الكذب؟!.
سلمنا أنه لابد من داع؛ فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب؛ لكونه كذبا؟ ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب، لا لغرض آخر سوى كونه كذبا.
فإن قلت: إنه من المحال: أن يشتهي العاقل الكذب، لمجرد كونه كذبا.
وإن سلمنا جوازه، لكان في حق الواحد والاثنين، أما في حق الجمع العظيم فمحال، وهذا كما أنه جاز على كل واحد منهم وحده أن يأكل، في الساعة المعينة، من اليوم المعين، طعاما واحدا، لكن لا يجوز اتفاق الكل عليه.
قلت: الجواب عن الأول: أنا لا نسلم امتناع ذلك، فما الدليل عليه، وكيف؛ ونرى جمعا اعتادوا الكذب؛ بحيث لا يصبرون عنه، وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم، عاجلا أو آجلا؟، وإذا كان، كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة.
وعن الثاني: نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل طعام معين، في زمان معين؛ لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك، كيف، وذلك جائز على كل واحد منهم؟ وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره عن الباقي، فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم، ومع هذه الحجة اليقينية على الجواز؛ كيف تدعى ضرورة الامتناع؟
سلمنا أنه لابد من غرض سوى كونه كذبا؛ فلم قلت: إن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا، أو رغبة أو رهبة، وما الدليل القاطع على الحصر؟
سلمناه؛ فلم لا يجوز أن يكون دينيا؟
قوله: (حرمة الكذب متفق عليها):
قلنا: مطلقا؟ لا نسلم؛ فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضي إلى حصول مصلحة في الدين جائز؛ ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات، وزعموا: أن غرضهم منه حمل الناس على العبادات؛ وإذا كان كذلك؛ فلعلهم اتفقوا على الكذب؛ لما أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية، وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه.
سلمنا أنه ليس الغرض دينيا؛ فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية؟
قوله: (الرغبة: إما أخذ المال، أو إسماع الغير كلاما غريبا):
قلنا: أين الدليل على الحصر؟ ثم أين الدليل القاطع على فساد هذين القسمين؟.
قوله: (الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب؛ لأجل هذين الغرضين):
قلنا: أن ادعيت الظن القوي، فلا نزاع؛ وإن ادعيت الجزم المانع من النقيض، فما الدليل عليه؟ فإنه إذا جاز ذلك في العشرة، أو المائة، ولم يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي؛ فلم قلت: إنه يمتنع كون الكل كذلك؟
والذي يؤكده: أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد، لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام، لتركوا الذهاب إلى بلدهم، ولو تركوا ذلك، لاختلت المعيشة في تلك البلدة، وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء، جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب، وإن كانوا كثيرين جدا؛ فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب؛ لأجل الرغبة، سلمنا ذلك، فلم لا يجوز أن يكون للرهبة؟
قوله: (السلطان لا يمكنه إسكات الكل):
قلنا: إن ادعيت الظن القوي، فمسلم، وإن ادعيت اليقين، فما الدليل عليه؟
فإنه إذا جاز إسكات الألف، والألفين رهبة؛ فلم لا يجوز إسكات الكل، وما الضابط فيما يجوز، وفيما لا يجوز؟
فإن قلت: أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة.
قلنا: هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام؛ فلم لا تدعون الضرورة في ذلك؛ حتى تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة؟!.
سلمنا ذلك؛ فلم لا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا؛ لدواع مختلفة، بعضهم للرغبة، وبعضهم للرهبة، وبعضهم بالمراسلة، وبعضهم بالمشافهة؟.
قوله: (الكلام في جماعة عظيمة، بعضها جماعات عظيمة):
قلنا: إما أن يكون من شرط أهل التواتر: أن يكون أبعاضهم بالغين حد التواتر، أو ليس من شرطهم ذلك:
والأول باطل؛ وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض كذلك؛ ولزم التسلسل.
والثاني حق؛ ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك؛ وحينئذ يبطل ما ذكروه.
سلمنا: أنهم ما كذبوا عمدا؛ فلم لا يجوز أن يقال: كذبوا سهوا؛ لأن الأمر اشتبه عليهم، والاشتباه حاصل في المحسوسات؛ بدليل العقل والنقل:
أما العقل: فمن وجهين:
الأول: أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا آخر مثل زيد في شكله، وفي تخطيطه، وبهذا التقدير لا يبقي اعتماد على التواتر؛ لجواز أن يكونوا قد رأوا مثل زيد، فظنوه زيدا.
ومما يؤكد ذلك: أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه؛ بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض، وكذلك الحيوانات؛ لاسيما البرية والجبلية قد تبلغ مشابهة بعضها بعضا إلى حد يعسر التمييز.
وإذا كان كذلك؛ فلم لا يجوز مثله في الناس؟ غايته أنه نادر، ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال.
فإن قلت: إن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد؛ لما فيه من التلبيس.
قلت: قد سبق جوابه.
الثاني: أن غلط الناظر أمر مشهور؛ فإن الإنسان قد يرى المتحرك ساكنا وبالعكس؛ ودلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات.
وأما النقل: فمن وجهين:
الأول: أن المسيح، عليه السلام، شبه بغيره.
فإن قلت: هذا لا يلزم؛ من وجوه:
أحدها: أن ذلك كان في زمان عيسى، عليه السلام، وخرق العادة جائز في زمان الأنبياء، دون سائر الأزمنة.
وثانيها: أن المطلوب تتغير خلقته وشكله؛ يكون الاشتباه أكثر.
وأما المباشرون لذلك العمل، فكانوا قليلين؛ فيجوز عليهم الكذب؛ عمدا.
وثالثها: أنهم نظروا إليه من بعيد؛ وذلك مظنة الاشتباه.
قلت: الجواب عن الأول: أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء، لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء؛ وحينئذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لجواز أن يكون شخصا آخر شبه به.
وأيضا: فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان؛ ككرامات الأولياء؟ فإن منعوها قلنا: هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين؛ فإنه لا يمنعها؛ ولأن بتقدير امتناعها، فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان، فقبل العلم بذلك البرهان، يكون التجويز قائما، والعلم بصحة خبر التواتر موقوف على فساد هذا الاحتمال؛ فوجب ألا يحصل العلم بخبر التواتر، لمن لم يعرف بالدليل امتناع الكرامات.
وعن الثاني: أن التغيير إنما يكون بعد الصلب والموت؛ فأما حال الصلب، فلا، وعندكم: أن الاشتباه حصل حال الصلب؛ لأنهم لو ميزوا بين ذلك الشخص، وبين المسيح، عليه السلام، لما صلبوا ذلك الشخص.
وعن الثالث: أن الذين مارسوا الصلب، كانوا قريبين منه، وناظرين إليه، ولأن النصارى يروون بالتواتر أنه بقى بعد الصلب، وقبل الموت مدة طويلة: بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار؛ وذلك يبطل قولكم.
الوجه الثاني: روي أن جبريل، عليه السلام، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الآدميين.
الوجه الثالث: أن الإنسان ربما يتشبح له عند الخوف الشديد، أو الغضب الشديد، أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج، وكل ذلك مما يؤكد احتمال الاشتباه.
سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة؛ فلم قلتم: إن خبر التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في كل الطبقات الماضية؟
قوله في الوجه الأول: (أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر):
قلنا: هذا بهت صريح؛ لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم: أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر، وأن الذين أخبروا كل واحد ممن أخبره كانوا كذلك، بل الذين يمكن ادعاؤه عليهم: أنهم سمعوا هذا الخبر من أناس كثيرين، فأما أن يدعي عليهم ما ذكرتموه، فبهت؛ لأن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها؛ فضلا عن العوام؛ فضلا عن أن يقال:(إنهم علموا ذلك بالضرورة).
قوله: (لو كان حادثا، لظهر زمان حدوثه):
قلنا: لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلابد وأن يشتهر فيما بين الخلق حدوث ظهورها، ووقت ظهورها؛ لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة، ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين، ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر لجماعة أخرى، من غير أن يسنده إلى القائل الأول؛ إلى أن يشتهر ذلك الخبر
جدا، مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة، ولا زمان حدوثها، وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس.
وبالجملة: فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال.
ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا: أن الوقائع الكبار التي وقعت لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام، بل كيفية وقائع نوح، وإدريس، وموسى، وعيسى، عليهم السلام لم ينقل شيء منها إلينا نقل الآحاد؛ فضلا عن التواتر، مع كونها من الأمور العظام، فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير واجب.
فإن قلت: (ذلك):؛ لتطاول مدتها، أو لعدم الداعي إلى نقلها).
قلت: فلابد من ضبط طول المدة وقصرها.
وأيضا: فيلزم ألا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم مفيدا للعلم؛ لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة، وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا، لاشتهر الواضع، وزمان الوضع، فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة، لم يفد ذلك الخبر العلم.
سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم؛ لكن معنا ما يبطله من وجوه:
الأول: لو أفاد خبر التواتر العلم، لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا؛ والقسمان باطلان، فالقول بالإفادة باطل.
إنما قلنا: إنه لا يفيد علما ضروريا؛ لأن العلم الضروري هو الذي لا يلزم من وقوع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه؛ وهاهنا يلزم من وقوع الشك
في غير هذه القضية وقوعه فيها؛ لأنا لو جوزنا أن يكذبوا، لا لغرض، أو لغرض؛ من رهبة أو رغبة، أو لوقوع التباس؛ فإن مع استحضار الشك في هذه المقدمات، لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه.
وإذا كان كذلك، لم يكن هذا ضروريا، ولا جائز أن يكون نظريا؛ لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان والمجانين؛ فكان يجب ألا يحصل لهم العلم، لكن الاعتقاد الذي في هذا الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله؛ فإذا لم يكن اعتقادهم علما، فكذا اعتقاد العقلاء.
الثاني: أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر؛ على ما مر بيانه؛ لكن اللبس يتطرق إليه؛ على ما مر؛ فوجب ألا يفيد العلم.
الثالث: لو حصل العلم عقيب، لتواتر لحصل: إما مع الجواز، أو مع الوجوب:
فإن حصل، مع جواز ألا يحصل، امتنع القطع بحصوله؛ فلا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم؛ لا محالة، بل يجري حصول العلم عقيب خبر التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب، ونعيق الغراب، وإن حصل مع الوجوب، فالمستلزم: إما قول واحد، أو قول المجموع:
الأول باطل، أما أولا: فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد العلم.
وأما ثانيا: فلأن قول كل واحد منهم، إذا كان مستقلا بالاستلزام، فإن وجدت الأقوال دفعة، لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة بالتأثير؛ وهو محال.
وإن وجدت على التعاقب، فإذا حصل الأثر بالسابق، استحال حصول ذلك الأثر بعينه باللاحق؛ لامتناع إيجاد الموجود، واستحال أيضا حصول مثله باللاحق؛ لاستحالة الجمع بين المثلين؛ فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن التأثير، فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول؛ وهو محال.
ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع؛ أما أولا: فلأن قول كل واحد: إن بقى عند الاجتماع، كما كان عند الانفراد، ولم يحدث عند الاجتماع أمر زائد ألبتة- فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عن الانفراد- وجب ألا يحصل عند الاجتماع.
وإن حدث أمر ما؛ إما بالزوال، أو بالحدوث، فإن كان المقتضى لذلك الحدوث قول كل واحد، عاد المحذور المذكور.
وإن كان المجموع: عاد التقسيم المذكور، وإن كان لحدوث أمر آخر، لزم التسلسل.
وأما ثانيا: وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية التي هي أمر عدمي، فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا؛ فإذا كان الموصوف بها هو المجموع، لزم حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة؛ وهو محال.
وأما ثالثا: فلأن التواتر في الأكثر: إنما يكون بورود الخبر عقيب الخبر، وإذا كان كذلك، كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود الثاني معدوما؛ فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا، فيستحيل أن يكون المؤثر هو المجموع؛ لأن الشيء ما لم يوجد في نفسه، لا يقتضي وجود غيره.
وأما رابعا: وهو الكلام المشهور في هذه المسألة: أن قول كل واحد، لما لم يكن مؤثرا، وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر؛ كما أن كل واحد من الزنج، لما لم يكن أبيض، استحال كون الكل أبيض.
الوجه الرابع: في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم؛ لأن المستلزم إما آحاد الحروف، وهو باطل، أو المجموع، وهو محال؛ لأن المجموع لا وجود له، وما لا وجود له، استحال أن يستلزم شيئا آخر.
فإن قلت: الموجب هو الحرف الأخير؛ بشرط وجود سائر الحروف قبله، أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف؟.
قلت: الشرط لابد من حصوله حال حصول الشرط، والحروف السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير.
وعن الثاني: أن مسبوقية الشيء بغيره لا تكون صفة، وإلا كانت صفة حادثة، فتكون مسبوقيتها بالغير صفة أخرى؛ ولزم التسلسل، وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها.
أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة- يفيد العلم؛ لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية- مفيدا للعلم، فقد احتجوا بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة؛ فوجب ألا يكون حجة.
بيان الأول: أن اليهود، والنصارى، والمجوس، والمانوية على كثرة كل فرقة منهم، وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند المسلمين؛ وذلك يقتضي القدح في التواتر.
فإن قلت: شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة؛ وهو غير حاصل في هذه الفرق؛ لأن اليهود قل عددهم في زمان بخت نصر، والنصارى كانوا قليلين في الابتداء، وكذا القول في المجوس والمانوية.
قلت: صدقتم؛ حيث قلتم: لابد من استواء الطرفين والواسطة؛ لكن الطريق إليه: إما العقل، أو النقل، أو ما هو مركب منهما.
والعقل المحض: لا يكفي.
وأما النقل: فإما من الواحد، أو من الجمع؛ وقول الواحد: إنما يفيد، لو كان معصوما، وهو مفقود في زماننا.
وأما الجمع: فهو أن يقال: إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم، يخبرون أنهم كانوا كذلك أبدا، لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك، فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك، فليس تصديق إحداهما، وتكذيب الأخرى أولى من العكس.
وأما المركب منهما: فهو أن يقال: لو كان خبرا موضوعا، لعرفنا أن الأمر كذلك، وقد عرفت ضعف هذه الطريقة، ثم إن جميع الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة، فليس قبول أحد القولين أولى من الآخر.
فأما الذي يقال: إن بخت نصر قتل اليهود؛ حتى لم يبق منهم عدد أهل التواتر.
قلنا: هذا محال؛ لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب يستحيل قتلها إلى هذا الحد.
وأما النصارى: فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر، لم يكن
شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه باطل باتفاق المسلمين، وهاهنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في (كتاب النهاية) فهذا تمام الاعتراضات.
وأعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات، لا شك أن فسادها أظهر من صحتها؛ لكن ذلك إنما يكفي في إدعاء الظن القوي: لا في إدعاء اليقين التام، وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة أن الذي قاله أبو الحسين؛ من أن الاستدلال بخبر التواتر على صدق المخبرين- أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان- ليس بصواب؛ بل لما فتحنا باب المناظرة، دق الكلام، ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات، وذلك لو أمكن، فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة؛ ومن البين لكل عاقل: أن علمه بوجود مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم أظهر من علمه بصحة هذه الدلالة، وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب؛ وبناء الواضح على الخفي غير جائز؛ فظهر أن الحق ما ذهبنا إليه من أن هذا العلم ضروري؛ وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة؛ لأن التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب.
المسألة الرابعة
قال القرافي: قوله: (استدل أبو الحسن على صدق التواتر بقوله: يستحيل أن يكون الكذب لا لغرض ومرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح):
قلنا: قولكم: (لغرض ومرجح) إن أردتم الجمع بين الأمرين، وأن الغرض غير المرجح، فلا يلزم من عدم مجموعهما الترجيح من غير مرجح؛ لجواز ثبوت أحدهما، فيكون هو المرجح، وإن أردتم أن الثاني هو عين
الأول، وهو ظاهر كلامهم، فيكون المرجح عندهم هو الغرض، وحينئذ أنه يلزم من عدمه الترجيح من غير مرجح؛ لأن الغرض يرجع إلى العلم باشتمال العقل على ملاءمة العالم بذلك، ومناسبة حاله، ولا يلزم من عدم العلم بالمناسبة الترجيح من غير مرجح؛ فإن الإدارة شاهدا وغائبا ترجح لذاتها، من غير احتياجها لمرجح، وحينئذ يكون هذا الفعل واقعا لمجرد الإرادة من غير غرض، ولا يصدق عليه أنه وقع من غير مرجح.
قوله: (كونه كذبا جهة صرف):
قلنا: هذا في غالب طباع الناس، أما الطباع الخبيثة فهو جهة حث عندنا، وتلك الفرقة غير معلومة التمييز، فيجوز أن يكون هؤلاء المجيزون منهم أو بعضهم، وحينئذ لا يحصل العلم.
سلمنا أنه جهة صرف الكل، لكن لا نسلم أنه ينتهي في الصرف إلى حد الاستحالة والقهر، فلعله مما تهجم الإرادة عليه من غير معارض له، وحينئذ لا يمتنع وقوعه.
قوله لأبي الحسين: (لو توقف الفعل على الدواعي لزم الخبر، وأنت لا تقول به).
قلنا: لا نسلم أنه لا يقول به؛ لأن الخبر الذي لا تقول به المعتزلة هو الخبر العادي، أما الخبر الفعلي فلا ينكره أحد، وقد تقدم الكلام على هذا المقام، وجميع المقامات أول الكتاب في مسألة الحسن.
قوله: (مر الكلام على أن الكذب ليس بقبيح لكونه كذبا):
قلنا: الذي تقدم ليس قبيحا لكونه كذبا، بمعنى إيجابه الثواب والعقاب ونحو ذلك، أما كونه منافرا للطبع فلم يتقدم إبطاله، ولا يردي أبو الحسين بأنه جهة صرف إلا ذلك.
قوله: (صدور الكذب عن الواحد جائز، وصدوره عن الواحد لا يمنع
صدوره عن الثاني، فيكون صدوره عن الكل كصدوره عن الواحد، وهذه حجة يقينية في الجواز):
قلنا: هذه حجة يقينية على عموم الجواز عقلا، والخصم يسلم ذلك عقلا، إنما هو يدعي الامتناع عادة، ولا تنافي بينهما؛ فإن العادة قد تجيز في الفرد، وتمنع في الكل كما تخبر العادة في كل فرد من الناس أنه من الأولياء المقربين، ويحيل ذلك في الكل، ويجيز في زيد المعين ألا يروى الآن بشر الماء، ويحيل ذلك في الكل، فمن المجاز عادة ألا يروى الماء أحد من الحيوانات إلى قيام الساعة، وتجيز العادة أن هذا الصغير يصير شيخا، ويحيل أن جميع صغار الدنيا يصيرون شيوخا، بل يقطع أنه لابد أن يموت من الناس خلق كثير قبل الهرم، ونظائره كثيرة، فحينئذ لا يلزم من الجواز العادي في البعض جوازه في الكل.
قوله: (جمع من الزهاد وضعوا الأحاديث كذبا تدينا).
قلت: قد بين ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) له في أسباب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقيل لبعضهم: ألم تسمع قوله عليه السلام: (من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) فأجاب بأن قال: (نحن كذبنا له ما كذبنا عليه) يشير قصدنا تكثير العبادات من الناس.
قوله: (الحيوانات الجبلية تتشابه).
تقريره: أن الحيوانات البرية يغلب عليها الاستواء في مرعاها، ومائها وهوائها، ومكانها، فتكون نطفها متشابهة الأجزاء، وأحوالها العارضة لها بعد الوضع من الماء والمكان وغيره متشابهة، فيغلب عليها التشابه، بخلاف الحيوانات الإنسية، فإنها مختلفة الأغذية، والأمكنة، وغالب الأحوال العارضة، فإن الناس في هيئة الدواب مختلفون فيما يحاولونه في داوبهم، فتكون نطفهم مختلفة، وأحوالهم العارضة بهم بعد الوضع مختلفة، فيغلب عليها الاختلاف.
قوله: (إن احتمال الاشتباه يمنع اليقين):
قلنا: إن أخبرونا أن هذا المشاهد هو الذي كنا شاهدناه لم يحصل العلم ليس لأجل ما ذكرتموه، بل لأن هذا عدم فيه شرط التواتر، فإنهم أخبروا عن غير محسوس؛ فإن كون هذا ذاك مما لا يستفاد بالحس، بل القرائن الحالية والعادية، فإن العلم حاصل بأن ولدي هذا هو الذي كنت أعلمه، ورأيته قبل هذا، والتشكيك في ذلك بهذه الاحتمالات العقلية لا يمنع حصول العلم العادي، وإن أخبرونا بأن المشاهد لهم قال كلاما هو كذا، فهذا لا يقدح فيه ما ذكرتموه من الاحتمال؛ لأنهم لم يتعرضوا إلى أن المخبر لهم هو الذي كان بالأمس.
فإن قلت: فالتواتر عن الرسل المعينة في الرسائل الربانية لا يتأتى إلا ببقاء أشخاصهم، والقطع بذلك، فكيف يحصل لنا العلم بأن الرسول المعين هو الذي قال هذا الكلام.
قلت: المدرك في ذلك ما تقدم من أن العلوم العادية لا تقدح فيها الاحتمالات العقلية، ونحن نقطع يقينا جازما بأن آباءنا وأبنائنا هم الذين كنا نشاهدهم بالأمس، وكلك مساكننا وكتبنا، وآلات بيوتنا، فضلا عن الرسل الكرام- صلوات الله عليهم أجمعين-، فكذلك نقطع بأن الذي نقل عنه أهل التواتر هو الرسول المعين.
فإن قلت: لو أخبرك من تعتقد فيه الولاية أن الله- تعالى- خرق له العادة في هذه الأمور، وأورد أنه يدل بظهورها على ذلك صدقناها كما في آية الصلب، فكيف دفعت القطع بالظن الناشئ عن ظاهر حال الولي، وظهور دلالة الآية، وكيف أمكن هجوم هذا الظن على النفس مع تكيفها باليقين السابق، والعادة تحيل ارتفاع الراجح عن النفس بالمرجوح لاسيما العلم بالظن؟.
قلت: هذه شبهة قوية أدت بعض المسلمين إلى اعتقاد الصلب، وهو كفر، ومنعت بعضهم من اعتقاد كرامات الأولياء.
والجواب: أن متعلق القطع غير متعلق الظن؛ لأنا إنما قطعنا بالأمور العادية، مع بقاء الأسباب التي جرت بها العادة، ولم نقطع بأنه إذا حدث سبب آخر تبقى هذه الأمور على أوضاعها، فإنا نقطع بأن هذا الشيخ لم يولد شيخا؛ بناء على الأسباب العادية، وإحالة أمره على التوليد، والتناسل الصرف.
وأما إذا عرض سبب آخر من إرادة الله- تعالى- كرامة ولي، أو معجزة نبي، فليس كذلك، وكذلك إذا أخبر الله- تعالى- أني أردت أن أشبه لبني إسرائيل، أو أن أفتنهم بأمر عيسى- عليه السلام فنقول: هذا ليس من الأسباب التي كانت معنا في العادة، نحن إنما نقطع بشرط عدم الترديد في تلك الأسباب، والتغيير فيها، وحينئذ تكون هذه الحالة المتجددة لا علم فيها ولا ظن، فلذلك قبلنا فيها ظواهر الآيات، وأخبار الصلحاء، وتمكنت النفس من قبول هذا الظن، لأنها لم تتكيف نفيه بمانع كما يحيله السائل وهذا الكلام مبسوط في (شرح الأربعين في أصول الدين) للإمام فخر الدين، وليس هذا موضعه.
قوله: (ما جاز في زمن الأنبياء- عليهم السلام جاز مثله في غيره من الأزمنة):
قلنا: لا نسلم؛ فإن الأزمنة وإن كانت متماثلة، وما جاز على بعضها جاز على كلها، لكن الجائز قد تدل القرائن على امتناع وقوعه كما تقدم في جزمنا بأولادنا وأهلينا.
قوله: (النصارى يروون بالتواتر أن عيسى- عليه السلام بقى بعد الصلب، وقبل الموت مدة طويلة):
قلنا: النصارى كاذبون في ذلك، ولم يحققوا شرائط التواتر، وهي منفية من جهة عدم بيان استواء الطرفين، والواسطة والمنقول عندهم أن الحواريين، وأصحابه السبعين هربوا إلا حواريا واحدا أخذ عليه البرطيل ثلاثين درهما، وحينئذ لم يبق إلا المأمورون بالصلب، ولعلهم كانوا قليلين، أو دون العشرة، فأين شرط التواتر؟
قوله: (جبريل- عليه السلام كان يتلبس على الصحابة رضوان الله عليهم):
قلنا: قد تقدم أن العلوم العادية إنما هي مبنية على الأسباب الخاصة، ولا يلزم ذلك عند تغير الأسباب، وهاهنا حدث سبب آخر، وهو أن أطوار الملائكة لها، وللجن التشكل بأي شكل أرادوا، وجعل لهم التقلب في الهيئات كما جعل لنا التقلب في الحركات، وهذا القسم خارج عن الأسباب التي يحصل فيها لنا بأن زيدا هذا هو الذي كنا نشاهده بالأمس، فإن معناها أن زيدا ما دام حال على نمط العادة فيستحيل عادة أن الله- تعالى- غيره بمثله، هذا نوع آخر ليس من ذلك.
قوله: (الخائف يرى صورا لا حقائق لها):
قلنا: تلك الخبرة تهيج في الجسد لأجل الحركة النفسانية من الخوف، أو الغضب، أو المرض، فيصعد إلى العينين، فينطبع في صقال الرطوبة الجليدية، فيشاهد بالروح الباصر خارجا على نوع من الانعكاس في صفاء الهواء، على ما تقرر بسطه في علم المناظرة، وإن رأى أشكال الآدميين والأشجار فذلك؛ لأن القوة الحافظة أبرزت ما فيها من الصور المستحفظة إلى القوة المتخيلة في الرطوبة الجليدية، فيرى في الخارج على نوع من الانعكاس في جوهر الهواء، وقد بسطت ذلك في كتاب:(الاستبصار فيما تدركه الأبصار) ويرجع حاصل الجواب إلى أن هذا سبب آخر غير السبب العادي الذي جزم العقل لأجله.
قوله: (لو حصل العلم عقيب التواتر، فإما مع وجوب أن يحصل، أو مع جواز أن يحصل):
قلنا: مع وجوب أن يحصل.
قوله: (المقتضي بذلك الوجوب، إما كل واحد واحد أو المجموع).
قلنا: العلم الحاصل إنما هو بقدرة الله- تعالى- أجرى عادته- تعالى- أن يخلقه عقيب حصول هذه الإخبارات، فمتى حصل مجموع تلك الإخبارات في النفس خلق الله- تعالى- ذلك العلم على سبيل اللزوم العادي لا على سبيل الإيجاب من تلك الإخبارات، وخلقه- تعالى- العلم عقيب هذا المجموع، كخلقه- تعالى- الري عقيب مجموع قطرات الماء، والشبع عقيب مجموع اللبابات، وإنضاج الطعام عقيب توالي أفراد تلك التسخينات، ونظائره كثيرة في العالم، والكل بقدرة الله- تعالى- على سبيل اللزوم العادي، وكونه عقيب تلك الأمور من باب الربط الإلهي، ولو شاء الله- تعالى- لم يحصل ذلك الربط، وهو الخالق لهذه الآثار في