الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالضَّمَانِ، ولأنَّ اللهَ تَعالى قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . فجَعَلَهُ بَدَلًا عن الكِتَابَةِ، فيكونُ فى مَحَلِّها، ومَحَلُّهَا بعدَ وُجُوبِ الحَقِّ، وفى الآيةِ ما يَدُلُّ على ذلك، وهو قولُه:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . فجَعَلَهُ جَزَاءً لِلمُدَايَنَةِ مَذْكُورًا بعدَها بفاءِ التَّعْقِيبِ. الحالُ الثانى، أن يَقَعَ الرَّهْنُ مع العَقْدِ المُوجِبِ لِلدَّيْنِ، فيقولُ: بِعْتُكَ ثَوْبِى هذا بِعَشَرَةٍ إلى شَهْرٍ (11)، تَرْهَنُنِى بها عَبْدَكَ سَعْدًا. فيقولُ: قَبِلْتُ ذلك. فيَصِحُّ أيضا. وبه قال مالِكٌ، والشَّافِعِىُّ، وأصْحَابُ الرَّأْىِ؛ لأنَّ الحاجَةَ دَاعِيَةٌ إلى ثُبُوتِه، فإنَّه لو لم يَعْقِدْهُ مع ثُبُوتِ الحَقِّ، ويَشْتَرِطْ فيه، لم يَتَمَكنْ من إلْزَامِ المُشْتَرِى عَقْدَهُ، وكانت الخِيَرَةُ إلى المُشْتَرِى، والظَّاهِرُ أنَّه لا يَبْذُلُه، فتَفُوتُ الوَثِيقَةُ بالحَقِّ. الحالُ الثالث، أن يَرْهَنَهُ قبلَ الحَقِّ، فيقولُ: رَهَنْتُكَ عَبْدِى هذا بِعَشَرَةٍ تُقْرِضُنِيها. فلا يَصِحُّ فى ظَاهِرِ المَذْهَبِ. وهو اخْتِيَارُ أبى بكرٍ والقاضِى. وذَكَرَ القاضى: أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه، فى رِوَايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهو مذهبُ الشَّافِعِىِّ. واخْتَارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه يَصِحُّ. فمتى قال: رَهَنْتُكَ ثَوْبِى هذا بَعَشَرَةٍ تُقْرِضُنِيهَا غَدًا. وسَلَّمَهُ إليه، ثم أَقْرَضَه الدَّرَاهِمَ، لَزِمَ الرَّهْنُ. وهو مَذهبُ مالِكٍ وأبى حنيفةَ؛ لأنَّه وَثِيقَةٌ بحَقًّ، فجازَ عَقْدُها قبلَ وُجُوبِه، كالضَّمَانِ، أو فجَازَ انْعِقَادُها على شىءٍ يَحْدُثُ فى المُسْتَقْبَلِ، كضَمانِ الدَّرْكِ. ولَنا، أنَّه وَثِيقَةٌ بحَقٍّ لا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، فلم تَصِحَّ قَبْلَهُ كالشَّهادَةِ، ولأنَّ الرَّهْنَ تَابعٌ للحَقِّ، فلا يَسْبِقُه، كالشَّهَادَةِ، والثَّمَنُ لا يَتَقَدَّمُ البَيْعَ. وأمَّا الضَّمانُ فيَحْتَمِلُ أن يُمْنَعَ صِحَّتُهُ، وإن سَلَّمْنَا فالفَرْقُ بينهما أن الضَّمَانَ الْتِزَامُ مَالٍ تَبَرُّعًا بالقَوْلِ، فجازَ من غيرِ حَقٍّ ثابِتٍ، كالنَّذْرِ، بخِلَافِ الرَّهْنِ.
784 - مسألة؛ قال: (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا أنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأمْرِ)
يَعْنِى لا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلّا بالقَبْضِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ والشَّافِعِىُّ. وقال بعضُ
(11) فى أ: "شهرين".
أصْحَابِنَا: ما كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، لا يَلْزَمُ رَهْنُه إلَّا بالقَبْضِ، وفيما عداهما رِوَايَتانِ؛ إحْدَاهما، لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ. والأُخْرَى، يَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كالبَيْعِ. وقد نَصَّ أحمدُ على هذا، فى رِوَايَةِ المَيْمُونِىّ. وحَمَلَ القاضى كلامَ الخِرَقِىِّ على المَكِيلِ والمَوْزُونِ خاصَّةً. وليس بِصحِيحٍ؛ فإنَّ كَلامَ الخِرَقِىِّ مع عُمُومِه، قد أَتْبَعَهُ بما يَدُلُّ على إِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، وهو قولُه: فإن كان مما يُنْقَلُ، فقَبْضُه أخْذُه إيَّاهُ من رَاهِنِه مَنْقُولًا، وإنْ كان ممَّا لا يُنْقَلُ، كالدُّورِ والأَرَضِينَ، فقَبْضُه بِتَخْلِيَةِ رَاهِنِه بَيْنَه وبَيْنه (1). [وقد قال] (2) أحمدُ فى الدَّارِ والجَارِيَةِ إذا رَدَّهَا إلى الرَّاهِنِ: لم يكُنْ رَهْنًا فى الحال. وهذا كقَوْلِ الخِرَقِىِّ. وقال مالِكٌ: يَلْتَزِمُ الرَّهْنَ بمُجَرَّدِ العَقْدِ قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَلْزَمُ بالقَبْضِ، فلَزِمَ قبلَه، كالبَيْعِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . وَصَفَها بِكَوْنِها مَقْبُوضَةً، ولأنَّه عَقْدُ إرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فافْتَقَرَ إلى القَبْضِ، كالقَرْضِ، ولأنَّه رَهْنٌ لم يُقْبَضْ، فلا يَلْزَمُ إقْبَاضُهُ، كما لو ماتَ الرَّاهِنُ، ولا يُشْبِهُ البَيْعَ، فإنَّه مُعاوَضَةٌ، وليس بإِرْفاقٍ. وقولُ الخِرَقِىِّ:"مِن جَائِزِ الأَمْرِ". يعنى أنَّ الرَّاهِنَ الذى يَرْهَنُ ويقْبِضُ، يكونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فى مَالِه، وهو الحُرُّ المُكَلَّفُ الرَّشِيدُ، ولا يكون مَحْجُورًا عليه، لِصِغَرٍ أو جُنُونٍ أو سَفَهٍ أو فَلَسٍ، ويُعْتَبرُ ذلك فى حالِ رَهْنِه وإِقْبَاضِه؛ لأنَّ العَقْدَ والتَّسْلِيمَ ليس بوَاجِبٍ، وإنَّما هو إلى اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ، فإذا لم يكُنْ له اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، لم يَصِحَّ، ولأنَّه نَوْعُ تَصَرُّفٍ فى المالِ، فلم يَصِحَّ من المَحْجُورِ عليه من غيرِ إذْنٍ، كالبَيْعِ. فإنْ جُنَّ أحَدُ المُتَرَاهِنَيْنِ قبلَ القَبْضِ، أو مَاتَ، لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَؤُولُ إلى اللُّزُومِ، فلم يَبْطُلْ بِجُنُونِ أحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ أو مَوْتِه، كالبَيْعِ الذى فيه الخِيَارُ، ويَقُومُ وَلِىُّ المَجْنُونِ مَقامَهُ، فإن كان المَجْنُونُ الرَّاهِنَ، وكان الحَظُّ فى التَّقْبِيضِ، مثل أن يكونَ شَرْطًا فى بَيْعٍ يَسْتَضِرُّ بِفَسْخِه ونحوَه، أَقْبَضَهُ. وإن كان الحَظُّ فى
(1) فى أ: "وبين مرهنه".
(2)
فى م: "وقال".