الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
إذا كان النَّهْرُ أو السّاقِيَةُ مُشْتَرَكًا بين جَماعَةٍ، فإن أرَادُوا إكْرَاءَهُ أو سَدَّ بَثْقٍ فيه، أو إصْلَاحَ حائِطِه، أو شيءٍ منه، كان ذلك عليهم على حَسَبِ مِلْكِهِم فيه، فإن كان بعضُهم أدْنَى إلى أَوَّلِه من بعضٍ، اشْتَرَكَ الكُلُّ في إكْرَائِه وإصْلَاحِه، إلى أن يَصِلُوا إلى الأَوَّلِ، ثم لا شىءَ على الأَوَّلِ، ويَشْتَرِكُ الباقُونَ حتى يَصِلُوا إلى الثاني، ثم يَشْتَرِكُ مَن بعدَه كذلك، كلَّما انْتَهَى العَمَلُ إلى مَوْضِعِ واحدٍ منهم، لم يَكُنْ عليه فيما بعدَه شيءٌ. وبهذا قال الشافِعِىُّ. وحُكِى ذلك عن أبي حنيفةَ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: يَشْتَرِكُ جَمِيعُهم في إكْرَائِه كلِّه، لأنَّهم يَنْتفِعُون بِجَمِيعِه، فإنَّ ما جاوَزَ الأَوَّلَ مَصَبٌّ لِمَائِه، وإن لم يَسْقِ أرْضَه. ولَنا، أنَّ الأَوَّلَ إنَّما يَنْتَفِعُ بالماءِ الذي في مَوْضِعِ شُرْبِه، وما بعدَه إنَّما يَخْتَصُّ بالانْتِفاعِ به مَنْ دُونَه، فلا يُشَارِكُهم في مُؤْنَتِه، كما لا يُشَارِكُهم في نَفْعِه، فإن كان يَفْضُلُ عن جَمِيعِهِم منه ما يَحْتاجُ إلى مَصْرِفٍ، فمُؤْنةُ ذلك المَصْرِفِ على جَمِيعِهم؛ لأنَّهم يَشْتَرِكُون في الحاجَةِ إليه، والانْتِفَاعِ به، فكانت مُؤْنَتُه عليهم كلِّهم، كأَوَّلِه.
915 - مسألة؛ قال: (وإِحْيَاءُ الأَرْضِ أنْ يُحَوِّطَ عَليْهَا حَائِطًا)
ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّ تَحْوِيطَ الأرْضِ إحْياءٌ لها، سواءٌ أرادَها لِلْبِنَاءِ، أو لِلزَّرْعِ، أو حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ، أو الخَشَبِ، أو غير ذلك. ونَصَّ عليه أحمدُ، في رِوَايةِ عليِّ بن سَعِيدٍ، فقال: الإِحْياءُ أن يُحَوِّطَ عليها حائِطًا، أو يَحْفِرَ فيها بِئْرًا أو نَهْرًا. ولا يُعْتَبَرُ في ذلك تَسْقِيفٌ؛ وذلك لما رَوَى الحَسَنُ، عن سَمُرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أرْضٍ، فَهِىَ لَهُ". رَوَاه أبو دَاوُدَ، والإِمامُ أحمدُ، في "مُسْنَدِه"(1). ويُرْوَى عن جابِرٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلُه (2). ولأنَّ الحائِطَ حاجِزٌ مَنِيعٌ، فكان إحْياءً، أشْبَهَ ما لو جَعَلَها حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ. ويُبَيِّنُ هذا أنَّ القَصْدَ لا اعْتِبارَ
(1) أخرجه أبو داود، في: باب في إحياء الموات، من كتاب الإِمارة. سنن أبي داود 2/ 159. والإِمام أحمد، في: المسند 5/ 12، 21.
(2)
لم نجده عن جابر.
به، بِدَلِيلِ ما لو أرَادَها حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ، فبَنَاهَا بِجِصٍّ وآجُرٍّ، وقَسَمَها بُيُوتًا، فإنَّه يَمْلِكُها، وهذا لا يُصْنَعُ لِلْغَنَمِ مثلُه. ولا بُدَّ أن يكونَ الحائِطُ مَنِيعًا يَمْنَعُ ما وَرَاءَه، ويكونَ ممَّا جَرَتِ العادَةُ بمثلِه. ويَختَلِفُ بِاخْتِلَافِ البُلْدانِ، فلو كان ممَّا جَرَتْ عادَتُهُم بالحِجَارَةِ وحدَها، كأهْلِ حَوْرَانَ وفِلَسْطِينَ وغيرها (3)، أو بالطِّينِ، كالفَطَائِرِ لأهْلِ غُوطَةِ دِمَشْقَ، أو بالخَشَبِ أَو بالقَصَبِ، كأَهْلِ الغَوْرِ، كان ذلك إحْياءً. وإن بَنَاهُ بأَرْفَعَ ممَّا جَرَتْ به عادَتُهم (4)، كان أَوْلَى. وقال القاضي: في صِفَةِ الإِحْياءِ رِوَايَتانِ؛ إحْداهما، ما ذَكَرْنا. والثانية، الإِحْياءُ ما تَعَارَفَهُ الناسُ إحْياءً؛ لأنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَعْلِيقِ المِلْكِ على الإِحْياءِ، ولم يُبَيِّنْه، ولا ذَكَرَ كَيْفِيَّتَه، فيَجِبُ الرُّجُوعُ فيه إلى ما كان إحْياءً في العُرْفِ، كما أنَّه لمَّا وَرَدَ بِاعْتِبارِ القَبْضِ والحِرْزِ، ولم يُبَيِّنْ كَيفِيَّتَه، كان المَرجِعُ فيه إلى العُرْفِ، ولأنَّ الشَّارِعَ لو عَلَّقَ الحُكْمَ على مُسَمًّى باسْمٍ، لَتَعَلَّقَ بمُسَمَّاه عندَ أهْلِ اللِّسانِ، فكذلك يَتَعَلَّقُ الحُكْمُ بالمُسَمَّى إحْياءً عندَ أهْلِ العُرْفِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يُعَلِّقُ حُكْمًا على ما ليس إلى مَعْرِفَتِه طَرِيقٌ، فلمَّا لم يُبَيِّنْه، تَعَيَّنَ العُرْفُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِه، إذْ ليس له طَرِيقٌ سِواهُ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الأَرْضَ تُحْيَى دارًا لِلسُّكْنَى، وحَظِيرَةً، ومَزْرَعةً، فإحْياءُ كلّ واحِدَةٍ من ذلك بِتَهْيِئَتِها لِلانْتِفاعِ الذي أُرِيدَتْ له، فأمَّا الدَّارُ، فبأن يَبْنِىَ حِيطَانَها بما جَرَتْ به العادَةُ ويُسَقِّفَها (5)، لأنَّها لا تكونُ لِلسُّكْنَى إلَّا بذلك. وأمَّا الحَظِيرَةُ، فإحْياؤُها بِحَائِطٍ جَرَتْ به عادَةُ مثلِها، وليس من شَرْطِها التَّسْقِيفُ؛ لأنَّ العادَةَ ذلك من غيرِ تَسقِيفٍ، وسواءٌ أرَادَها حَظِيرَةً لِلماشِيَةِ، أو لِلْخَشَبِ، أو لِلْحَطَبِ، أو نحوِ ذلك. ولو خَنْدَقَ عليها خَنْدَقًا، لم يكُنْ إحْياءً؛ لأنَّه ليس بحائِطٍ ولا عِمَارَةٍ، إنَّما هو حَفْرٌ وتَخْرِيبٌ. وإن خاطَها بِشَوْكٍ وشِبْهِه، لم يَكُنْ إحْياءً، وكان تَحَجُّرًا؛ لأنَّ المُسَافِرَ قد يَنْزِلُ
(3) سقط من: ب، م.
(4)
في ب، م:"عادته".
(5)
في الأصل: "وسقفه". وفى ب، م:"وتسقيفها". ولعل الصواب ما أثبتناه.