الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
قال الرازي: الأمة لم تفصل بين مسألتين، فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما
؟
واعلم أن هذا يقع على وجهين:
أحدهما: أن يقولوا: لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام، أو في الحكم الفلاني؟.
والآخر: ألا ينصوا على ذلك، لكن ما كان فيهم من فرق بينهما.
أما القسم الأول: فإنه لا يجوز الفصل بينهما، ثم إنه على ثلاثة أقسامٍ:
أحدها: أن تحكم الأمة في المسألتين بحكمٍ واحدٍ، إما بالتحليل أو بالتحريم.
وثانيها: أن يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم، والبعض الآخر بالتحليل.
وثالثها: ألا ينقل إلينا عنهم حكم فيهما، ففي هذه الصورة الثالثة، متى دل الدليل في إحدى المسألتين على تحليلٍ، أو تحريمٍ، وجب أن يكون الحال في الأخرى كذلك.
وأما القسم الثاني: فقيل فيه: إن علم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة؛ فذلك جار مجرى أن يقولوا: لا فصل بينهما، فمن فصل بينهما، فقد خالف ما اعتقدوه.
مثاله: من ورث العمة، ورث الخالة، ومن منع إحداهما منع الأخرى، وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظامهما حكم ذوى الأرحام.
فهذا مما لا يسوغ خلافهم فيه؛ بتفريق ما جمعوا بينهما، إلا أن هذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة.
وأما إن لم يكن كذلك، فالحق جواز الفرق لمن بعدهم؛ لأنه لا يكون بذلك مخالفًا لما أجمعوا عليه، لا في حكمٍ، ولا في علة حكمٍ؛ ولأنه لو امتنع الفرق، لكان من وافق الشافعي، رضي الله عنه، في مسألةٍ؛ لدليلٍ، وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل.
احتج المانعون من الفصل مطلقًا بوجهين:
الأول: أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين، وقال النصف الآخر بالحل فيهما، فقد اتفقوا على أنه لا فصل بين المسألتين، فيكون الفصل بينهما ردا للإجماع.
الثاني: أن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين، فقد أوجبت كل واحدة من الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها، أو بقول الطائفة الأخرى، وحظرت ما سوى ذلك، وذلك بمنع من الفرق بين المسألتين.
والجواب عن الأول: أنكم إن عنيتم بقولكم: (اتفقوا على أنه لا فصل بينهما):
أنهم نصوا على استوائهما في الحكم، أو هما مستويان في علة الحكم - فليس كذلك؛ لأن النزاع ليس هاهنا.
وإن عنيتم به: أن كل من قال بإحدى المسألتين، فقد قال أيضًا بالأخرى، فلم قلتم: إن ذلك يمنع من الفصل؟ فإن هذا أول المسالة.
وعن الثاني: أنهم إنما أوجبوا ذلك؛ بشرط ألا يفرق بعض المجتهدين بين المسألتين، فإن ادعوا أنه لا التفات إلى هذا الشرط، فهذا عين المتنازع فيه.
ومن الناس من جوز التفصيل مطلقًا؛ استدلالا بعمل ابن سيرين في زوجٍ وأبوين، أن للأم ثلث ما يبقي.
وقال في امرأة وأبوين: للأم ثلث المال، فقال في إحداهما بقول ابن عباسٍ، وفي الأخرى بقول عامة الصحابة.
والثوري قال: (الجماع ناسيًا يفطر، والأكل ناسيًا لا يفطر) وفرق بين المسألتين، مع أنه جمعتهما طريقة واحدة، والله أعلم.
المسألة الثانية
إذا لم تفصل الأمة بين مسألتين
قال القرافي: الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، وإن كان الفاصل بين المسألتين قائلا بقول ثالث، فهو يعود على المسألة الأولي إذا حدث القول الثالث، قد يكون في فعل واحد، قال نصف الأمة فيه بالتحريم، والنصف الآخر بالإيجاب، فالقول بإباحته قول ثالث، وهو خطأ؛ وإلا لفات الأمة الصواب، وهو يقدح في عصمتهم.
والقول الثالث متصور في الفعل الواحد.
والمسألة الثانية مختصة بما إذا كان محل الحكم متعددًا، كانقسام الأمة على قولين في توريث ذوى الأرحام، منهم من يورث الخالة والعمة، ومنهم من يحرمهما، فالقائل بعدم توريث الخالة دون العمة خلاف الإجماع في الفعل فيما أجمعوا عليه.
قوله: (لو امتنع الفرق لكان من وافق قول الشافعي في مسألة لدليل، وجب عليه موافقته في كل المسائل):
تقريره: أن مدارك الشافعي يجوز أن تكون صوابًا، وبعضها خطأ، فيجوز أن نوافقه فيما ظننا أنه صواب، ويخالفه في غيره، وليس في ذلك مخالفة الإجماع، ووجه التنظير أنه بعض الأمة.
وموافقة بعض الأمة في جميع ما قالوه إنما يلزم إذا كان المدرك في جميع ما قالوه ذلك البعض واحد، كما قلنا في توريث ذوى الأرحام لما قال به بعض الأمة لمدرك واحد.
وقال البعض الآخر بعدم التوريث لمدرك آخر.
فقد أجمعت الأمة على طرد المدركين في جميع متعلقاتهما، ولم يقل أحد بأن أحد المدركين يتخصص ببعض مدلولاته، فالقائل بذلك يخالف الإجماع.
فلو كان مدركهم في ذوى الأرحام متعددًا، جاز أن يورث بعض الأرحام دون بعض؛ بناء على تصحيح بعض تلك المدارك دون بعضها، كما عملنا مع للشافعي لما تعددت مداركه، ولو كان الشافعي لمسائله مدرك واحد، ولغيره من الأمة مدرك واحد فيما خالفوه فيه - لزم من متابعته في مسألة إتباعه في جميع مسائله، أو ابتاع مخالفه في مسألة إتباعه في جميع مسائله.
كما قلنا في التوريث المذكور، فيحصل أنه متى تعدد الخلاف والمدارك - جازت المخالفة إجماعًا، ومتى ارتفع الخلاف، واتحد القول والمدرك امتنع الخلاف إجماعًا، ومتى تعدد الخلاف في الحكم، واتحد المدرك نفيًا وإثباتًا امتنع التفريق في تلك الأقوال، كما قلنا في التوريث.
قوله: (ومنهم من جوز التفصيل مطلقًا استدلالا بقول ابن سيرين في زوجٍ وأبوين، أن للأم ثلث ما يبقي، وفي امرأة وأبوين: للأم ثلث المال، فقال في إحدى المسألتين بقول ابن عباس، وفي الأخرى بقول عامة الصحابة):
قلنا: مدرك الجمهور أن للأب والأم ذكرًا وأنثي اجتمعا في درجة، فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، فيكون لهما ثلث ما يبقي، وللأب ثلثا ما يبقي، ومدرك ابن عباس: التمسك بظاهر قوله تعالى:} فلأمه الثلث {[النساء:11]، وما ينقصها عنه إلا بالابن أو الإخوة، ولم يوجدوا بقول ابن سيرين وإدخال التخصيص في كلا المدركين مجمل كل مدرك على حالة دون حالة.
وهذا التخصيص لم يقل به أحد قبله، فيكون خلاف الإجماع. هذا تقريره، لكن هذا المدرك لم يسلم ابن سيرين أنهم نصوا على أنه لا يجوز تخصيصها.
فقال: الفرق من وجهين:
الأول: أن مع الزوج يتوفر حظ الذكورية، فيرجح أحد الأبوين بجراء العصوبة إذا اجتمع منهم ذكر وأنثي في طبقة واحدة، فإن للذكر مثل حظ الأنثيين، فجعل للأم ثلث ما يبقي.
وفي مسألة امرأة وأبوين نزلت الذكورية بالأنوثة بالمرأة فضعف جهة التعصيب، وقوى جهة الفرض، فأخذت ثلث المال بالنص.
الوجه الثاني: أن في زوج وأبوين يحصل للمرأة السدس، وهو فرضها في صورة الإجماع، وهو اجتماعها مع الابن أو أخوين، وفي امرأة وأبوين يحصل لها مع الأب الربع، والأم لا ترث الربع في صورة، فأبطل هذه الصورة بخروجها عن قاعدة الأم، فدفع لها ثلث المال بالنص.