الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحَقُّ؛ لأنَّ الالْتِقاطَ هو الأخْذُ لا الرُّؤْيةُ. ولو قال أحدُهما (22) لِصَاحِبِه: نَاوِلْنِيه. فأخَذَه الآخَرُ، نَظَرْنا [إلى نِيَّتِه](23)، فإن نَوَى أخْذَه لِنَفْسِه فهو أحَقُّ، كما لو لم يَأْمُرْه الآخَرُ بمُنَاوَلَتِه إيَّاه، وإن نَوَى مُنَاوَلَتَه فهو للآمِرِ؛ لأنَّه فَعَلَ ذلك بِنِيَّةِ النِّيابةِ عنه، فأشْبَهَ ما لو تَوَكَّلَ له في تَحْصِيلِ مُبَاحٍ.
فصل:
فإن اخْتَلَفَا، فقال كلُّ واحدٍ منهما: أنا الْتَقَطْتُه. ولا بَيِّنَةَ لأحَدِهِما، وكان في يَدِ أحَدِهِما، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه أنَّه الْتَقَطَه. ذَكَرَ ذلك أبو الخَطَّابِ. وهذا قولُ الشافِعِيِّ. وقال القاضي: قِياسُ المذهبِ أنَّه لا يَحْلِفُ، كما في الطَّلَاقِ والنِّكَاحِ. ولَنا، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وأمْوَالَهُم؛ ولكِنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عَلَيْهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (24). فإن كان في أيْدِيهِما أُقْرِعَ بينهما، فمن قَرَعَ صاحِبَه، حَلَفَ وسُلِّمَ إليه. وعلى قولِ القاضِى: لا تُشْرَعُ اليَمِينُ ههُنا، ويُسَلَّمُ إليه بمُجَرَّدِ وُقُوعِ القُرْعَةِ له. وإن لم يكُنْ في يَدِ واحدٍ منهما، فقال القاضي، وأبو الخَطّابِ: يُسَلِّمُه الحاكِمُ إلى مَنْ يَرَى منهما أو مِن غيرِهما؛ لأنَّه حَقٌّ لهما. والأَوْلَى أن يُقْرِعَ بينهما، كما لو كان في أيْدِيهِما؛ لأنَّهما تَنَازَعا حَقًّا في يَدِ غيرِهما، فأشْبَهَ ما لو تَنَازَعا وَدِيعَةً عندَ غيرِهما. فإن وَصَفَه أحَدُهُما، مثل أن يقولَ: في ظَهْرِه شامَةٌ، أو بِجَسَدِه عَلَامةٌ. وذَكَرَ شَيْئًا في جَسَدِه مَسْتُورًا، فقال أبو الخَطَّابِ: يُقَدَّمُ بالصِّفَةِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وقال الشافِعِيُّ: لا يُقَدَّمُ بالصِّفَةِ، كما لو وَصَفَ المُدَّعِى، فإنَّه لا تُقَدَّمُ به (25) دَعْوَاه. ولَنا، أنَّ هذا نَوْعٌ من اللُّقَطَةِ، فقُدِّمَ بِوَصْفِها، كلُقَطَةِ المالِ، ولأنَّ ذلك يَدُلُّ على قُوّةِ يَدِه، فكان مُقَدَّمًا بها. وقِياسُ اللَّقِيطِ
(22) سقط من: م.
(23)
في م: "لنيته".
(24)
تقدم تخريجه في: 6/ 525.
(25)
في م: "له".
على اللُّقَطةِ أَوْلَى من قِيَاسِه على غيرِها؛ لأنَّ اللَّقِيطَ لُقَطَةٌ أيضًا. وإن كان لأحَدِهِما بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ بها. وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بَيِّنةٌ، قُدِّمَ أسْبَقُهُما تارِيخًا؛ لأنَّ الثانِىَ إنما أخَذَ ممَّن قد ثَبتَ الحَقُّ فيه لغيرِه. وإن اسْتَوَى تارِيخُهُما، أو أُطْلِقَتَا معًا، أو أُرِّخَتْ إحْداهُما وأُطْلِقَتِ الأُخْرَى، فقد تَعَارَضَتَا. وهل يَسْقُطانِ أو يُسْتَعْمَلانِ؟ فيه وَجْهانِ؛ أحدهما، يَسْقُطانِ، فيَصِيرَانِ كمن لا بَيِّنَةَ لهما. والثاني، يُسْتَعْمَلانِ، ويُقْرَعُ بينهما، فمن قَرَعَ صاحِبَه كان أَوْلَى. وسَنَذْكُرُ ذلك في بابِه، إن شاءَ اللَّه تعالى. وإن كان اللَّقِيطُ في يَدِ أحَدِهما، فهل تُقَدَّمُ بَيِّنَتُه على بَيِّنةِ الآخَر، أوَ تُقَدَّم بَيِّنة الخارِجِ؟ فيه وَجْهانِ، مَبْنِيّانِ على الرِّوَايَتَيْنِ في دَعْوَى المالِ. وإن كان أحدُ المُتَدَاعِيَيْنِ ممَّن لا تُقَرُّ يَدُه على اللَّقِيطِ، أُقِرَّ في يَدِ الآخَر، ولم يُلْتَفَتْ إلى دَعْوَى من لا يُقَرُّ في يَدِه بحالٍ.
954 -
مسألة؛ قال: (وإن ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وكَافِرٌ، أُرِىَ الْقَافَةَ، فَبأَيِّهِما (1) أَلْحَقُوهُ لَحِقَ)
يعني إذا ادُّعِىَ نَسَبُه، فلا تَخْلُو دَعْوَى نَسَبِ اللَّقِيطِ من قِسْمَيْنِ؛ أحدهما، أن يَدَّعِيَه واحدٌ يَنْفَرِدُ بِدَعْوَاه، فيُنْظَرُ؛ فإن كان المُدَّعِى رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا، لَحِقَ نَسَبُه به، بغير خِلَافٍ بين أهْلِ العِلْمِ، إذا أمكنَ أن يكونَ منه؛ لأنَّ الإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ للطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبه، ولا مَضَرَّةَ على غيرِه فيه، فَقُبِلَ، كما لو أقَرَّ له بمالٍ. ثم إن كان المُقِرُّ به مُلْتَقِطَه، أُقِرَّ في يَدِه. وإن كان غيرَه، فله أن يَنْتَزِعَه من المُلْتَقِطِ؛ لأنَّه قد ثَبَتَ أنَّه أبُوه، فيكونُ أحَقَّ بوَلَدِه، كما لو قامَتْ به بَيِّنةٌ. وإن كان المُدَّعِى له عَبْدًا، لَحِقَ به أيضًا؛ لأنَّ لمائِه حُرْمَةً، فلَحِقَ به نَسَبُه كالحُرِّ. وهذا قولُ الشافِعيِّ، وغيرِه، غيرَ أنَّه لا تَثْبُتُ له حَضَانَةٌ؛ لأنَّه مَشْغُولٌ بخِدْمةِ سَيِّدهِ، ولا تَجِبُ عليه نَفَقَتُه؛ لأنَّه لا مالَ له، ولا على سَيِّدِه؛ لأنَّ الطِّفْلَ مَحْكُومٌ بحُرِّيَّتِه، فتكونُ نَفَقَتُه في بَيْتِ المالِ. وإن كان المُدَّعِى ذِمِّيًّا، لَحِقَ به؛ لأنَّه أقْوَى من العَبْدِ في ثُبُوتِ الفِرَاشِ، فإنَّه يَثْبُتُ
(1) في م: "فأيهما".
له بالنِّكاحِ والوَطْءِ في المِلْكِ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَلْحَقُ به؛ لأنَّه مَحْكُومٌ بإسْلَامِه. ولَنا، أنَّه أَقَرَّ بِنَسَبِ مَجْهُولِ النَّسَبِ، يُمْكِنُ أن يكونَ منه، وليس في إقْرَارِه إضْرَارٌ بغيرِه، فيثْبُتُ إقْرَارُه، كالمُسْلِمِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَلْحَقُ به في (2) النَّسَبِ لا في الدِّينِ، ولا حَقَّ له في حَضَانَتِه. وقال الشافِعِيُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: يَتْبَعُه في دِيِنه؛ لأنَّ كلَّ [ما لَحِقَه في نَسَبِه يَلْحَقُ به في دِينَه](3)، كالبَيِّنةِ، إلا أنَّه يُحالُ بَيْنَه وبَينَه، ولَنا، أنَّ هذا حُكِمَ بإسْلَامِه، فلا يُقْبَلُ قولُ الذِّمِّيِّ في كُفْرِه، كما لو كان مَعْرُوفَ النَّسَبِ؛ ولأنَّها دَعْوَى تُخالِفُ الظاهِرَ، فلم تُقْبَلْ بمُجَرَّدِها، كَدَعْوَى رِقِّه، ولأنَّه لو تَبِعَه في دِينِه لم يُقْبَلْ إقْرارُه بِنَسَبِه؛ لأنَّه يكونُ إضْرَارًا به، فلم تُقْبَلْ، كدَعْوَى الرِّقِّ. أمَّا مُجَرَّدُ (4) النَّسَبِ بدون اتِّباعِه في الدِّينِ، فمَصْلَحَةٌ عارِيَةٌ عن الضَّرَرِ، فقُبِلَ قَوْلُه فيه. ولا يجوزُ قَبُولُه فيما هو أعْظَمُ؛ الضَّرَرُ، والخِزْىُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ. وإن كان المُدَّعِى امْرَأةً، فاخْتَلَفَ (5) عن أحْمدَ، رحمه الله، فرُوِىَ أنَّ دَعْواها (6) تُقْبَلُ، ويَلْحَقُها نَسَبُه؛ لأنَّها أحَدُ الأبَوَيْنِ، فيثْبُتُ (7) النَّسَبُ بِدَعْوَاها، كالأبِ، ولأنَّه يُمْكِنُ أن يكونَ منها، كما [يُمْكِنُ أن](8) يكونَ وَلَدَ الرَّجُلِ، بل أكْثَرُ؛ لأنَّها تَأْتِى به من زَوْجٍ، وَوَطْءٍ بِشُبْهةٍ، ويَلْحَقُها وَلَدُها من الزِّنَى دون الرَّجُلِ، ولأنَّ في قِصَّةِ داودَ وسليمانَ، عليهما السلام، حين تَحَاكَمَ إليهما امْرَأتانِ كان لهما ابْنانِ، فذَهَبَ الذِّئْبُ بأحَدِهِما، فادَّعَتْ كلُّ واحدةٍ منهما أنَّ الباقِىَ ابْنُها، وأن الذي أخَذَه الذِّئْبُ ابنُ الأُخْرَى، فحَكَمَ به
(2) في م: "من".
(3)
في الأصل: "ما لحق به نسبه لحق به في دينه".
(4)
في م: "بمجرد".
(5)
أي النقل.
(6)
في م: "دعوتها".
(7)
في م: "فثبت".
(8)
سقط من: م.
داوُدُ لِلْكُبْرَى، وحَكَمَ به سليمانُ للأُخْرَى، بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى منهما (9). وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافِعِيِّ. فعلَى هذه الرِّوَايةِ، يَلْحَقُ بها دون زَوجِها؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَلْحَقَه نَسَبُ وَلَدٍ لم يُقِرَّ به. وكذلك إذا ادَّعَى الرَّجُلُ نَسَبَه، لم يَلْحَقْ بِزَوْجَتِه. فإن قِيلَ: الرَّجُلُ يُمْكِنُ أن يكونَ له وَلَدٌ من امْرأةٍ أخرى، أو من أمَتِه، والمَرْأةُ لا يَحِلُّ لها نِكَاحُ غيرِ زَوْجِها، ولا يَحِلُّ وَطْؤُها لغيرِه. قُلْنا: يُمْكِنُ أن تَلِدَ من وَطْءِ شُبْهةٍ أو غيرِه. وإن كان الوَلَدُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ مَوْجُودًا قبلَ [أن يَتَزَوَّجَها هذا](10) الزَّوْجُ، أمْكَنَ أن يكونَ من زَوْجٍ آخَرَ. فإن قيل: إنَّما قُبِلَ الإِقْرَارُ بالنَّسَبِ من الزَّوْجِ، لما فيه من المَصْلَحةِ، بِدَفْعِ العارِ عن الصَّبِيِّ، وصِيَانَتِه عن النَّسْبَةِ إلى كونِه وَلَدَ زِنًى، ولا يَحْصُلُ هذا بإلْحاقِ نَسَبِه بالمَرْأةِ، بل في (11) إلْحاقِه (12) بها دُونَ زَوْجِها تَطَرُّقُ العارِ (13) إليه وإليها، قُلْنا: بل قَبِلْنا دَعْوَاه؛ لأنَّه يَدَّعِى حَقًّا لا مُنازِعَ له فيه، ولا مَضَرَّةَ على أحدٍ فيه، فَقُبِلَ قولُه فيه، كدَعْوَى المالِ، وهذا مُتَحَقّقٌ في دَعْوَى المَرْأةِ. والرِّوَاية الثانية، أنَّها إن كان لها زَوْجٌ، لم يَثْبُت النَّسَبُ بدَعْوَاها، لإِفْضائِه إلى إلْحاقِ النَّسَبِ بِزَوْجِها بغيرِ إقْرَارِه ولا رِضَاه، أو إلى أنَّ (14) امْرأتَه وُطِئَتْ بِزِنًى أو بِشُبْهَةٍ (15)، وفى ذلك ضَرَرٌ عليه، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها فيما يُلْحِقُ الضَّرَرَ به. وإن لم يكنْ لها زَوْجٌ، قُبِلَتْ دَعْوَاها لِعَدَمِ هذا الضَّرَرِ. وهذا أيضًا وَجْهٌ لأصْحابِ الشافِعِيِّ. والرِّوايةُ الثالثةُ،
(9) أخرجه البخاري، في: باب قول اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ. . .} ، من كتاب الأنبياء، وفى: باب إذا ادعت المرأة ابنا، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 4/ 198، 8/ 194، 195. والنسائي، في: باب حكم الحاكم بعلمه، من كتاب القضاء. المجتبى 8/ 206، 207، وعبد الرزاق، في: باب المرأتين تدعيان، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 362.
(10)
في الأصل: "تزوجها بهذا".
(11)
سقط من: م.
(12)
في م: "إلحاقها".
(13)
في م: "للعار".
(14)
في م: "أو".
(15)
في م: "شبهة".