الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
ولا فَرْقَ فيما ذَكَرْنا بين الهِبَةِ والصَّدَقةِ. وهو قولُ الشافِعِيِّ. وفَرَّقَ مالِكٌ وأصْحابُ الرَّأْىِ بينهما، فلم يُجِيزُوا الرُّجُوعَ في الصَّدَقَةِ بحالٍ، واحْتَجُّوا بحَدِيثِ عمرَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً، وأرَادَ بها صِلَةَ رَحِمٍ، أر على وَجْهِ صَدَقةٍ؛ فإنَّه لا يَرْجِعُ. ولَنا، حَدِيثُ النُّعْمانِ بن بَشِيرٍ، فإنَّه قال: تَصَدَّقَ علىَّ أبى بصَدَقَةٍ. وقال: فرَجَعَ أبِى، فرَدَّ تلك الصَّدَقَةَ. وأيضا عُمُومُ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِى وَلَدَهُ". وهذا يُقَدَّم على (34) قولِ عمرَ، ثم هو خاصٌّ في الوالِدِ، وحَدِيثُ عمرَ عامٌّ، فيَجِبُ تَقْدِيمُ الخاصِّ.
فصل: وللرُّجُوعِ في هِبَة الوَلَدِ شُرُوطٌ أرْبَعةٌ:
أحدها، أن تكونَ باقِيةً في مِلْكِ الابْنِ، فإن خَرَجَتْ عن مِلْكِه، بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو وَقْفٍ أو إرْثٍ أو غيرِ ذلك، لم يَكُن له الرُّجُوعُ فيها؛ لأنَّه إبْطالٌ لمِلْكِ غير الوالِدِ. وإن عادَتْ إليه بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، كبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو وَصِيَّةٍ أو إِرْثٍ ونحو ذلك، لم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فيها؛ لأنَّها عادَتْ بمِلْكٍ جَدِيدٍ لم يَسْتَفِدْهُ من قِبَلِ أَبِيه، فلا يَمْلِكُ فَسْخَه وإزَالَتَه، كالذى لم يكُن مَوْهُوبًا له. وإن عادَتْ إليه بِفَسْخِ البَيْعِ، لِعَيْبٍ أو إِقَالَةٍ أو فَلَسِ المُشتَرِى، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ السَّبَبَ المُزِيلَ ارْتَفعَ، وعادَ المِلْكُ بالسَّبَبِ الأَوَّلِ، فأشْبَهَ ما لو فَسَخَ البَيْعَ بخِيَارِ المَجْلِسِ أو خِيَارِ الشَّرْطِ. والثاني، لا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ المِلْكَ عادَ إليه بعدَ اسْتِقْرارِ مِلْكِ من انْتَقَلَ إليه عليه، فأشْبَهَ ما لو عادَ إليه بِهِبَةٍ. فأمَّا إن عادَ إليه لِلْفَسْخِ بخِيَارِ الشَّرْطِ، أو خِيَارِ المَجْلِسِ، فله الرُّجُوعُ؛ لأنَّ المِلْكَ لم يَسْتَقِرَّ عليه.
فصل: الثاني، أن تكونَ العَيْنُ باقِيَةً في تَصَرُّفِ الوَلَدِ، بحيث يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في رَقَبَتِها، فإن اسْتَوْلَدَ الأمَةَ، لم يَمْلِك الأبُ الرُّجُوعَ فيها؛ لأنَّ المِلْكَ فيها لا يجوزُ نَقْلُه إلى غيرِ سَيِّدِها. وإن رَهَنَ العَيْنَ، أو أفْلَسَ وحُجِرَ عليه، لم يَمْلِك الأبُ الرُّجُوعَ فيها؛
(34) سقط من: م.
لأنَّ في ذلك إبْطالًا لِحَقِّ غير الوَلَدِ. فإن زالَ المانِعُ من التَّصَرُّفِ، فله الرُّجُوعُ؛ لأنَّ مِلْكَ الابْنِ لم يَزُلْ، وإنَّما طَرَأَ مَعْنًى قَطَعَ التَّصَرُّفَ مع بَقاءِ المِلْكِ، فمَنَعَ الرُّجُوعَ، فإذا زالَ [زال] المَنْعُ، والكِتَابةُ كذلك عند مَنْ لا يَرَى بَيْعَ المُكَاتَبِ. وهو مذهبُ الشافِعِيِّ وجَمَاعَةٍ سواهُ. فأمَّا من أجَازَ بَيْعَ المُكَاتَبِ، فحُكْمُه حُكْمُ المُسْتَأْجَرِ والمُزَوَّجِ. وأما التَّدْبِيرُ، فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَمْنَعُ البَيْعَ، فلا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وإن قُلْنا: يَمْنَعُ البَيْعَ. مَنَعَ الرُّجُوعَ. وكل تَصَرُّفٍ لا يَمْنَعُ الابْنَ التَّصَرُّفَ في الرَّقَبةِ، كالوَصِيَّةِ والهِبَةِ قبلَ القَبْضِ فيما يَفْتَقِرُ إليه (35)، والوَطْءِ والتَّزْوِيجِ والإِجَارَةِ والكِتَابةِ والتَّدْبِيرِ.، إن قُلْنا: لا يَمْنَعُ البَيْعَ، والمُزَارَعَةَ عليها، وجَعْلَها مُضَارَبةً، أو في عَقْدِ شَرِكَةٍ، فكلُّ ذلك لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الابْنِ في رَقَبَتِها، وكذلك العِتْقُ المُعَلَّقُ على صِفَةٍ. وإذا رَجَعَ وكان التَّصَرُّفُ لازِمًا، كالإِجَارَةِ والتَّزْوِيجِ والكِتَابةِ، فهو باقٍ بحالِه؛ لأنَّ الابْنَ لا يَمْلِكُ إبْطَالَه، فكذلك مَن انْتَقَلَ إليه. وإن كان جائِزًا، كالوَصِيَّةِ والهبَةِ قبلَ القَبْضِ، بَطَلَ؛ لأنَّ الابْنَ يَمْلِكُ إبْطَالَه. وأما التَّدْبِيرُ والعِتْقُ المُعَلَّقُ بصِفَةٍ، فلا يَبْقَى حُكْمُهُما في حَقِّ الأبِ، ومتى عادَ إلى الإِبْنِ، عادَ حُكْمُهُما. فأمَّا البَيْعُ الذي للابْنِ فيه خِيَارٌ، إما لِشَرْطٍ، أو عَيْبٍ في الثّمَنِ، أو غيرِ ذلك، فيَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ الرُّجُوعَ يَتَضَمَّنُ فَسْخَ مِلْكِ الابْنِ في عِوَضِ المَبِيعِ، ولم يَثْبُتْ له ذلك من جِهَتِه. وإن وَهَبَهُ الابْنُ لِابْنِه، لم يَمْلِك الرُّجُوعَ فيه؛ لأنَّ رُجُوعَه إبْطالٌ لمِلْكِ غير ابْنِه. فإن رَجَعَ الابْنُ في هِبَتِه، احْتَمَلَ أن يَمْلِكَ الأبُ الرُّجُوعَ في هِبَتِه حينئذٍ؛ لأنَّه فَسَخَ هِبَتَه بِرُجُوعِه، فعادَ إليه المِلْكُ بالسَّبَبِ الأوَّلِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ الأبُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه رَجَعَ إلى ابْنِه (36) بعد اسْتِقْرارِ مِلْكِ غيرِه عليه، فأشْبَهَ ما لو وَهَبَهُ ابْنُ الابْنِ لأبِيه (37).
(35) سقط من: الأصل.
(36)
في الأصل: "أبيه".
(37)
في الأصل: "لابنه".