الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
قال الرازي: من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلومًا بالضرورة محال
، كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد، والتكلم بالكلمة الواحدة محال، وربما قال بعضهم: كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال، فكذا اتفاقهم في النظريات محال.
والجواب: أن الاتفاق إنما يمتنع: فيما يتساوى فيه الاحتمال؛ كالمأكول المعين، والكلمة المعينة.
أما عند الرجحان - وذلك: عند قيام الدلالة، أو الأمارة الظاهرة - فذلك غير ممتنع، وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتفاق الشافعية والحنفية، مع كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما صادر عن الأمارة.
ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه، لكنه قال: لا طريق لنا إلى العلم بحصوله؛ لأن العلم بالأشياء، إما أن يكون وجدانيًا، أو لا يكون:
أما الوجداني: فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه، وعطشه، ولذته، وألمه، إلى غير ذلك، ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب.
وأما الذي لا يكون وجدانيًا: فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته: إما الحس، وإما الخبر، وإما النظر العقلي.
أما النظر العقلي: فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول، أو لم يقل به.
بقي أن يكون الطريق إليه: إما الحس، وإما الخبر، لكن من المعلوم أن الإحساس بكلام الغير، أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته، فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة، لكن ذلك متعذر قطعًا، فمن ذا الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق والغرب؟.
وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه؟ فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء الغرب؛ فضلا عن العلم بكل واحدٍ منهم على التفصيل، وبكيفية مذاهبه.
وأيضا: فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم؛ لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم، وذلك لا يفيد حصول الاتفاق؛ لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك، على خلاف اعتقاده تقية، أو خوفًا، أو لأسباب أخرى مخفية عنا.
وأيضا: فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم، ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه، فهو لا يفيد حصول الإجماع؛ لاحتمال أن علماء بلدة، إذا أفتوا بحكم، فعند الارتحال عند بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى، رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى بذلك.
وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق؛ لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى قسمين، وأحد القسمين أفتى بحكم، والآخر أفتى بنقيضه، ثم انقلب المثبت نافيًا، والنافي مثبتًا، لم يحصل الإجماع، وإذا كان كذلك، فمع قيام هذا الاحتمال، كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع؟! بل هاهنا مقام آخر، وهو أن أهل العلم بأسرهم، لو اجتمعوا في موضعٍ واحدٍ، ورفعوا أصواتهم دفعة
واحدة، وقالوا: أفتينا بهذا الحكم، فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع؛ لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفًا فيه، فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم، أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم، أو أنه أظهر المخالفة، لكن خفي صوته فيما بين أصواتهم؛ فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة.
فإن قلت: ما ذكرتموه باطل بصورٍ:
إحداها: أنا نعلم بالضرورة أن المسلمين معترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبوجوب الصلوات الخمس، ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول ببطلان البيع الفاسد، واتفاق الحنفية على القول بانعقاده، وإن كانت الوجوه التي ذكرتموها بأسرها حاصلة هاهنا.
وثانيتها: أنا نعلم أن الغالب على أهل الروم النصرانية، وعلى بلاد الفرس الإسلام، وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد، ولا كل واحدٍ من ساكنيها.
وثالثتها: أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في موضعٍ واحدٍ؛ بحيث يمكن معرفة اتفاقهم واختلافهم.
قلت: أما قوله: (نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم):
قلت: إن كنت تعني بالمسلمين المعترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقولك: (نعلم اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (يجرى مجرى أن يقال: نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن كنتن تعني به شيئًا آخر غير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نسلم أنا نقطع أن القائل بذلك قائل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا نسلم أيضًا أنا نقطع بأن كل من قال بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال بوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وإن كنا نعترف بحصول الظن.
والذي يدل عليه أن الإنسان قبل الإحاطة بالمقالات الغريبة، والمذاهب النادرة يعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل المسلمين يعترفون أن ما بين الدفتين كلام الله عز وجل؛ ثم إذا فتش عن المقالات الغريبة وجد في ذلك اختلافًا شديدًا؛ نحو ما يروى عن ابن مسعودٍ أنه:(أنكر كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن).
ويروى عن الميمونية - قوم من الخوارج - أنهم أنكروا كون سورة يوسف من القرآن، ويروى عن كثيرٍ من قدماء الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس هو ذلك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بل غير وبدل، ونقص عنه وزيد فيه، وإذا كان كذلك، علمنا أنا، وإن اعتقدنا في الشيء أنه مجمع عليه اعتقادًا قويًا، لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد العلم، ولا يرتفع عن درجة الظن.
قوله: (نعلم استيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد).
قلنا: علمنا ذلك بخبر التواتر، وفرق بين معرفة حال الأكثر، وبين معرفة حال الكل؛ لأن من دخل بلدًا، ورأي شعائر الإسلام في جميع المحلات والسكك ظاهرةً، علم بالضرورة أن الغالب على أهل تلك المدينة الإسلام.
فأما أن يعلم قطعًا أنه ليس في البلدة أحد إلا مسلم ظاهرًا وباطنًا، فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة، والعلم بامتناعه ضروري.
قوله: (السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضعٍ واحدٍ).
قلنا: هذا السلطان المستولى على جميع معمورة العالم مما لم يوجد إلى الآن، وبتقدير وجوده، فكيف يمكن القطع بأنه لم يتلفت منه أحد في أقصى الشرق، أو أقصى الغرب؟ فإن ذلك الملك ليس بعلام الغيوب، وبتقدير ألا ينفلت منه
أحد، فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا بذلك الحكم طائعين راغبين، غير مكرهين ولا مجبرين؟
والإنصاف: أنه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمان الصحابة؛ حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم، على التفصيل.
المسألة الثانية
في إمكان الإجماع
قال القرافي: قوله: (يمتنع إجماعهم على غير الضروري، كامتناعه في الكلمة المعينة، والمأكول المعين):
قلنا: الفرق أن الأطعمة والأشربة ونحوها، تمنع الدواعي الطبيعية التي جبلت عليها البشرية، ودواعي البشرية في الشهوة والنفرة مختلفة جدًا، حتى إن الشخص الواحد يخالف نفسه في ساعة أخرى، فلذلك قضت العادة بتعذر اتفاق الجمع العظيم على شهوة الطعام الواحد، والميل إلى التكلم بالكلمة الواحدة ونحوه؛ لأنه مبني على الدواعي الطبيعية، فهذه قاعدة يتعذر الاجتماع فيها من الجمع العظيم، كما أن الغيم الرطب المشف في بلاد الأمطار والثلوج، إذ رآه الجمع العظيم اشترك الجميع في ظن الأمطار، وكذلك الرجل العدل الأمين، يشترك كل من عرف حاله في ظن صدقه، وإن كانوا آلافًا.
والأحكام الشرعية من هذا القسم دون القسم الأول، فكان الإجماع فيه ممكنًا عادة.
قوله: (الذي لا يكون وجدانيًا فطريق معرفته إما الحس، أو الخبر أو النظر العقلي).
قلنا: الخبر إنما يفيد بطريق السماع، وهو داخل في الحس، فلا يجعل قسيمه.
قوله: (الإحساس بكلام الغير، أو الإخبار عن كلامه لا يمكن غلا بعد معرفة ذاته):
قلنا: إن أردت بمعرفة ذاته رؤيته حيًا فممنوع؛ فإنا نعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تكلم بالقرآن بالضرورة، ساعد على ذلك أرباب الملل، والمستند في ذلك التواتر، فنقطع بذلك، مع أنا لم نر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نقطع بأن موسى عليه السلام تكلم بالتوراة، وعيسي عليه السلام تكلم بالإنجيل، ولم نشاهد واحدًا منهما، وهو كثير، فعلمنا أنه لا يلزم من العلم بأن الشخص تكلم بشيء أن يكون مشاهدًا لنا.
وإن أردتم بمعرفته إحاطة العلم به، من حيث الجملة إما بالتواتر أو بغيره.
فلم قلتم: إن ذلك متعذر؟ بل تواتر عندنا إجماع الصحابة على وجوب الصلوات الخمس، ووجوب شهر رمضان، ونحوه من شعائر الإسلام، حتى أن جاحد ذلك يكفر.
ثم إن هذا السؤال في غير محل النزاع، ونحن نقول: إذا وقع الإجماع، وأمكن العلم به كان حجة معصومة، ولا ندعى وقوعه في شيء معين، كما أنا نقول: القياس إذا حصل كان حجة، أما أنه حصل فليس ذلك حظ الأصولي، بل الفقيه.