الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الثالث
قال الرازي: قوله تعالى:} كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
{[آل عمران: 110] ولام الجنس تقتضي الاستغراق؛ فدل على أنهم أمروا بكل معروف، ونهوا عن كل منكرٍ، فلو أجمعوا على خطأ قولا، لكان قد أجمعوا على منكر قولا، ولو كانوا كذلك، لكانوا آمرين بالمنكر، ناهين عن المعروف، وهو يناقض مدلول الآية.
فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن قوله:} كنتم خير أمة {خطاب معهم، وهو يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف، والمعلوم خلافه؛ فثبت أنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، فنحملها على أن المراد من الأمة بعضهم، وعندنا أن ذلك البعض هو الإمام المعصوم.
سلمنا: أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها؛ لكن لا نسلم أنهم كانوا يأمرون بكل معروفٍ؛ لما مر في باب العموم: أن المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق.
سلمنا العموم؛ لكن الآية تقتضي اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي، أو الحاضر؟
الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه الصفة في الحال؟
فإن قلت: لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال، ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل، إذا عدل عنه إلى ضده، فإن الناهي عن المنكر، إذا صار أمرًا به، استحق الذم.
قلت: لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح؛ ولم لا يجوز أن يقال:
ليس فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرًا من سائر الأمم، ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح؟
سلمنا دلالتها على المدح؛ لكن لم لا يجوز أن يمدح الإنسان في الحال؛ بما صدر عنه في الماضي، وإن كان يستحق الذم في الحال؛ بما صدر عنه في الحال؟ فإن عندنا الجمع بين استحقاق الذم والمدح غير ممتنعٍ؛ على ما ثبت في مسألة الاحتياط.
سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال؛ لكن قوله عز وجل:} كنتم خير أمة {[آل عمران:110] صريح في أن هذا الوصف، إنما حصل لهم في الزمان الماضي، ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال.
سلمنا دلالة الآية على اتصافهم بتلك الصفة في الحال؛ فلم لا يجوز خروجهم عنها بعد ذلك؟ فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما له من الصفات في الحال، وإن كان يعلم زوالها في المستقبل.
فإن قلت: فيلزم أن يكون إجماعهم حجةً في ذلك الزمان.
قلت: هب أنه كذلك؛ لكنا لا نقطع على شيءٍ من الإجماعات بأنه حصل في ذلك الزمان؛ وإذا وقع الشك في الكل خرج الكل، عن كونه حجةً.
سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي، والحال، والمستقبل؛ لكن الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت، فيكون إجماعهم حجةً، أما إجماع غيرهم، فلا يكون حجةً؛ على ما مر من تقرير هذا السؤال في المسلكين الأولين.
والجواب: قوله: (الآية متروكة الظاهر):
قلنا: لا نسلم.
قوله: (لأنها تقتضي أن يكون كل واحدٍ منهم آمرًا بالمعروف، وليس كذلك):
قلنا: المخاطب بقوله تعالى:} كنتم خير أمةٍ {[آل عمران: 110] ليس كل واحدٍ من الأمة:
أما أولا: فلأنه تعالى - وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمةٍ، فلو كان المخاطب بهذا الخطاب كل واحدٍ من الأمة، لزم وصف كل واحدٍ من الأمة بأنه خير أمة، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمة إلا على سبيل المجاز؛ كما في قوله تعالى:} إن إبراهيم كان أمةً {[النحل: 120] بدليل أن المتبادر إلى الفهم من قوله: (حكمت الأمة بكذا) المجموع.
وأما ثانيا: فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمةٍ أخرجت للناس؛ وإذا كان كل واحد خير أمة، وجب أن يكون كل واحد خيرًا من صاحبه، ولما بطل ذلك، ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذا الخطاب، وهو يجري مجرى قول الملك لعسكره:(أنتم خير عسكرٍ في الدنيا: تفتحون القلاع، وتكسرون الجيوش) فإن هذا الكلام لا يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك، بل إنه وصف المجموع بذلك؛ بمعنى أن في المعسكر من هو كذلك، فكذا هاهنا وصف الله تعالى مجموع الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بمعنى أن منهم من هو كذلك، وحملة على الإمام المعصوم غير جائز؛ لأنه واحد، ولفظ (الأمة) لفظ الجمع.
قوله: (المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق):
قلنا: كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه.
وأيضًا: فلفظ (المعرف) لو لم نحمله على الاستغراق، لوجب حمله على الماهية، ويكفي في العمل به ثبوته في صورةٍ واحدة، فيكون معناه: أنهم أمروا بمعروف واحد، ونهوا عن منكر واحد، وهذا القدر حاصل في سائر الأمم؛ لأن كل واحدٍ منهم قد كان آمرًا بمعروفٍ واحدٍ، وهو الدين الذي قبله، وناهيًا عن منكرٍ واحدٍ، وهو الكفر الذي رده.
وحينئذٍ: لا يثبت بذلك كون هذه الأمة خيرًا من سائر الأمم؛ لكن الله - تعالى - ذكره لبيان ذلك الحكم؛ فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق؛ تحصيلا للغرض؛ فإنا لو لم نحمله على الاستغراق، ولم نحمله على الماهية كان ذلك مخالفًا للغة.
قوله: (الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي، أو الحاضر)؟:
قلنا: بل في الحاضر؛ لأن قوله:} تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر {[ال عمرن:110] لا يتناول الماضي.
(قوله: لفظة} كنتم {تدل على الماضي).
قلنا: لا نسلم؛ لأن قوله:} كنتم {(إما أن تكون ناقصة، أو زائدةً، أو تامةً، فإن كانت ناقصةً فنقول: إنه، وإن أفاد تقدم كونهم كذلك؛ لكن قوله:} تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر {[آل عمران:110] يقتضي كونهم كذلك في المستقبل، ودلالة قوله تعالى:} كنتم {على تقدم هذا الوصف لا يمنع من حصوله في المستقبل، فتبقي دلالة قوله:} تأمرون بالمعروف {على كونهم كذلك في المستقبل سليمةً عن المعارض، وأما الوجهان الآخران، فالاستدلال معهما ظاهر.
قوله: (لم قلت: إنهم يكونون في الزمان المستقبل كذلك على هذه الصفة؟):
قلنا: لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال، والاستقبال، كاللفظ العام؛ فوجب تناولها لهما معًا.
قوله: (هذه الآية خطاب مع الحاضرين):
قلنا: مر الجواب عنه في المسلك الأول، والله أعلم.
المسلك الثالث
قال القرافي: قوله: (لو أجمعوا على خطأ لكانوا قد أجمعوا على منكر):
قلنا: لا نسلم، بل يؤجرون عليه للحديث المتقدم، والمنكر إنما يكون حيث التحريم، أما مع الاجتهاد فلا.
ثم قوله تعالى:} تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر {[آل عمران:110] يقتضي غيرهم لا أنفسهم.
فإن الإنسان إنما يأمر غيره، وينهي غيره.
هذا هو المتبادر من هذا الكلام، وقد يأمر الإنسان بكل معروف، وهو يتركه، وينهي عن كل منكر - وهو يفعله، ولذلك قال الشاعر [الكامل]:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
فليس في ظاهر اللفظ إلا ما يقتضي مدهم بالأمر والنهي لغيرهم، أما في أنفسهم فلا.
قوله: (الآية تقتضي اتصافهم بذلك في الماضي لا في الحاضر):
قلنا: صيغة (كنتم) للماضي، و (تأمرون)، و (تنهون) فعل مضارع للحال والاستقبال.
والظاهر منه - هاهنا - أنه للحال المستمرة
كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع.
وقول خديجة لرسول الله عليه السلام: (لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق).
أي: هذا شأنك، وسجيتك أبدًا في الماضي، والحال، والمستقبل، كذلك هاهنا.
أي: سجيتكم، وخلقكم أنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، فلا يختص ذلك بالماضي.
وبهذا نجيب عن قولهم: إن مفهوم الآية يدل على عدم حصوله في الحال؛ لأن مفهوم (كنتم) معارض بظاهر الفعل المضارع.
قوله: (لا نقطع بشيء من الإجماعات بأنه حصل في ذلك الزمان).
قلنا: قد تقدم أن الإجماع في زمانه عليه السلام انعقد على أشياء من الأصول والفروع، وذلك معلوم بالضرورة في الصلاة، وتحريم القتل، والزنا ونحو ذلك مما لا يختلف فيه لا قديمًا ولا حديثًا.
قوله: (لا يوصف الشخص الواحد بكونه أمةً إلا مجازًا لقوله تعالى:} إن إبراهيم كان أمةً {[النحل:120]):
قلنا: قال صاحب كتاب (الزينة): الأمة في اللغة يراد به لغةً: المختص بصفة واحدة، كان واحدًا أو كثيرًا.
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة لاختصاصهم بتصديقه عليه السلام وكذلك جميع الأمم، وإبراهيم عليه السلام أمة؛ لأن أحدًا لم يشاركه في أحواله في زمانه.
وقال عليه السلام في قس بن ساعدة: (يبعث يوم القيامة أمة واحدةً)؛ لأنه في زمانه انفرد بالتذكير بالوحدانية، والوعظ، فكان إطلاق الأمة على الواحد حقيقة.