الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثالث
فيما ظن أنه ناسخ، وليس كذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى
قال الرازي: اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات
، ولا زيادة صلاة على الصلوات، وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا؛ لقوله تعالى:{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] لانه يجعل ما كان وسطي غير وسطي.
فقيل لهم: ينبغي أن تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا؛ لأنه يجعل العباداة الأخيرة غير أخيرة، ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة، فبعد الزيادة لا يبقى ذلك، فيكون نسخا.
أما الزيادة التي لا تكون كذلك: فقد اختلفوا فيها، فمذهب الشافعي، رضي الله عنه: أنها ليست نسخا، وهو قول أبي علي، وأبي هاشم، وقالت الحنيفية: إنها نسخ، ومنهم من فصل، ونذكر فيه وجهين:
أحدهما: أن النص إن أفاد من جهة الخطاب، أو الشرط، خلاف ما أفادته الزيادة، كانت الزيادة نسخا، وإلا فلا.
وثانيهما: قول القاضي عبد الجبار: إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شديدا، حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها، كان وجوده كعدمه، ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا، نحو زيادة ركعة على ركعتين.
وإن كان المزيد عليه، لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة، فصح فعله، واعتد به، ولم يلزم استئناف فعله، وإنما يلزم أن يضم إليه غيره لم يكن نسخا؛ نحو زيادة التغريب على الجلد، وزيادة عشرين على حد القذف.
واعلم أن لابي الحسين البصري، رحمه الله، طريقة في هذه المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها، فقال: النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة:
أحدها: أن الزيادة على النص، هل تقتضي زوال أمر، أم لا؟ والحق: أنه يقتضيه؛ لأن إثبات كل شيء، لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان.
وثانيها: أن هذه الإزالة، هل تسمى نسخا؟
والحق: أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا، وكانت الزيادة متراخية عنه، سميت تلك الإزالة نسخا، وإن كان حكما عقليا، وهو البراءة الأصلية، لم تسم تلك الإزالة نسخا.
وثالثها: أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس، أم لا؟
والحق: أنه إن كان الزائل حكم العقل، وهو البراءة الأصلية، جاز ذلك، إلا ان يمنع منه مانع خارجي، كما لو قيل: خبر الواحد لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات؛ إلا أن هذه الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ.
وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا، فلينظر في دليل الزيادة، فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل، جاز إثبات الزيادة، وإلا فلا.
فهذا حظ البحث الأصولي، ولنحقق ذلك في المسائل الفقهية المفرعة على هذا الأصل، وهي ثمانية:
الحكم الأول: زيادة التغريب، أو زيادة عشرين على جلد ثمانين: لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على الثمانين، وهذا النفي غير معلوم بالشرع؛ لأن إيجاب الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد، وبين إيجابه مع ثبوت الزيادة، وما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز، فإيجاب الثمانين لا إشعار له ألبتة بالزائد لا نفيا، ولا إثباتا، إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل، فإن البراءة الأصلية معلومة بالعقل، ولم ينقلنا عنه دليل شرعي، وإذا كان ذلك حكما عقليا، جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه، إلأا أن يمنع مانع سوى النسخ.
وأما كون الثمانين وحدها مجزية، وكونها وحدها كمال الحد، وتعليق الرد بالشهادة عليها: كل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة، فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل، جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه، فكما أن الفروض لو كانت خمسا، لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف، وقبول الشهادة، فلو زيد فيها شيء آخر، لتوقف الخروج عن عدة التكليف، وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع، مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس، فكذا هاهنا.
أما لو قال الله تعالى: " الثمانون كمال الحد، وعليها وحده يتعلق رد الشهادة "
لم نقبل في الزيادة هاهنا خبر الواحد والقياس؛ لأن نفيوجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر، وأيضا لو كان إيجاب الثانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس، لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس.
الحكم الثاني: تقييد الرقبة بالإيمان: هو في معنى التخصيص؛ لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب، فإن كان القتضى لهذا التقييد خبر واحد، أو قياساً،
وكان متراخيا، لم يقبل؛ لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة، فتأخير حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه، فلم يقبل فيه خبر واحد، ولا قياس، وإن كانا متقارنين، فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس يجوز.
الحكم الثالث: إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه، ثم سرق، فإباحة قطع
رجله الأخرى رفع لحظر قطعها، وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس، ولم يسم نسخا.
الحكم الرابع: إذا أمرنا الله تعالى بفعل، أو قال:" هو واجب عليكم " ثم خيرنا بين فعله، وبين فعل آخر، فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه علينا، إلا أن حظر تركه كان معموما بالبقاء على حكم العقل، وذلك لأن قوله:" أوجبت عليكم هذا الفعل " يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم، وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر، وإنما نعلم أن غيره لا يقوم مقامه؛ لأن الأصل: أن غيره غير واجب، ولو كان واجبا بالشرع، لدل عليه دليل شرعي، فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن الاصل نفي وجوبه، مع نفي دليل شرعي، فالمثبت لوجوبه: إنما رفع حكما عقليا، فجاز أن يثبته بقياس، أو خبر واحد.
مثال ذلك: أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين، ثم يخبرنا بينه، وبين المسح على الخفين، وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين، ثم أبت معهما ثالثا.
فأما إذا قال الله تعالى: " هذا الفعل واجب وحده " أو قال: " لا يقوم غيره مقامه " فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل شرعي؛ لأن قوله:
" هذا واجب وحده " صريح في نفي وجوب غيره، فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي، فلم يجز كونه خبر واحد، ولا قياسا.
فأما قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان} [البقرة: 282] فهو تخيير بين استشهاد رجلين، أو رجل وامرأتين، والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير.
وقد بينا: أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ن ومن قال: الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية، يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى:{فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6].
الحكم الخامس: إذا كانت الصلاة ركعتين فقط، فزيد عليها ركعة أخرى قبل التشهد: فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين، وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة؛ فلا يثبت بخبر واحد، ولا قياس، وليس ذلك نسخا للركعتين؛ لأن النسخ لا يتناول الأفعال، ولا هو نسخا لوجوبهما؛ فإنه ثابت، ولا هو نسخا لإجزائهما؛ لأنهما مجزئتان؛ وإنما كانتا مجزئتين من دون ركعة أخرى، والآن لا يجزئان إلا مع ركعة أخرى، وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى، ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبهما، ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل، فلم يمتنع من هذه الجهة أن يقبل فيه خبر الواحد والقياس.
وأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد، وقبل التحلل: فإنه يكون نسخا لوجوب
التحلل بالتسليم، أو يكون ناسخا لكونه ندبا، وذلك حكم شرعي معلوم، فلم يجز أن يقبل فيه خبر الواحد، ولا القياس.
فأما كونه ناسخا للركعتين، أو لوجوبهما، أو لإجزائهما، فالقول فيه ما ذكرناه الآن.
الحكم السادس: زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها، ولا لوجوبها، وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذك العضو؛ وذلك النفي معلوم بالعقل، وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة.
فأما كون الصلاة غير مجزئة بعد زيادة الشرط الثاني، فهو تابع لوجوب ذلك الشرط، وإجزاؤها تابع لنفي وجوبه، ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع، فكذلك ما يتبعه، فجاز قبول خبر الواحد، والقياس فيه، هذا إن لم تكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي، عليه الصلاة والسلام، باضطرار، فأما إن علمناه باضطرار، فقد صار معلوما بالشرع، مقطوعا به، فلم يجز بخبر الواحد والقياس.
الحكم السابع: قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه يفيد كون أول الليل طرفا وغاية للصيام، كما يفيده، لو قال تعالى:" آخر الصيام وغايته الليل " لأن لفظة (إلى) موضوعة للغاية، فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يخرج أوله عن أن يكون طرفا، مع أن الخطاب يفيده، وفي ذلك كونه حقيقة، فلا يقبل فيه خبر واحد، ولا قياس؛ لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع.
أما لو قال: " صوموا النهار " ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة الشفق،
لم يكن ذلك نسخا، لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النصر؛ لأن النص لم يتعرض لليل، وإنما نفينا الصوم بالليل؛ لأن الأصل أن لا صوم، وقامت الدلالة في النار خاصة على وجوب الصوم، فبقى الليل على حكم العقل.
الحكم الثامن: لو قال الله تعالى:" صلوا، إن كنتم متطهرين " فإنه لا يمتنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة؛ لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا؛ إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان؛ وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل؛ لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون له غاية.
وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا، فلم يعلم إلا بالعقل، فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي، والله أعلم.
القسم الثالث
فيما ظن أنه ناسخ
قال القرافي: قال سيف الدين: منهم من قال: إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال، كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح؛ فهو نسخ، وإن لم يكن كذلك كزيادة عشرين جلدة على حد القذف، فلا يكون نسخا، وهو اختيار الغزالي.
قوله: " إنما جعل أهل (العراق) زيادة صلاة على الصلوات نسخا لكونها تصير الوسطى غير وسطي ".
تقريره: أن الصلاة الوسطى فيها ندب شرعي في المحافظة عليها تختص به دون سائر الصلوات، والندب حكم يقبل النسخ، واختلف العلماء في لفظ (وسطى)، هل هو من قول العرب:" فلان وسط في قومه "، أي: خيار، ومنه قوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا أو هو من التوسط بمعنى آخر؟ وفيه مذاهب:
قيل: من التوسط بين الصلوات، فتكون العصر؛ لتوسطها بين صلاتين قبلها: الصبح والظهر، وصلاتين بعدها: المغرب والعشاء.
وقيل: لتوسطها بين الليل والنهار، فتكون الصبح؛ لأنها بينهما.
وقيل: لتوسط عددها، فتكون المغرب؛ لأنها لا رباعية ولا ثنائية، بل ثلاثية الركعات، والمدرك عند الحنفية في حكم الندب كونها توسطت بين الصلوات، والتوسط بين الصلوات إنما يتصور إذا كانت الصلوات عددا فردا، أم الزوج فيتعذر التوسط فيه فإنك إذا قسمته نصفين لا يبقى شيء يتوسط، بخلاف العدد الفرد يفضل أبدا منه واحد يتوسط، فإذا زيد على الصلوات الخمس صلاة أخرى، الوتر أو غيرها صارت ستا، فيبطل وضع التوسط الذي هو مدرك الحكم، فيبطل الحكم، فقد استلزمت الزيادة نسخ هذا الحكم.
قوله: " يلزم مثله في الأخيرة؛ فإن الزيادة تصيرها غير أخيرة ".
قلنا: لا يلزمهم ذلك؛ فإن وصف كونها أخيرة لم يترتب عليه حكم شرعي يرتفع بخلاف الوسطى كما تقدم تقريره.
قوله: " إن أفاد النص من جهة دليل الخطاب، أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخاً ".
تقريره: أن دليل الخطاب هو مفهوم المخالفة كما إذا قال عليه السلام: " في الغنم السائمة الزكاة "، ثم قال عليه السلام:" في المعلوفة الزكاة ".
فإن دليل الخطاب ينفي مقتضى هذه الزيادة والشرط، كما لو قال عليه السلام:" في الغنم الزكاة إن كانت سائمة "، ثم يقول عليه السلام:" في الغنم المعلوفة الزكاة "، ومقصود هذا القائل أن النفي كان ثابتا بدليل شرعي، ورفع ما ثبت في الشرع، فيكون نسخا، وسيعلم أن هذا لا يصح، وأن تقرير الشرع للنفي بصريح اللفظ لا يكون المخالفة له بعد ذلك نسخا، فما عول على مدرك صحيح.
قوله: " إن غيرت بعدم الإجزاء كان نسخا، وإلا فلا ".
قلنا: وهذا المدرك أيضا ضعيف؛ لأن المرتفع هو الإجزاء الكائن قبل الزيادة، والإجزاء معناه أن الشرع لم يوجب ضم شيء آخر إليه، فهو يرجع إلى البراءة الأصلية، ورفع البراءة الأصلية ليس نسخا في إصطلاح العلماء، وهو المقصود هانا كما إذا قال القائل: من حج مرة واحدة أجزأ عنه، فقال له: لم يجزئ عنه، فيقول: لأن الله تعالى لم يوجب غيرها، فيشير إلى البراءة الأصلية، ويقول: من صام نصف رمضان لا يجزئ عنه، فيقال له: لم؟ فيقول: لأن الله تعالى أوجب صوم جملته، فظهر أن الإجزاء راجع إلى البراءة الأصلية، ورفعها ليس نسخا إجماعا.
قوله: " إذا قال الله تعالى: " الثمانون كمال الحد " لا يقبل خبر الواحد في الزيادة ".
تقريره: أن خبر الواحد هاهنا يرد لا لأجل النسخ؛ بل لأنه إذا تعارض تواتر وآحاد معلوم ومظنون، وليس بينهما عموم وخصوص، قدم المعلوم على المظنون.
قوله: " تقييد الرقبة بالإيمان في معنى العموم فإن تراخي خبر الواحد، أو القياس لم يقبل في التقييد؛ لأنه عين النسخ، ولا ينسخ المتواتر بالآحاد ".
قلنا: ليس عتق الكافرة كان يقرر بالقرآن، بل المطلق دل على القدر المشترك بين جميع الرقاب، والتخيير وقع بمقتضى العقل؛ فإن السيد إذا قال لعبده:" ائتني بدرهم " اقتضى العقل تخييره بين جميع الدراهم.
وكما قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 110]، ونحن نتخير بين بقاع الدنيا في إيقاع الصلاة فيها، ونتخير بين مياه الدنيا في الطهارة، لا أن ذلك التخيير بمقتضى القرآن المتواتر، بل الثابت بالقران هو الماهية المشتركة فقط، وإذا كان عتق الكافرة وغيرها من المحرمات والأنواع إنما هو بدليل العقل، كان لنا ان نقبل فيه خبر الواحد، وتراخيه لا يمتنع قبوله، كما إذا استمر في الشريعة ترك الصلاة أو غيرها من الأحكام مدة؛ لعدم ورورد الخطاب فيها، ثم ورد خبر واحد، فإنا نقبله، ولا نعده نسخا، فكذلك هاهنا، وكذلك نقول: التقييد ضد التخصيص؛ لأن التقييد زيادة على مقتضى النص مع توفية النص مقتضاه، والتخصيص تنقيص لمقتضى النص؛ لأنه إخراج بعض ما تناوله النص، فظهر حينئذ أن التقييد لم يعارض الأصل، فلا يكون ناسخا له؛ لأن من شرط الناسخ أن يكون معارضا، وأن المكنة من جميع أفراد المطلق ليس باللفظ بل بالعقل، وأن رفع الحكم ليس نسخا، وأن تأخر الخبر عن نص الإطلاق لا يوجب نسخا فيه، كالتأخر عن أصول الشريعة كلها وفورعها.
قوله: " حظر قطع رجل السارق ثبت بالعقل ".
قلنا: لا نسلم أن في رجل السارق حظرا؛ لأن قاعدتها أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرائع، وإذا انتفى مطلق الحكم انتفى الحظر وغيره، بل حظر النفوس والأعضاء إنما علم بالنصوص الشرعية، وقتلنا للناس قبل
الشرائع كقتل السبع لزيد اليوم، فكما أن قتل السبع لا يوصف بالحظر ولا بغيره إلا بدليل السمع، فالحاصل أنا نساعدك على أنه ليس نسخا، لكن نمنعكم ثبوت الحظر فقط، بل لا حكم ألبتة، والخبر حينئذ مثبت بحكم أصلي، وكذلك القياس.
قوله في الحكم الرابع: " إذا قال الله تعالى: هذا الفعل واجب وحده، أو لا يقوم غيره مقامه، فإن إثبات بدله لا يكون بالخبر، ولا بالقياس ".
قلنا: إن أردتم أن هذا النفي في وجوب الغير، وعدم قيامه مقام الواجب معلوم بالتواتر، فلا يرفع بخبر الآحاد؛ لأن تقديم المعلوم على المظنون متعين؛ لأنه من باب النسخ فهذا مسلم، وإن أردتم أنه من باب نسخ المعلوم بالمظنون، فممنوع؛ لأن الإخبار عن عدم الحكم، وعن البراءة الأصلية لا يكون حكما شرعيا، بل خبر صرف، يدل على ذلك أن الله تعالى لو بعث رسولا فقال:" إن الله تعالى يخبركم أنه لا يكلفكم في هذه السنة، وأن أفعالكم لا حكم لها عنده، بل تجري مجرى أفعال البهائم " ثم طرأ بعد ذلك حكم في هذه السنة لم يكن ذلك نسخا لعدم الحكم الشرعي السابق، ويجعله إما تخصصا أو إطلاقا، فاللفظ (السنة) على بعضها من باب إطلاق الجزء على الكل، ويحتمل أن يكون نسخا لعدم تقدم الحكم.
قوله: " التخيير بين العبادة وغيرها ليس نسخا؛ بناء على أن عدم البدل يرجع إلى عدم مشروعيته وهو مشكل؛ لأن التخيير بين الواجب وغيره يسقط وجوب الخصوص، والخصوص والعموم أمران متغايران، وجوب أحدهما غير وجوب الآخر، فيكون ذلك نسخا كما لو نسخ تعين الظهر في إقامتها بعد الزوال، وبهذا يظهر الفرق بين هذا المثال، وبين إيجاب الصوم إلى الزوال، وما معه من النظائر؛ لأن المرفوع في تلك النظائر البراءة الأصلية،
وهاهنا وجوب الوجوب حكم شرعي، ولذلك نقول: تقرير الشرع عدم الحرج في المباح حكم شرعي؛ لأن العقل كان يجوز أن الله تعالى يعاقب قبل الشرائع، فإذا أتى الشرع بعدم الحرج، فقد أنشأ ما لم يكن، وهو تعيين عدم وقوع ذلك الجائز، وهو يدل على الإباحة القائمة بذات الله تعالى التي هي حكم شرعي، وقبل ذلك ما كنا ندري، ما أقام بذات الله تعالى.
قوله: " إذا زاد الله تعالى ركعة في الصلاة كان ذلك نسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين ".
قلنا: كان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي يمنع في هذا الموضع، ويقول: لم يوجب الله تعالى التشهد في آخر الصلاة لكونه عقيب ركعتين، بل لكونه آخر الصلاة، ولذلك إنا نتشهد عقيب ركعتين في الصبح، وعقيب ثلاث في المغرب، وعقيب أربع في الظهر، والمقصود في الجميع آخر الصلاة، وإذا كان التشهد إنما شرع آخر الصلاة، فإذا تشهدنا بعد الزيادة، فقد تشهدنا آخر الصلاة، فما ارتفع حكم شرعي بتأخير التشهد، بل المرتفع حكم عقلي، وهو عدم وجوب الزيادة بوجوبها، وأما التشهد والسلام فلم يرتفع من أحوالهما شيء هو حكم شرعي ألبتة.
قوله: " ليست الزيادة ناسخة لإحدى الركعتين المتقدمتين؛ لأنهما مجزيتان مع الزيادة ".
قلنا: لو لم يصيرا مجزيتين لم يكن ذلك نسخا؛ لأن الإجزاء في الفعل معناه أن الذمة تبقى بعد بريئة، وبراءتها بعده ترجع لعدم التكليف، وعدم التكليف ليس حكما شرعيا، فرفع الإجزاء ليس نسخا، وهذا المنع يرجع إلى قاعدة أن الأمر يدل على الإجزاء أم لا؟.
فإن قلنا: " لا يدل " كان أشد؛ لوروده.
وإن قلنا: " يدل " فمعناه أن الأمر اقتضاء أن ذلك الفعل سبب للبراءة، ودلالة لفظ الشرع على أن الفعل سبب هل هو من خطاب الوضع بالأسباب، والشروط، والموانع، فيكون رفع الإجزاء رافعا للسببية، فيكون نسخا؟.
أو معناه أن ذلك لازم للوجوب بمعنى أن من لوازم إيجاب الشيء كون ذلك الواجب سببا للبراءة منه، ويكون هذا اللازم كلزوم العقاب للترك، وليس من باب خطاب الوضع، فلا يكون الإخبار بعد ذلك به نسخا؛ لأن ذلك اللازم ليس حكما شرعيا، كما لو قال:" لأعاقبنكم على ترك هذا الواجب، واعملوا ما شئتم، فمغفور لكم "، فإن ذلك ليس نسخا، والموضوع محتمل لهذا البحث، والأخير هو الذي يرجح عندي؛ لأن الإجزاء عن الأوامر ثابت قبل الشرع بمقتضى اللغة، فكل من أمر عبده قبل الشرع، فإن العبد إذا فعل ذلك الواجب بريء منه، وأجزأ عنه، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون حكما شرعيا.
قوله: " إذا زيدت ركعة بعد التشهد، وقبل التحلل، فإنه يكون نسخا؛ لوجوب التحلل بالتسليم، وذلك حكم شرعي ".
قلنا: هاهنا منع الخسروشاهي في أن التحلل إنما شرع آخر الصلاة، فلم يتغير من السلام شيء لا في وجوبه، ولا في ندبيته، وأما اتصاله بالتشهد، فلم يتعرضوا له وهو موضوع بحث، فإن ثبت بدليل شرعي أن الموالاة بينهما مطلوبة، كان شرعية ركعة بينهما نسخا لطلب تلك الموالاة، وإن كان معنى تلك الموالاة أن الشرع لم يشرع بينهما فعلا آخر لم يكن نسخا؛ لأنه رافع لحكم العقل، والأول هو الظاهر، وأن الشرع طلب الموالاة بينهما كما طلب الموالاة بين الركعات.
قوله: " وإن علمنا عدم هذه الأشياء بالضرورة من دين محمد لم يجز رفعه بالخبر الواحد والقياس ".
تقريره: أن هذا ليس نسخا، وهو الظاهر من كلام المصنف؛ فإنه لم يصرح بالنسخ، بل بامتناع الرفع، فيكون من باب وجوب تقديم المعلوم على المظنون فقط، ولا تعلق له بالنسخ.
قوله: " إذا أوجب الصوم إلى الشفق بعد إيجابه إلى الليل يكون نسخا؛ لأنه يخرج أوله عن أن يكون ظرفا للصوم مع أنه معلوم بقاطع، فلا يقبل منه خبر الواحد ".
قلنا: هذا الكلام يشعر بأن ما ثبت بدليل قاطع يكون نسخا، وأن مرادكم في الكلام الذي قبل هذا في نفي الشروط وغيرها يكون نسخا، وليس كذلك في الجميع.
أما ما تقدم فقد قررته، وأما هذا فلأن كون أو الليل ظرفا للصوم له معنيان:
أحدهما: وجوب الإمساك في ذلك الجزء؛ ليتيقن انقضاء النهار.
وثانيهما: أنه لا وجوب بعده حتى يكون هو ظرفا.
أما الأول فلو رفع لكان نسخا له، لكنه لم يرفع؛ لأن التقدير أنه أوجب استمرار الصوم للشفق، فذلك الوجوب ثابت، وزيد عليه.
وأما الثاني فليس نسخا؛ لأن عدم وجوب الغير حكم عقلي، فرفعه لا يكون نسخا، وليس في كونه ظرفا إلا هذين المعيين، ويصير هذا القسم مثل القسم الذي بعده إذا قال: صم هذا النهار فقط، وقد سلمتم أنه ليس نسخا.
قوله: " إذا قال الله تعالى: " صلوا إن كنتم متطهرين " لا يمنع إثبات شرط آخر بخبر الواحد؛ لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا، إذ لا يمتنع أن يكون للحكم الواحد شرطان ".