الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
قال الرازي: قال الأكثرون: يجوز نسخ الكتاب، ودليله ما ذكرناه في الرد على أبي مسلم الأصفهاني
.
بقي هاهنا أمران: أحدهما: أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وهو أيضًا واقع، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز.
احتج المثبتون بأمور:
أحدها: أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا في الابتداء بالسنة؛ لأنه ليس في القرآن ما يتوهم كونه دليلًا عليه، إلا قوله تعالى:{فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] وذلك لا يدل عليه؛ لانها تقتضي التخيير بين الجهات.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يقال: التوجه إلى بيت المقدس، وقع في الأصل بالكتاب، إلا أنه نسخت تلاوته، كما نسخ حكمه؛ فإنه لا دليل يمنع من هذا التجويز؟
سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة، فلم لا يجوز أن يقال: وقع نسخه أيضًا بالسنة؟ وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب؛ لأن الظاهر أنه حول عن بيت المقدس، ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة، ولهذا كان يقلب وجهه في السماء، لا لوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها، وينتظر ما يؤمر به من بعد، فأمر بالتوجه إلى الكعبة؛ فإن لم يكن ذلك هو الظاهر، فهو مجوز، وهذا كاف في المنع من الاستدلال.
وثانيها: قوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة: 187] وهو نسخ لتحريم المباشرة، وليس التحريم في القرآن.
ثالثها: نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وكان صوم عاشوراء ثابتًا بالسنة.
ورابعها: صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تاخيرها إلى إنجلاء القتال، حتى قال، عليه الصلاة والسلام، يوم الخندق:(حشا الله قبورهم نارًا) لحبسهم عن الصلاة.
وخامسها: قوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] نسخ لما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والصلح.
واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل، ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين، وقال: لا حاجة بنا إلى تقدير سنة خافية مندرسة، ولا ضرورة؛ فلم نقدرهما؟
وهذا جهل عظيم؛ لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة، فإذا عجز عنها، لم يتم دليله.
واحتج الشافعي رضي الله عنه، بقوله تعالى:{لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] وهذا يدل على ان كلامه بيان للقرآن، والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخًا للسنة، لكان القرآن بيانًا للسنة، فيلزم كون كل واحد منهما بيانًا للآخر.
والجواب: ليس في قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} دليل على انه لا يتكلم إلا بالبيان، كما أنك إذا قلت:"إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد" ليس فيه أنك لا تفعل فعلًا آخر.
سلمنا أن السنة كلها بيان، لكن البيان هو الإبلاغ، وحمله على هذا اولى، لأنه عام في كل القرآن، أما حمله على بيان المراد، فهو تخصيص ببعض ما أنزل، وهو ما كان مجملًا، أو عاما مخصوصًا، وحمل اللفظ على مايطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر، والله أعلم.
المسألة الثانية
نسخ الكتاب بالكتاب
قال القرافي: قوله: "ليس في الكتاب ما يتوهم دليلًا على التوجه إلى بيت المقدس إلا قوله تعالى: {فثم وجه الله} [البقرة: 115] ".
قلنا: بل فيه أقوى من هذا بناء على قاعدة، وهو أن كل بيان لمجمل، فإنه يعد منطوقًا به في ذلك المجمل، فإذا قال الله تعالى:{وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]، فبينه عليه السلام بقوله:(فيما سقت السماء العشر)، فيصير ذلك كالمنطوق به في الآية، كأن الله تعالى قال:(وآتوا عشره يوم حصاده)؛ لأنه لم يرد غيره.
وكذلك قول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، بينها عليه السلام أنها صلاة الظهر، وأنها ركعتان جهرًا في جماعة بخطبة، ومسجد إلى غير ذلك من الشروط، فيصير معنى الآية كأن الله تعالى قال: إذا نودي للصلاة ولم يبين كيف تقام، فهي آية مجملة، ثم بينها عليه السلام بالطهارة، والستارة، واستقبال بيت المقدس، وغير ذلك من الشروط، فيكون الجميع مرادًا من الآية، فتكون دليلًا عليه بواسطة البيان، فيكون التوجه للبيت المقدس على هذا بيانًا بالقرآن، فهذا أقوى مما ذكرتموه لاستناده لهذه القاعدة.
وأما قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]، فهو
عام يتناول بيت المقدس وغيره، فيسقط اعتبار الخصوص، وتعين بيت المقدس دون غيره، وأنه إذا تعمد تركه، أو أخطأه تصح صلاته ،
قوله: "يجوز أن يكون ثبت بقرآن نسخت تلاوته".
قلنا: إن كان المقصود في كل مدرك من هذه المدارك القطع بطلب هذه الأدلة كلها، فإنها إنما تدل بواسطة انتفاء المجاز والاشتراك، وغير ذلك مما يقدح في إفادة الألفاظ اليقين، وإن كان المقصود نصب الأدلة من حيث الجملة فيمكن أن نقول: الأصل عدم هذه التلاوة التي تشيرون إليها، وهذا هو الجواب عن قولكم: إن النسخ للبيت المقدس وقع بالسنة؛ لأن الأصل عدم غير ما نحن نتلوه من القرآن في ذلك.
قوله: "نسخ صوم رمضان صوم عاشوراء".
قلنا: قد تقدم حكاية الخلاف فيه.
قوله: "ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين".
قلنا: إن كان المقصود أن القطع بالقدح في السؤالين جهل، فهو حق، وإلا فلا؛ لأن الأصل عدم السنة كما تقدم تقريره.
قوله: "احتج الشافعي بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ".
قلنا: صيغة (لتبين) فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا دالا على القدر الأعم من البيان، والدال على الأعم غير دال على الأخص، ويكفي في العمل به صورة واحدة، وقد أعملناه في التخصيص، أما النسخ فلا يدل عليه؛ لأنه أخص من مطلق البيان، وأما دلالته على أن الله تعالى لا يبين، فهو من باب مفهوم اللقب الذي لا يقول به الشافعي؛ لأنك إذا