الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصَّدَقةِ، والوَقْفِ، والإِبْراءِ من الدَّيْنِ، والعَفْوِ عن الجِنَايةِ المُوجِبَةِ للمالِ، إذا كانت في الصِّحَّةِ فهى من رَأْسِ المالِ. لا نَعْلَمُ في هذا خِلَافًا. وإن كانت في مَرَضٍ مَخُوفٍ اتَّصَلَ به المَوْتُ، فهى من ثُلُثِ المالِ، في قولِ جُمْهُورِ العُلَماءِ. وحُكِى عن أهْلِ الظّاهِرِ في الهِبَةِ المَقْبُوضةِ أنَّها من رَأْسِ المالِ. وليس بِصَحِيحٍ؛ لما رَوَى أبو هُرَيْرةَ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تَصَدّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفاتِكُمْ بثُلُثِ أمْوالِكُم، زِيَادةً لَكُمْ فِي أعْمالِكُمْ". رَوَاه ابنُ ماجَه (1). وهذا يَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّه ليس له أكْثَرُ من الثُّلُثِ. ورَوَى عِمْرانُ بن حُصَيْنٍ، أنَّ رَجُلًا من الأنْصارِ أعْتَقَ سِتَّةَ أعْبُدٍ له في مَرَضِه، لا مالَ له غيرُهم، فاسْتَدْعاهُم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجَزَأهُم ثَلَاثةَ أجْزَاء، وأَقْرَعَ بينهم، فأعْتَقَ اثْنَيْنِ، وأرَقَّ أرْبَعةً. [رَواهُ مُسْلِمٌ](2). وإذا لم يَنْفُذِ العِتْقُ مع سِرَايَتِه، فغيرُه أَوْلَى. ولأنَّ هذه الحالَ الظاهِرُ منها المَوْتُ، فكانت عَطِيَّتُهُ (3) فيها في حَقِّ وَرَثَتِه لا تَتَجاوَزُ الثُّلُثَ، كالوَصِيّةِ.
فصل:
وحُكْمُ العَطايَا في مَرَضِ المَوْتِ المَخُوفِ، حُكْمُ الوَصِيَّةِ في خَمْسَةِ أشْياء؛ أحدها، أنَّه (4) يَقِفُ نُفُوذُها على خُرُوجِها من الثُّلُثِ أو إجَازةِ (5) الوَرَثةِ، الثاني، أنَّها لا تَصِحُّ لِوَارِثٍ إلَّا بإجَازَةِ بَقِيَّة الوَرَثةِ. الثالث، أن فَضِيلَتَها ناقِصَةٌ عن فَضِيلَةِ الصَّدَقةِ في الصِّحَّةِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أَفْضَلِ الصَّدَقةِ قال:"أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الفَقْرَ ولا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كذا، ولِفُلانٍ كذا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ". مُتَّفَقٌ عليه (6). ولَفْظُه: قال رَجُلٌ:
(1) تقدم تخريجه في صفحة 392.
(2)
سقط من: أ، وفي م:"متفق عليه". وتقدم تخريجه في صفحة 395.
(3)
في أ، م:"عطية".
(4)
في م: "أن".
(5)
في أ، م:"وإجازة".
(6)
أخرجه البخاري، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة، وفى: باب الصدقة عند الموت، من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 2/ 136، 137، 4/ 5. ومسلم، في: باب بيان أفضل الصدقة صدقة =
يا رسولَ اللَّه: أيُّ الصَّدَقةِ أَفْضَلُ؟ [قال: "أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ"](7). الرابع، أنَّه يُزَاحِمُ بها الوَصَايَا في الثُّلُثِ. الخامس، أنَّ خُرُوجَها من الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ حالَ المَوْتِ، لا قَبْلَه ولا بَعْدَه. ويُفَارِقُ الوَصِيَّةَ في سِتَّةِ أشْياء؛ أحدها، أنَّها لازِمَةٌ في حَقِّ المُعْطِى ليس له الرُّجُوعُ فيها. وإن كَثُرَتْ، لأنَّ المَنْعَ [من الزِّيَادةِ على الثُلُثِ](8) إنَّما كان لِحَقِّ الوَرَثةِ، لا لِحَقِّه، فلم يَمْلِكْ إجَازَتَها ولا رَدَّها، وإنما كان له الرُّجُوعُ في الوَصِيَّةِ؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ بها مَشْرُوطٌ بالمَوْتِ (9)، ففيما قبلَ المَوْتِ لم يُوجَد التَّبَرُّعُ ولا العَطِيّةُ، بخِلَافِ العَطِيّةِ في المَرَضِ، فإنَّه قد وُجِدَتِ العَطِيّةُ منه، والقَبُولُ من المُعْطِى، والقَبْضُ، فلَزِمَتْ كالوَصِيّةِ إذا قُبِلَتْ بعدَ المَوتِ وقُبِضَتْ. الثاني، أنَّ قَبُولَها على الفَوْرِ في حال (10) حَيَاةِ المُعْطِى وكذلك رَدُّها، والوَصَايَا لا حُكْمَ لِقَبُولِها ولا رَدِّها إلَّا بعد المَوْتِ؛ لما ذَكَرْنا من أنَّ العَطِيّةَ تَصَرُّفٌ في الحالِ، فتُعْتَبَرُ شُرُوطُه وَقْتَ وُجُودِه، والوَصِيّةُ تَبَرُّعٌ بعدَ المَوْتِ، فتُعْتَبَرُ شُرُوطُه بعدَ المَوْتِ. الثالث، أنَّ العَطِيَّةَ تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِها المَشْرُوطَةِ لها في الصِّحَّةِ؛ من العِلْمِ، وكَوْنِها لا يَصِحُّ تَعْلِيقُها على شَرْطٍ وغَرَرٍ في غير العِتْقِ، والوَصِيّةُ بخِلَافِه. الرابع، أنَّها تُقَدَّمُ على الوَصِيَّةِ، وهذا قول الشافِعِيِّ، وجُمْهُورِ العُلَماءِ. وبه قال أبو حنيفةَ،
= الصحيح الشحيح، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 716.
كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في كراهية الإِضرار في الوصية، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 102. والنسائي، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 51. وابن ماجه، في: باب النهى عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 903. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 231، 250، 415، 447.
(7)
سقط من: م.
(8)
في م: "على الزيادة من الثلث".
(9)
تكرر في م قوله: "فلم يملك إجازتها ولا ردها وإنما كان له الرجوع في الوصية لأن التبرع مشروط بالموت".
(10)
سقط من: الأصل، أ.
وأبو يوسفَ، وزُفَرُ، إلَّا في العِتْقِ، فإنَّه حُكِىَ عنهم تَقْدِيمُه، لأنَّ العِتْقَ يَتَعَلَّقُ به حَقُّ اللهِ تعالى، ويَسْرِى وَقْفُه (11)، ويَنْفُذُ في مِلْكِ الغَيْرِ، فيَجِبُ تَقْدِيمُهُ. ولَنا، أنَّ العَطِيَّةَ لازِمةٌ في حَقِّ المَرِيضِ، فقُدِّمَتْ على الوَصِيَّةِ، كعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ، [ولأنَّها عَطِيَّةٌ بثمَرَةٍ، فقُدِّمَتْ على العِتْقِ، كعَطِيَّةِ الصَّدَقَةِ](12)، وكما لو تَسَاوَى الحَقَّانِ. الخامس، أنَّ العَطايَا إذا عَجَزَ الثُّلُثُ (13) عن جَمِيعِها، بُدِىءَ بالأوَّلِ فالأَوَّل، سواءٌ كان الأوَّلُ عِتْقًا (14) أو غيرَه. وبهذا قال الشافِعِيُّ، وقال أبو حنيفةَ: الجَمِيعُ سواءٌ إذا كانت من جنْسٍ واحدٍ، وإن كانت من أجْناسٍ، وكانت المُحَاباةُ مُتَقَدِّمةً قُدِّمَتْ، وإن تَأَخَّرَتْ سُوِّىَ بينها وبين العِتْقِ، وإنَّما كان كذلك، لأنَّ المُحاباةَ حَقُّ آدَمِيّ على وَجْهِ المُعَاوَضةِ، فقُدِّمَتْ إذا تَقَدَّمَتْ، كقَضَاءِ الدَّيْنِ، وإذا تساوَى جِنْسُها سُوِّىَ بينها؛ لأنَّها عَطَايَا من جِنْسٍ واحدٍ، تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ، فَسُوِّىَ بينها، كالوَصِيَّةِ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: يُقَدَّمُ العِتْقُ، تَقَدَّمَ أو تَأَخَّرَ. ولَنا، أنَّهما عَطِيَّتان مُنْجَزَتانِ، فكانت أُولَاهُما أَوْلَى، كما لو كانت الأُولَى مُحَاباةً عندَ أبى حَنِيفةَ، أو عِتْقًا عند صاحِبَيْه. ولأنَّ العَطِيَّةَ المُنْجَزَةَ لازِمَةٌ في حَقِّ المُعْطِى، فإذا كانت خارِجَةً من الثُّلُثِ، لَزِمَتْ في حَقِّ الوَرَثةِ، فلو شَارَكَتْها الثانِيةُ، لمَنَعَ ذلك لُزُومَها في حَقِّ المُعطِى؛ لأنَّه يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عن بَعْضِها بِعَطيّةٍ أُخْرَى، بخِلَافِ الوَصَايَا، فإنَّها غيرُ لازِمَةٍ في حَقِّه، وإنما تَلزَمُ بالمَوْتِ في حالٍ واحدةٍ، فاسْتَوَيا لِاستِوَائِهِما في حال لُزُومِهِما، بخِلِافِ المُنْجَزَتَيْنِ. وما قالَه في المُحَاباةِ غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّها بمَنْزِلَةِ الهِبَةِ، ولو كانت بمَنْزِلَةِ المُعَاوَضةِ أو الدَّيْنِ لَما كانت من الثُّلُثِ. فأمَّا إن وَقَعَتْ دُفْعَةً واحِدَةً، كأنْ (15) وكَّل جَماعَةً في هذه التَّبَرُّعاتِ، فأَوْقَعُوها دُفْعَةً واحِدَةً، فإن كانت كلها عِتْقًا أقْرَعْنَا
(11) في الأصل، أ:"واقفه".
(12)
سقط من: م.
(13)
في م: "العتق".
(14)
في م: "عتيقا".
(15)
في الأصل، أ:"كأنه".