الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ بَيْعِ الأُصُولِ والثِّمارِ
720 - مسألة؛ قال أبو القَاسِمِ، رحمه الله: "وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا، وَهُوَ مَا قَدْ تَشَقَّقَ طَلْعُه، فالثَّمَرَةُ للبائِعِ مَتْرُوكَةً في النَّحْلِ إلى الجِزَازِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَها المُبْتَاعُ)
أصْلُ الإِبَارِ عند أهْلِ العِلْمِ: التَّلْقِيحُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: إلَّا أنَّه لا يكونُ حتى يَتَشَقَّقَ الطَّلْعُ، وتَظْهَرَ الثَّمَرَةُ، فَعُبِّرَ به عن ظُهُورِ الثَّمَرَةِ؛ لِلزُومِه منه. والحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بالظُّهُورِ، دون نَفْسِ التَّلْقِيحِ، بغيرِ اخْتِلافٍ بين العُلَمَاءِ، يُقال: أبرتُ النَّخْلَةَ بالتَّخْفيفِ والتَّشْديدِ، فهى مُؤَبَّرَةٌ ومَأْبُوَرةٌ. ومنه قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ"(1). والسِّكَّةُ: النَّخْلُ المَصْفوفُ. وأَبَرْتُ النَّخْلَةَ، آبُرُها، أَبْرًا، وإِبَارًا، وأَبَّرتُهَا تَأْبيرًا، وتَأَبَّرَتِ النَّخْلَةُ، وائْتَبَرَتْ، ومنه قولُ الشاعرِ:
* تَأَبَّرى يا خَيْرَةَ الفَسِيلِ (2) *
وفَسَّرَ الخِرَقِيُّ المُؤَبَّرَ بما قد تَشَقَّقَ طَلْعُه؛ لِتَعَلُّقِ الحُكْمِ بذلك، دون نَفْسِ التَّأْبيرِ. قال القاضى:[وقد يتشَقَّقُ الطَّلْعُ بنفْسِهِ فيظْهَرُ](3)، وقد يَشُقُّهُ الصَّعَّادُ فيَظْهَرُ. وأيُّهما كانَ فهو التَّأْبيرُ المُرادُ هاهُنا.
وفى هذه المَسْأَلَةِ فُصولٌ ثَلاثَةٌ:
الأول: أنَّ البَيْعَ متى وَقَعَ على نَخْلٍ مُثْمِرٍ، ولم يَشْتَرِطِ (4) الثَّمَرةَ، وكانت
(1) أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 3/ 468. والطبرانى في المعجم الكبير 7/ 107. كلاهما عن سويد بن هبيرة.
(2)
الرجز في اللسان، وتاج العروس (أب ر).
(3)
سقط من: م.
(4)
في الأصل: "يشرط".
الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً، فهى لِلْبائِعِ. وإن كانت غيرَ مُؤَبَّرَةٍ، فهى لِلْمُشْتَرِي وبهذا قال مالِكٌ، واللَّيْثُ، والشَّافِعِيُّ. وقال ابنُ أبي ليلى: هى لِلْمُشْتَرِى في الحَالَيْنِ؛ لأنَّها مُتَّصِلَةٌ بالأصْلِ (5) اتِّصالَ خِلْقَةٍ، فكانت تابعَةً له، كالأغْصانِ. وقال أبو حنيفةَ، والأوْزَاعِيُّ: هى لِلْبائِعِ في الحالَيْنِ (6)؛ لأَنَّ هذا نماءٌ له حَدٌّ، فلم يَتْبَعْ أصْلَهُ في البَيْعِ، كالزَّرْعِ في الأرْضِ. ولنا، قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"من ابْتاعَ نَخْلًا بعدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فثَمَرَتُها للَّذِى بَاعَها، إلَّا أن يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ". مُتَّفَقٌ عليه (7). وهذا صَريحٌ في رَدِّ قولِ ابنِ أبى (8) ليلى، وحُجَّةٌ على أبى حنيفةَ والأوْزَاعِيِّ بمَفْهُومِهِ، لأنَّه جَعَلَ التَّأْبيرَ حَدًّا لمِلْكِ البائِعِ للثَّمَرَةِ، فيكونُ ما قبلَه لِلْمُشْتَرى، وإلَّا لم يَكُنْ حَدًّا، ولا كان ذِكْرُ التَّأْبيرِ مُفيدًا. ولأنَّه نَماءٌ كامِنٌ لِظُهُورِهِ غايَةٌ، فكان تابِعًا لأَصْلِه قبلَ ظُهورِه، وغيرَ تابِعٍ له بعدَ ظُهورِه، كالحَمْلِ في الحَيَوانِ. فأمَّا الأَغْصانُ، فإنَّها تَدْخُلُ في اسْمِ النَّخْلِ، وليس لانْفِصالِها غايَةٌ، والزَّرْعُ ليس من نَماءِ الأَرْضِ، وإنَّما هو مُودَعٌ فيها.
الفصل الثانى: أنَّه مَتَى اشْتَرَطَها أحَدُ المُتَبايِعَيْنِ، فهى له، مُؤَبَّرَةً كانت أو غيرَ مُؤَبَّرَةٍ، البائِعُ فيه والمُشْتَرِى سَواءٌ. وقال مالِكٌ: إنِ اشْتَرَطَها المُشْتَرى بعد التَّأْبيرِ، جازَ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ شِرائِها مع أَصْلِها، وإنِ اشْتَرَطَها البائِعُ قبلَ (9) التَّأْبيرِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ اشْتِراطَه لها بمَنْزِلَةِ شِرائِه لها قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها بِشَرْطِ تَرْكِها. ولنا، أنَّه اسْتَثْنَى بعضَ ما وَقَعَ عليه العَقْدُ وهو مَعْلومٌ، فصَحَّ، كما لو باعَ حائِطًا، واسْتَثْنَى نَخْلَةً بِعَيْنِها. ولأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عن الثُّنْيَا (10)، إلَّا أن تُعْلَمَ (11). ولأنَّه أحَدُ
(5) في الأصل: "الأصل".
(6)
في الأصل: "الحال".
(7)
تقدم تخريجه في صفحة 21.
(8)
سقط من: م.
(9)
في الأصل: "بعد".
(10)
الثنيا، بضم المثلثة: كل ما استثنيته.
(11)
أخرجه أبو داود، في: باب في المخابرة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235. والترمذى، في: =
المُتَبايِعَيْنِ، فصَحَّ اشْتِراطُه لِلثَّمَرَةِ، كالمُشْتَرِى، وقد ثَبَتَ الأصْلُ بالاتِّفاقِ عليه، وبقولِه عليه السلام:"إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهَا المُبْتَاعُ"(12). ولو اشْتَرَطَ أحَدُهما جُزْءًا من الثَّمَرَةِ مَعْلومًا، كان ذلك كاشْتِراطِ جَميعِها في الجَوازِ، في قول جُمْهورِ الفُقَهاءِ، وقولِ أشْهَبَ من أصحابِ مالكٍ. وقال ابنُ القاسِمِ: لا يَجوزُ اشْتِراطُ بعضِها؛ لأنَّ الخَبَرَ إنَّما وَرَدَ باشْتِراطِ جَميعِها. ولنا، أنَّ ما جازَ اشْتِراطُ جَميعِه، جازَ اشْتِراطُ بعضِه، كمُدَّةِ الخِيارِ، وكذلك القَوْلُ في مالِ العبدِ إذا اشْتَرَطَ بعضَه.
الفصل الثالث: أنَّ الثَّمَرَةَ إذا بَقِيَتْ للبائِعِ، فلَهُ تَرْكُها في الشَّجَرِ إلى أوانِ الجِزازِ، سواءٌ اسْتَحَقَّها بِشَرْطِه، أو بِظُهورِها. وبه قال مالكٌ، والشَّافِعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه قَطْعُها، وتَفْريغُ النَّخْلِ منها؛ لأنَّه مَبيعٌ مَشْغولٌ بمِلْكِ البائِعِ، فلَزِمَ نَقْلُه وتَفْريغُه، كما لو باعَ دارًا فيها طَعامٌ، أو قُماشٌ له. ولنا، أنَّ النَّقْلَ والتَّفْريغَ لِلْمَبيعِ على حَسَبِ العُرْفِ والعادَةِ، كما لو باعَ دارًا فيها طَعامٌ، لم يَجِبْ نَقْلُه إلَّا على حَسَبِ العادَةِ في ذلك، وهو أن يَنْقُلَهُ نَهارًا، شَيْئًا بعدَ شىءٍ، ولا يَلْزَمُه النَّقْلُ لَيْلًا، ولا جَمْعُ دَوابِّ البَلَدِ لِنَقْلِه. كذلك هاهُنا، يُفَرِّغُ النَّخْلَ من الثَّمَرةِ في أوانِ تَفْريغِها، وهو أوانُ جِزازِها، وقِياسُه حُجَّةٌ لنا؛ لما بَيَّنَّاهُ. إذا تَقَرَّرَ هذا، فالمَرْجِعُ في جَزِّهِ إلى ما جَرَتْ به العادَةُ، فإذا كانَ المَبيعُ نَخْلًا، فحينَ تَتَناهَى حَلاوَةُ ثَمَرِهِ (13)، إلَّا أن يكونَ ممَّا بُسْرُه (14) خيرٌ من رُطَبِهِ، أو ما جَرَتِ العادَةُ بأخْذِهِ (15) بُسْرًا، فإنَّه يَجُزُّهُ حين تَسْتَحْكِمُ حَلاوَةُ بُسْرِهِ؛ لأنَّ هذا هو العادَةُ، فإذا اسْتَحْكَمَتْ حَلاوَتُه، فعليه نَقْلُه. وإنْ قيلَ: بَقاؤُه في شَجَرِه خيرٌ له وأبْقَى؛ فعليه النَّقْلُ؛ لأنَّ العادَةَ في النَّقْلِ قد حَصَلَتْ، وليس له إبْقاؤُه بعدَ ذلك. وإن كان
= باب ما جاء في النهى عن الثنيا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 290. والنسائي، في: باب النهى عن بيع الثنيا حتى تعلم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 260.
(12)
تقدم تخريجه في صفحة 21.
(13)
في الأصل: "ثمرها".
(14)
البُسْر: ثمر النخل قبل أن يصبح رطبًا.
(15)
في م: "بأخذ".