الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنَّهما إن هَلَكَتْ ماشِيَتُهما رَجَعَا إلى نَخْلٍ وزَرْعٍ، وإنَّ هذا المِسْكِينَ إن هَلَكَتْ ماشِيَتُه، جاءَ يَصْرُخُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فالكَلَأُ أهْوَنُ علىَّ أَم غُرْمُ الذَّهَبِ والوَرِقِ، إنَّها أرْضُهُم قاتَلُوا عليها في الجاهِلِيّةِ، وأسْلَمُوا عليها في الإِسْلامِ، وإنَّهم لَيَرَوْنَ أنَّا نَظْلِمُهُم، ولولا النَّعَمُ التي يُحْمَلُ عليها في سَبِيلِ اللَّه، ما حَمَيْتُ على الناسِ من بِلَادِهم شيئًا أبَدًا. وهذا إجْماعٌ منهم. ولأنَّ ما كان لِمَصَالِحِ المسلمينَ، قامَتِ الأئِمّةُ فيه مَقَامَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد رُوِىَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"مَا أطْعَمَ اللهُ لِنَبِىٍّ طُعْمَةً إلَّا جَعَلَها طُعْمَةً لِمَنْ بَعْدَهُ"(60). وأما الخَبَرُ فمَخْصُوصٌ، وأمَّا حِمَاهُ لِنَفْسِه، فيُفَارِقُ حِمَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِه، لأنَّ صَلَاحَه يَعُودُ إلى صَلَاحِ المسلِمين، ومالَه كان يَرُدُّه في المسلِمين، ففَارَقَ الأئِمّةَ في ذلك، وسَاوَوْهُ فيما كان صَلَاحَ المُسْلِمينَ، وليس لهم أن يَحْمُوا إلَّا قَدْرًا لا يُضَيّقُ (61) على المسلمين ويَضُرُّ بهم؛ لأنَّه إنَّما جازَ لما فيه من المَصْلَحةِ لما يَحْمى، وليس من المَصْلَحةِ إدْخَالُ الضَّرَرِ على أكْثَرِ الناسِ.
فصل:
وما حَمَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فليس لأحدٍ نَقْضُه، ولا تَغْيِيرُه، مع بَقَاءِ الحاجةِ إليه. ومن أحْيَا منه شيئا لم يَمْلِكْه. وإن زَالَتِ الحاجَةُ إليه، ففيه وَجْهانِ. وما حَمَاهُ غيرُه من الأئِمَّةِ، فغيَرهُ هو أو غيرُه من الأئِمّةِ، جازَ. وإن أحْيَاهُ إنْسَانٌ، مَلَكَه، في أحدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّ حِمَى الأئِمَّةِ اجْتِهادٌ، ومِلْكُ الأرْضِ بالإِحْياءِ نَصٌّ، والنَّصُّ يُقَدَّمُ على الاجْتِهادِ. والوَجْهُ الآخَرُ، لا يَمْلِكُه؛ لأنَّ اجْتِهادَ الإِمَامِ لا يجوزُ نَقْضُه، كما لا يجوزُ نَقْضُ حُكْمِه. ومذهبُ الشافِعِىِّ في هذا على نحوِ ما قُلْنَا.
فصل: في أحْكامِ المِيَاهِ، قد ذَكَرْنا في البَيْع حُكْمَ مِلْكِها وبَيْعِها، ونَذْكُرُ ههُنا حُكْمَ السَّقْىِ بها. فنقول: لا يَخْلُو الماءُ من حالَيْنِ؛ إمَّا أن يكونَ جارِيًا، أو واقِفًا، فإن كان جارِيًا فهو ضَرْبانِ؛ أحدهما، أن يكونَ في نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، وهو قِسْمَانِ؛
(60) أخرجه أبو داود، في: باب صفايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأموال، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 130. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 4.
(61)
في ب، م زيادة:"به".
أحدُهما، أن يكون نَهْرًا عَظِيمًا، كالنِّيلِ والفُرَاتِ ودِجْلَة، وما أشْبَهَها من الأنْهارِ العَظِيمةِ، التي لا يَسْتَضِرُّ أحدٌ بِسَقْيِه منها، فهذا لا تَزَاحُمَ فيه، ولكل أحدٍ أن يَسْقِىَ منها ما شاءَ، متى شاءَ، وكيف شاءَ. القسم الثاني، أن يكون نَهْرًا صَغِيرا يَزْدَحِمُ الناسُ فيه (62)، ويَتَشَاحُّونَ في مائِه، أو سَيْلًا (63) يَتَشَاحُّ فيه أهْلُ الأرْضِ (64) الشارِبَةِ منه، فإنَّه يُبْدَأُ بمَنْ في أَوَّلِ النَّهْرِ، فيَسْقِى ويَحْبِسُ الماءَ حتى يَبْلُغَ إلى الكَعْبِ، ثم يُرْسِلُ إلى الذي يَلِيه فيَصْنَعُ كذلك، وعلى هذا إلى أن تَنْتَهِىَ الأرَاضِى كلُّها. فإن لم يَفْضُلْ عن الأوّلِ شيءٌ، أو عن الثاني، أو عَمَّنْ يَلِيهم فلا شىءَ (65) لِلْباقِينَ؛ لأنَّهم (66) ليس لهم إلَّا ما فَضَلَ، فهم كالعَصَبَةِ في المِيرَاثِ. وهذا قولُ فُقَهاءِ المَدِينةِ، ومالِكٍ، والشافِعِىِّ، ولا تعْلَمُ فيه مُخَالِفًا. والأصْلُ في هذا ما رَوَى عبدُ اللَّه بن الزُّبَيْرِ، أنَّ رَجُلًا من الأنْصارِ خاصَمَ الزُّبَيْرَ في شِرَاجِ الحَرَّةِ، التي يَسْقُونَ بها، إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثُمَّ أرْسِلِ الْماءَ إلَى جارِكَ". فغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ، وقال: يا رسولَ اللَّه، آنْ كان ابنَ عَمَّتِكَ؟ فتَلَوَّن وَجْهُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"يا زُبَيْر اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ الْماءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الجَدْرِ". قال الزُّبَيْرُ: فوالله إنِّي لأَحْسَبُ هذه الآيةَ نَزَلَتْ فيه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (67). مُتَّفَقٌ عليه (68). ورَوَاهُ مالِكٌ، في
(62) سقط من: الأصل.
(63)
في النسخ: "سيل".
(64)
في الأصل: "الأرضين".
(65)
في الأصل: "حق".
(66)
في ب، م:"لأنه".
(67)
سورة النساء 65.
(68)
أخرجه البخاري، في: باب سكر الأنهار، وباب شرب الأعلى قبل الأسفل، وباب شرب الأعلى إلى الكعبين، من كتاب المساقاة، وفى: باب إذا أشار الإِمام بالصلح. . .، من كتاب الصلح، وفى: باب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. . .} ، من كتاب التفسير. صحيح البخاري 3/ 145، 146، 245، 6/ 57، 58. ومسلم، في: باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1829، 1830. =
"مُوَطَّئِه"(69) عن الزُّهْرِىِّ، عن عُرْوَةَ، عن عبدِ اللَّه بن الزُّبَيْرِ. وذَكَرَ عنه عبدُ الرَّزّاقِ (69)، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِىِّ قال: نَظَرْنا في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ احْبِسِ الْماءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلى الجدْرِ". فكان ذلك إلى الكَعْبَيْنِ. قال أبو عُبَيْدٍ: الشِّرَاجُ: جَمْعُ شَرْجٍ، والشَّرْجُ: نَهْرٌ صَغِيرٌ، والحَرَّةُ: أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بحِجَارَةٍ سُودٍ، والجَدْرُ: الجِدَارُ، وإنَّما أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ أن يَسْقِىَ ثم يُرْسِلَ الماءَ، تَسْهِيلًا على غيرِه، فلما قال الأنصارِىُّ ما قال، اسْتَوْعَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ حَقَّهُ. ورَوَى مالِكٌ، في "المُوَطَّإِ"(70) أيضًا، عن عبدِ اللَّه بن أبي بَكْرِ بن حَزْمٍ، أنَّه بَلَغَهُ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في سَيْلِ مَهْزُوزٍ ومُذَيْنِيبٍ:"يُمْسِكُ حَتَّى الكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأعْلَى عَلَى الأَسْفَلِ". قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا حَدِيثٌ مَدَنِىٌّ، مَشْهُورٌ عند أهْلِ المَدِينةِ، مَعْمُولٌ به عندَهم. قال عبدُ المَلِكِ بن حبيبٍ: مَهْزُوزٌ ومُذَيْنِيب: وادِيَانِ من أوْدِيَةِ المَدِينَةِ، يَسِيلَانِ بالمَطَرِ، وتَتَنافَسُ أهْلُ الحَوَائطِ في سَيْلِهِما. ورَوَى أبو داوُدَ (71)، بإسْنادِه عن ثَعْلَبةَ بن أبي مالِكٍ، أنَّه سَمِعَ كُبَرَاءَهُم يَذْكُرُونَ، أنَّ رَجُلًا من قُرَيْشٍ كان له سَهْمٌ في بَنِى قُرَيْظَةَ، فخاصَمَ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في سَيْلِ مَهْزُوزٍ والسَّيْلِ الذي يَقْتَسِمُونَ ماءَه، فقَضَى بينهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّ الماءَ إلى الكَعْبَيْنِ، لا يَحْبِسُ الأعْلَى على الأسْفلِ. ولأنَّ مَنْ أرضُه قَرِيبَةٌ من فُوَّهَةِ النَّهْرِ أسْبَقُ إلى الماءِ، فكان
= كما أخرجه أبو داود، في: باب أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 283، 284. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء، من أبواب الأحكام، عارضة الأحوذى 6/ 119، 120. والنسائي، في: باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان، وباب إشارة الحاكم بالرفق، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 209، 215. وابن ماجه، في: باب تعظيم حديث رسول اللَّه. . . .، من المقدمة، وفى: باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 1/ 7، 8، 2/ 829. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 5.
(69)
لم نجده في الموطأ، ولا في مصنف عبد الرزاق.
(70)
في: باب القضاء في المياه، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 744.
(71)
في: باب أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 284.