الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(خِيَار المُتَبَايِعَيْنِ)
أىْ بَابُ خِيَارِ المُتَبايِعَيْنِ، فَحُذِفَ اخْتِصارًا.
700 - مسألة؛ قال أبو القاسم رحمه الله: (وَالمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأبْدَانِهِمَا)
فى هذه المَسْألةِ ثلاثةُ فُصولٍ، أحَدُها، أنَّ البَيْعَ يَقَعُ جَائِزًا، ولِكُلٍّ مِنَ المُتَبَايِعَيْنِ الخِيَارُ فى فَسْخِ البَيْعِ، ما دَامَا مُجْتَمِعَيْنِ، لم يَتَفَرَّقَا، وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وابنِ عمرَ، وابنِ عَبّاسٍ، وأبِى هُرَيْرَةَ، وأبى بَرْزَةَ (1)، وبه قال سَعِيدُ بن المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٌ، والشَّعْبِىُّ، وعَطَاءٌ، وطَاوُسٌ، والزُّهْرِيُّ والأوْزاعِيُّ، وابنُ أبى ذِئْبٍ، والشافِعيُّ، وإسحَاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مَالِكٌ وأصْحابُ الرَّأْىِ: يَلْزَمُ العَقْدُ بالإيجَابِ والقَبُولِ، ولا خِيارَ لهما؛ لأنَّه رُوِىَ عن عمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه: البَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ. ولأنَّه عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَزِمَ بمُجَرَّدِه، كَالنِّكاحِ والخُلْعِ. ولنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إذا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وكَانَا جَمِيعًا، أوْ يُخَيِّرُ أحَدُهما الآخَرَ، فإنْ خَيَّرَ أحَدُهما الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، وإن تَفَرَّقَا بَعْدَ أنْ تَبَايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهُمَا البَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ". مُتَّفَقٌ عليه (2). وقال
(1) تقدمت ترجمته فى: 2/ 401.
(2)
أخرجه البخارى، فى: باب إذا خيّر أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 84. ومسلم، فى: باب ثبوت خيار المجلس، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1163.
كما أخرجه النسائى، فى: باب ذكر الاختلاف على نافع فى لفظ حديثه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 219. وابن ماجه، فى: باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 736. والإِمام أحمد، فى: المسند 2/ 119.
-صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفرَّقَا". رَوَاهُ الأئِمَّةُ كُلُّهُمْ (3). ورَوَاهُ عَبْدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، وحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وأبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِيُّ. واتُّفِقَ على حَدِيثِ ابن عمرَ، وحَكيمٍ، ورَوَاهُ عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عمرَ، مَالِكٌ، وأيُّوبُ، وعُبَيْدُ اللهِ بنُ عمرَ، وابنُ جُرَيْجٍ، واللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، ويَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، وغَيْرُهم. وهو صَرِيحٌ فى حُكْمِ المَسْأَلةِ. وعَابَ كَثِيرٌ من أهْلِ العِلْمِ على مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ لِلْحَدِيثِ، مع رِوَايَتهِ له، وثُبُوتِه عِنْدَه، وقال الشَّافِعِيُّ، رحمه الله: لا أدْرِى هل اتَّهَمَ مَالِكٌ نَفْسَه أو نَافِعًا؟ وأُعْظِمُ أنْ أَقُولَ: عَبْدَ اللهِ بنَ عمرَ. وقال ابنُ أَبِى ذِئْبٍ: يُسْتَتَابُ مَالِكٌ فى تَرْكِه لهذا الحَدِيثِ. فإن قِيلَ: المُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ هَاهُنَا التَّفَرُّقُ بالأقْوَالِ، كما قال اللهُ تَعَالَى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (4). وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلَاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً"(5). أىْ بِالأقْوالِ والاعْتِقادَاتِ. قلنا: هذا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ، منها، أنَّ اللَّفْظَ لا يَحْتَمِلُ ما قَالُوهُ؛ إذْ لَيْسَ بين المُتَبَايِعَيْنِ تَفَرُّقٌ بقَوْلٍ (6) ولا اعْتِقَادٍ، إنَّما بَيْنهما اتِّفَاقٌ على الثَّمَنِ والمَبِيعِ بعد الاخْتِلَافِ فيه. الثانى، أنَّ هذا يُبْطِلُ فَائِدَةَ الحَدِيثِ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أنهما بِالخِيَارِ قبلَ العَقْدِ فى إنْشَائِه وإتْمَامِه، أو تَرْكِهِ. الثالث، أنَّه قال فى الحَدِيثِ:"إذا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ منهما بِالْخِيَار". فجَعَلَ لهما الخِيارَ بعد تَبَايُعِهما، وقال:"وإنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أنْ تَبَايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهُمَا البَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ". الرابع، أنَّه يَرُدُّهُ تَفْسِيرُ ابنِ عمرَ لِلْحَدِيثِ بِفِعْلِه، فإنَّه كان إذا بَايَعَ رَجُلًا مَشَى خُطُوَاتٍ؛ لِيَلْزَمَ البَيْعُ، وتَفْسِيرُ أبى بَرْزَةَ له، بِقَوْلِه على مِثْلِ قَوْلِنَا، وهما رَاوِيَا الحَدِيثِ، وأعْلَمُ بمَعْنَاهُ، وقَوْلُ عمرَ: البَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ. معناه، أنَّ البَيْعَ يَنْقَسِمُ إلى بَيْعٍ شُرِطَ فيه الخِيَارُ،
(3) تقدم تخريجه فى صفحة 6.
(4)
سورة البينة 4.
(5)
أخرجه أبو داود، فى: باب شرح السنة، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 503. والترمذى، فى: باب ما جاء فى افتراق هذه الأمة، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذى 10/ 109. وابن ماجه، فى: باب افتراق الأمم، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1321، 1322. والدارمى، فى: باب فى افتراق هذه الأمة، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 241. والإمام أحمد، فى: المسند 2/ 332. 3/ 145.
(6)
فى م: "بلفظ".
وبَيْعٍ لم يُشْتَرَطْ فيه، سَمَّاهُ صَفْقَةً لِقِصَرِ مُدَّةِ الخِيَارِ فيه، فإنَّه قد رَوَى عنه أبو إسحاقَ الجُوزَجَانِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنا، ولو أرَادَ ما قَالُوهُ، لم يَجُزْ أن يُعَارَضَ به قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا حُجَّةَ فى قَوْلِ أحَدٍ مع قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَدْ كان عمرُ إذا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَجَعَ عن قَوْلِه، فكيف يُعارَضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِه؟ على أنَّ قَوْلَ عمرَ ليسَ بِحُجَّةٍ إذا خَالَفَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وقد خَالَفَهُ ابْنُه، وأبو بَرْزَةَ، وغَيْرُهما، ولا يَصِحُّ قِيَاسُ البَيْعِ على النِّكَاحِ؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يَقَعُ غَالِبًا إلَّا بعد رَوِيَّةٍ ونَظَرٍ وتَمَكُّثٍ، فلا يَحْتاجُ إلى الخِيَارِ بعده، ولأنَّ فى ثُبُوتِ الخِيَارِ فيه مَضَرَّةٌ، لما يَلْزَمُ من رَدِّ المَرْأةِ بعد ابْتِذَالِها بِالعَقْدِ، وذَهَابِ حُرْمَتِها بِالرَّدِّ، وإلْحَاقِها بِالسِّلَعِ المَبِيعَةِ، فلم يَثْبُتْ فيه خِيَارٌ لذلك، ولِهذا لم يَثْبُتْ فيه خِيَارُ الشَّرْطِ، ولا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، والحُكْمُ فى هذه المَسْألَةِ ظَاهِرٌ؛ لِظُهُورِ دَلِيلِه، وَوَهَاءِ ما ذَكَرَهُ المُخَالِفُ فى مُقَابَلَتِه، واللهُ أعْلَمُ. الفصل الثاني، أنَّ البَيْعَ يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِما؛ لِدَلَالَةِ الحَدِيثِ عليه، ولا خِلَافَ فى لُزُومِه بعد التَّفَرُّقِ، والمَرْجِعُ فى التَّفَرُّقِ إلى عُرْفِ النّاسِ وعَادَتِهم، فيما يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا؛ لأنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عليه حُكْمًا، ولم يُبَيِّنْهُ، فَدَلَّ ذلك على أنَّه أرَادَ ما يَعْرِفُه النّاسُ، كَالقَبْضِ، والإِحْرَازِ، فإن كانَا فى فَضَاءٍ وَاسِعٍ، كَالمَسْجِدِ الكَبِيرِ، والصَّحْرَاءِ، فَبِأَنْ يَمْشِىَ أحَدُهُمَا مُسْتَدْبِرًا لِصَاحِبِه خُطُوَاتٍ، وقِيلَ: هو أن يَبْعُدَ منه بِحَيْثُ لا يَسْمَعُ كَلَامَه الذى يَتَكَلَّمُ به فى العادَةِ. قال أبُو الحَارِثِ: سُئِلَ أحْمَدُ عن تَفْرِقَةِ الأبدَانِ؟ فقال: إذا أخَذَ هذا كذا، وهذا كذا، فقد تَفَرَّقَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، عن نَافِعٍ، قال: فكان ابنُ عُمَرَ إذا بَايَعَ، فأرَادَ [أنْ](7) لا يُقِيلَه، مَشَى هُنَيْهَةً، ثم رَجَعَ. وإنْ كَانَا فى دَارٍ كَبِيرَةٍ، ذاتِ مَجَالِسَ وبُيُوتٍ، فَالمُفَارَقَةُ أنْ يُفَارِقَهُ من بَيْتٍ إلى بَيْتٍ، أو إلى مَجْلِسٍ، أو صِفَةٍ، أو من مَجْلِسٍ إلى بَيْتٍ، أو نَحْوِ ذلك. فإنْ كَانَا فى دارٍ صَغِيرَةٍ، فإذا صَعِدَ أحَدُهُما السَّطْحَ، أو خَرَجَ منها، فقد فَارَقَهُ. وإن كانَا فى سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ، خَرَجَ أحَدُهما منها
(7) تكملة من صحيح مسلم 3/ 1164.
ومَشَى، وإنْ كانتْ كَبِيرَةً صَعِدَ أحَدُهما على أعْلاها، ونَزَلَ الآخَرُ فى أسْفَلِها. وهذا كُلّه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فإنْ كان المُشْتَرِى هو البَائِعَ، مثلُ أنْ يَشْتَرِىَ لِنَفْسِه من مَالِ وَلَدهِ، أو اشْتَرَى لِوَلَدِه من مَالِ نَفْسِه، لم يَثْبُتْ فيه خِيَارُ المَجلِسِ؛ لأنَّه تَوَلَّى طَرَفَىِ العَقْدِ، فلم يَثْبُتْ له خِيَارٌ، كَالشَّفِيعِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَثْبُتَ فيه، ويُعْتَبَرَ مُفَارَقَة مَجْلِسِ العَقْدِ لِلُزُومِهِ؛ لأنَّ الافْتِرَاقَ لا يُمْكِنُ هَاهُنَا، لِكَوْنِ البَائِعِ هو المُشْتَرِى، ومَتَى حَصَلَ التَّفَرُّقُ لَزِمَ العَقْدُ، قَصَدَا ذلك أو لم يَقْصِدَاهُ، عَلِمَاهُ أو جَهِلَاهُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ الخِيارَ على التَّفَرُّقِ، وقد وُجِدَ. ولو هَرَبَ أحَدُهما من صَاحِبِه، لَزِمَ العَقْدُ؛ لأنَّه فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، ولا يَقِفُ لُزُومُ العَقْدِ على رِضَاهما، ولهذا كان ابنُ عُمَرَ يُفَارِقُ صَاحِبَه لِيَلْزَمَ البَيْعُ. ولو أقَامَا فى المَجْلِسِ، وسَدَلَا بينهما سِتْرًا، أو بَنَيَا بينهما حَاجِزًا، أو نَامَا، أو قَامَا فَمَضَيَا جَمِيعًا ولم يَتَفَرَّقَا، فَالخِيَارُ بحَالِه، وإن طَالَتِ المُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ. ورَوَى أبُو دَاوُدَ (8)، والأثْرَمُ، بإسْنَادِهِمَا عن أبى الوَضِىءِ (9)، قال: غَزَوْنَا غَزوَةً لنا، فنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فبَاعَ صَاحِبٌ لنا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثم أقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ولَيْلَتِهِما، فلمَّا أصْبَحَا من الغَدِ، وحَضَرَ الرَّحِيلُ، قَامَ إلى فَرَسِه يُسْرِجُهُ، فَنَدِمَ، فأَتَى الرَّجُلَ، وأخَذَهُ بِالبَيْعِ، فأبَى الرَّجُلُ أنْ يَدْفَعَهُ إليه، فقال: بَيْنِى وبَيْنَكَ أبو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأَتَيَا أبَا بَرْزَة فى نَاحِيَةِ العَسْكَرِ (10)، فقَالَا له هذه القِصَّة. فقال: أتَرْضَيانِ أن أقْضِىَ بَيْنَكُما بِقَضاءِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا". ما أَرَاكُما افْتَرَقْتُما. فإنْ فَارَقَ أحَدُهما الآخَرَ مُكْرَهًا، احْتَمَلَ بُطْلَانُ الخِيَارِ؛ لوُجُودِ غَايَتِه، وهو التَّفَرُّقُ، ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فى مُفَارَقَةِ صَاحِبِه له،
(8) أخرجه أبو داود، فى: باب فى خيار المتبايعين، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 245. وانظر ما تقدم فى تخريج حديث:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" صفحة 6.
(9)
فى النسخ: "أبى الرضى". تحريف.
(10)
فى م: "المعسكر".