الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالعَرَقِ، ولأنَّه من آدَمِىٍّ، فأشْبَهَ سائِرَ أجْزائِه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه لَبَنٌ ظاهِرٌ مُنْتَفَعٌ به، فجازَ بَيْعُه، كلَبَنِ الشَّاةِ، ولأنَّه يجوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه فى إجارَةِ الظِّئْرِ، فأشْبَه المَنافِعَ، ويُفارِقُ العَرَقَ، فإنَّه لا نَفْعَ فيه، ولذلك لا يُباعُ عَرَقُ الشَّاةِ، ويُباعُ لَبَنُها. وسائِرُ أجْزاءِ الآدَمِىِّ يجوزُ بَيْعُها، فإنَّه يجُوزُ بَيْعُ العَبْدِ، والأمَةِ، وإنَّما حُرِّمَ بَيْعُ الحُرِّ؛ لأنَّه لَيْسَ بمَمْلُوكٍ، وحُرِّمَ بَيْعُ العُضْوِ المَقْطُوعِ؛ لأنَّه لا نَفعَ فيه.
فصل:
واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ فى بَيْعِ رِباعِ مَكَّةَ، وإجارَةِ دُورِها، فَرُوِىَ أنَّ ذَلك غيرُ جائِزٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالِكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وكَرِهَه إسْحاقُ؛ لما رَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيهِ، عن جَدِّهِ، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى مَكَّةَ: "لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا، وَلَا تُكْرَى بُيُوتُهَا". رواه الأثْرَمُ بإسْنادِهِ (14). وعن مُجاهِدٍ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"مَكَّةُ حَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا، حَرَامٌ إجَارَتُها". وهذا نَصٌّ رواه سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، فى "سُنَنِهِ"(14). وروى أنَّها كانت تُدْعَى (15) السَّوَائِبَ، على عَهْدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَه مُسَدَّدٌ فى "مُسْنَدِه"(16)، ولأنَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً، ولم تُقَسَّمْ، فكانت مَوْقُوفَةً، فلم يَجُزْ بَيْعُها، كسائِر الأرْضِ التى فَتَحَها المسلمون عَنْوَةً، ولم يُقَسِّموها، والدَّلِيلُ على أنَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً، قولُ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عَلَيْها رَسُولَه والمُؤْمِنِينَ، وَإنَّها لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى، ولا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِى، وإنَّما أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً من نَهَارٍ". مُتَّفَقٌ عليه (17). ورَوَتْ أمُّ هَانِىءٍ
(14) وأخرجهما الحاكم، فى: باب مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تواجر بيوتها، من كتاب البيوع. المستدرك 2/ 53. والهيثمى، فى: باب إجارة بيوت مكة، من كتاب الحج. مجمع الزوائد 3/ 297.
(15)
أى رباع مكة.
(16)
وأخرجه ابن ماجه، فى: باب أجر بيوت مكة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1037.
(17)
أخرجه البخارى، فى: باب كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب كيف تعرف لقطة مكة، من كتاب اللقطة. صحيح البخارى 1/ 38، 3/ 164، 165. ومسلم، فى: باب تحريم مكة وصيدها. . .، =
أنَّها (18) قالت: أجَرْتُ حَمَوَيْنِ لِى، فأرَادَ علىٌّ أخِى قَتْلَهما، فأتَيْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسولَ اللَّه إنِّى أجَرْتُ حَمَوَيْنِ لِى، فزَعَمَ ابنُ أُمِّى علىٌّ أنَّه قَاتِلُهُما. فقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ"، أو "أمَّنَّا مَنْ أمَّنْتِ يا أُمَّ هَانِىءٍ"، مُتَّفَقٌ عليه (19)، ولذلك أمَرَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: بِقَتْلِ أَرْبَعَةٍ، فَقُتِلَ منهم ابنُ خَطَلٍ، ومِقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ، وهذا يَدُلُّ على أنَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً. والرِّواية الثانية، أنَّه يجوزُ بَيْعُ رِباعِهَا، وإجارَةُ بُيُوتِهَا (20). وَرُوِىَ ذلك عن طاوُسٍ، وعَمْرِو بن دِينارٍ. وهذا قولُ الشَّافِعىِّ وابنِ المُنْذِرِ. وهو أظْهَرُ فى الحُجَّةِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قِيلَ له: أيْنَ نَنْزِلُ غَدًا؟ قال: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ؟ " مُتَّفَقٌ عليه (21). يعنى أنَّ عَقِيلًا باعَ رِباعَ أبى طالِبٍ؛ لأنَّه وَرِثَه دونَ إخْوَتِه؛ لِكَوْنِه كان عَلَى دِينِه دونَهما، فلو كانت غيرَ مَمْلُوكَةٍ، لَمَا أثَّرَ بَيْعُ عَقِيلٍ شَيْئًا، ولأنَّ أصْحابَ النَّبىِّ كانتْ لهم دُورٌ بمَكَّةَ؛ لأبى بكرٍ، والزُّبَيْرِ، وحَكِيمِ بن حِزامٍ،
= من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989.
كما أخرجه أبو داود، فى: باب تحريم حرم مكة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 465. والدارمى، فى: باب فى النهى عن لقطة الحاج، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 265. والإمام أحمد، فى: المسند 2/ 238.
(18)
سقط من: م.
(19)
أخرجه البخارى، فى: باب الصلاة فى الثوب الواحد. . .، من كتاب الصلاة، وفى: باب أمان النساء وجوارهن، من كتاب الجزية، وفى: باب ما جاء فى زعموا، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 1/ 100، 4/ 122، 8/ 46. ومسلم، فى: باب استحباب صلاة الضحى. . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 498.
كما أخرجه الترمذى، فى: باب ما جاء فى أمان العبد والمرأة، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 75.
(20)
فى الأصل: "منازلها".
(21)
أخرجه البخارى، فى: باب توريث دور مكة وبيعها. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 181. ومسلم، فى: باب النزول بمكة للحاج. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 984.
كما أخرجه أبو داود، فى: باب التحصيب، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 463. وابن ماجه، فى: باب ميراث أهل الإسلام، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 912.
وأبى سُفْيانَ، وسائِرِ أهْلِ مَكَّةَ، فمنهم مَن باعَ، ومنهم مَنْ تَرَكَ دارَه، فَهِىَ فى يَدِ أعْقابِهم. وقد باعَ حَكِيمُ بن حِزامٍ دارَ النَّدْوَةِ، فقال له (22) ابنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مَكْرمَةَ قُرَيْشٍ. فقال: يا ابنَ أخِى، ذَهَبَتِ المَكارِمُ إلَّا التَّقْوَى. أو كما قال. واشْتَرَى مُعاوِيَةُ منه (23) دارَيْنِ. واشْتَرَى عُمَرُ دارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، بأرْبَعَةِ آلَافٍ. ولم يَزَلْ أهْلُ مَكَّةَ يَتَصَرَّفُونَ فى دُورهِم تَصَرُّفَ المُلَّاكِ، بِالبَيْعِ وغيرِه، ولم يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا، وقد قَرَّرَه النَّبِىُّ بِنِسْبَةِ دُورِهِم إليهم، فقال:"مَنْ دَخَلَ (24) دَارَ أبى سُفْيَانَ فهو آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عليه بابَه فهو آمِنٌ"(25). وأقَرَّهُمْ فى دُورِهِمْ ورِباعِهِمْ، ولم يَنْقُلْ أحَدًا عن دارِه، ولا وُجِدَ منه ما يَدُلُّ على زَوالِ أمْلاكِهِم، وكذلك مَنْ بعدَه مِن الخُلَفَاءِ، حتى إنَّ عمرَ رَضِىَ اللَّه عنه، مع شِدَّتِه فى الحَقِّ، لمَّا احْتاجَ إلى دارٍ للسِّجْنِ (26)، لم يَأْخُذْها إلَّا بالبَيْعِ. ولأنَّها أرْضٌ حَيَّةٌ لم يَرِدْ عليها صدقةٌ مُحَرّمةٌ؛ فجازَ بَيْعُها كسائِر الأرْضِ، وما رُوِىَ من الأحادِيثِ فى خِلافِ هذا، فهو ضَعِيفٌ. وأمَّا كَوْنُها فُتِحَتْ عَنْوَةً، فهو الصَّحِيحُ، الذى لا يُمكنُ دَفْعُه، إلَّا أنَّ النبِىَّ صلى الله عليه وسلم أقَرَّ أهْلَهَا فيها على أمْلاكِهِمْ ورِباعِهِمْ، فيَدُلُّ ذلك على أنَّه تَرَكَها لهم، كما تَرَكَ لِهوازِنَ نِساءَهم وأبْناءَهم. وعلى القولِ الأوَّلِ، مَنْ كان ساكنَ دارٍ أو مَنْزِلٍ فهو أحَقُّ به، يَسْكُنُه ويُسْكِنُه، وليس لَه بَيْعُه، ولا أخْذُ أُجْرَتِه، ومَن احْتاجَ إلى مَسْكَنٍ، فَلَه بَذْلُ الأُجْرَةِ فيه، وإن احْتاجَ إلى الشِّراءِ فله ذلك، كما فَعَلَ عمر رَضِىَ اللَّه عنه. وكان أبو عبدِ اللهِ إذا سَكَنَ أعْطَاهم أُجْرَتَها. فإن سَكَنَ بأجْرَةٍ
(22) سقط من م.
(23)
سقط من م.
(24)
فى الأصل، م:"داخل". والتصويب من مصادر تخريج الحديث.
(25)
أخرجه مسلم، فى: باب فتح مكة، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1408. وأبو داود، فى: باب ما جاء فى خبر مكة، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 144. والإمام أحمد، فى: المسند 2/ 292، 538.
(26)
فى م: "السجن".