الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِمَّتِه لِصَاحِبِها. وهذا قول القاضي وأصْحَابِه، بِدَلِيلِ أنَّه يَمْلِكُ المُطَالَبةَ به، فأشْبَهَ القَرْضَ. ولَنا، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وإلَّا فَهِىَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ". فجَعَلَها من المُباحَاتِ، ولأنَّه لو ماتَ لم يُعْزَلْ من تَرِكَتِه بَدَلُها، ولا يَسْتَحِقُّ أن يَأْخُذَ من الزَّكاةِ بِسَبَبِ الغُرْمِ، ولا (13) يَلْزَمُه أن يُوصِىَ به، ولا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكاةِ في مالِه بِسَبَبِ الدَّيْنِ، ولا يَثْبُتُ شيءٌ من أحْكامِ الدَّيْنِ في حَقِّه، وانْتِفَاءُ أحْكَامِه دَلِيلٌ على انْتِفَائِه. وقال القاضي: يَمْنَعُ ذلك وُجُوبَ الزَّكَاةِ، ولأنَّه لو مَلَكَها بِعِوَضٍ لم يَزُلْ مِلْكه عنها بمَجِىءِ (14) صاحِبِها، ولو وَقَفَ مِلْكُه لها على رِضَاه بالمُعَاوَضَةِ واخْتِيَارِه لأحَدِهِما (15) كالقَرْضِ، والأمْرُ بخِلَافِ ذلك، وإنما يَسْتَحِقُّ صاحِبُها المُطَالَبةَ بعدَ مِجِيئِه، بِشَرْطِ تَلَفِها، فإنَّها لو كانت مَوْجُودَةً لأَخَذَها، ولم يَسْتَحِقَّ لها بَدَلًا. وإن كانت تالِفَةً تَجَدَّدَ له مِلْكُ المُطَالَبةِ بِبَدَلِها، كما يَتَجَدَّدُ له المِلْكُ فيها لو كانت مَوْجُودَةً، وكما يَتَجَدَّدُ له المِلْكُ في نِصْفِ الصَّدَاقِ بالطَّلَاقِ قبلَ الدُّخُولِ، وفى بَدَلِه إن كان مَعْدُومًا. وهذا أشْبَهُ بمَسْأَلَتِنا، وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. وأمَّا القَرْضُ، فإنَّه لمَّا ثَبَتَ بَدَلُه في الذِّمّةِ، لم يَعُد المِلْكُ له في المُقْرَضٍ (16) إلَّا بِرِضَاءِ المُقْرِضِ واخْتِيَارِه.
فصل:
وكلُّ ما جازَ الْتِقَاطُه، مُلِكَ بالتَّعْرِيفِ عندَ تَمَامِه، أَثْمانًا كانت أو غيرَها. هذا ظاهِرُ (17) كلامِ الخِرَقِىَّ، فإنَّ لَفْظَه عامٌّ في كلِّ لَفْظٍ. وقد نُقِلَ ذلك عن أحمدَ، فإنَّ محمدَ بن الحَكَمِ، روَى عنه في الصَّيَّادِ يَقَعُ في شِصِّه الكِيسُ أوالنُّحَاسُ: يُعَرِّفُه سَنَةً، فإن جاء صاحِبُه، وإلَّا فهو كسائِر مالِه. وهذا نَصٌّ في النُّحَاسِ. وقال الشَّرِيفُ
(13) في الأصل: "ولأنه".
(14)
في الأصل: "لمجىء".
(15)
سقط من: الأصل.
(16)
في الأصل: "القرض".
(17)
سقط من: م.
ابن أبي موسى: هل حُكْمُ العُرُوضِ في التَّعْرِيفِ، وجَوَازِ التَّصَرُّفِ فيها بعدَ ذلك، حُكْمُ الأثْمانِ؟ على رِوَايَتَيْنِ، أظْهَرُهُما أنَّها كالأَثْمانِ، ولا أعْلَمُ بين أكْثرَ أهْلِ العِلْمِ فَرْقًا بين الأثْمانِ والعُرُوضِ في ذلك. وقال أكْثَرُ أصْحابِنَا: لا تُمْلَكُ العُرُوضُ بالتَّعْرِيفِ. قال القاضي: نَصَّ أحمدُ على هذا، في رِوَايةِ الجَماعةِ. واخْتَلَفُوا فيما يَصْنَعُ بها، فقال أبو بكرٍ، وابنُ عَقِيلٍ: يُعَرِّفُها أبَدًا. وقال القاضي: هو بالخِيَارِ بين أن يُقِيمَ على تَعْرِيفِها حتى يَجِىءَ صاحِبُها، وبين دَفْعِها إلى الحاكِمِ ليَرَى رَأْيَه فيها. وهل له بَيْعُها بعدَ الحَوْلِ، ويَتَصَدَّقُ بها؟ على رِوَايَتَيْنِ، وقال الخَلَّالُ: كلُّ مَنْ رَوَى عن أحمدَ، أنَّه يُعَرِّفُه سَنَةً، ويَتَصَدَّقُ به، والذي نَقَلَ أنَّه يُعَرِّفُ أبَدًا قولٌ قَدِيمٌ، رَجَعَ عنه. واحْتَجُّوا بما رُوِى عن ابنِ عمرَ، وابنِ عَبَّاسٍ، وابنِ مسعودٍ، مثلَ قَوْلِهم، ولأنَّها لُقَطَةٌ لا تُمْلَكُ في الحَرَمِ، فلا تُمْلَكُ في غيره كالإِبِلِ، ولأنَّ الخَبَرَ وَرَدَ في الأثْمانِ، وغيرُها لا يُسَاوِيها؛ لِعَدَمِ الغَرَضِ المُتَعَلِّقِ بِعَيْنِها، فمِثْلُها يَقُومُ مَقَامَها من كلِّ وَجْهٍ، بخِلَافِ غيرِها. ولَنا، عُمُومُ الأحَادِيثِ في اللُّقَطَةِ جَمِيعِها؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن اللُّقَطَةِ، فقال:"عَرِّفْهَا سَنَةً" ثم قال في آخِرِه: "فَانْتَفِعْ بِهَا، أو فَشَأْنكَ بِهَا". وفي حَدِيثِ عِياضِ بن حِمَارٍ: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً". وهو لَفْظٌ عامٌّ. ورَوَى الجُوزَجَانِىُّ، والأَثْرَمُ في "كِتَابَيْهِما"، قالا: حَدَّثَنا أبو نُعَيْمٍ، ثنا هِشَامُ بن سَعْدٍ، قال حَدَّثَنِى عَمْرُو بن شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: أتَى رَجُلٌ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، كيف تَرَى في مَتَاعٍ يُوجَدُ في الطَّرِيقِ المَيْثاءِ (18)، أو في قَرْيَةٍ مَسْكُونةٍ؟ فقال:"عَرَّفْهُ سَنَةً، فَإنْ جَاءَ صاحِبُهُ، وإلَّا فَشَأْنَكَ بِهِ"(19). ورَوَيَا أنَّ سُفْيانَ بنِ عبدِ اللَّه، وَجَدَ عَيْبَةً (20) فأتَى بها عمرَ بن الخَطَّابِ فقال: عَرِّفْها سنَةً، فإنْ عُرِفَتْ، وإلَّا فهى لك. زادَ الجُوزَجانِىُّ: فلم تُعْرَفْ، فَلَقِيَهُ بها (21) العامَ المُقْبِلَ،
(18) الميثاء: الأرض السهلة.
(19)
أخرجه النسائي، في: باب المعدن، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 33. والدارقطني، في: باب في المرأة تقتل إذا ارتدت، من كتاب الأقضية والأحكام. سنن الدارقطني 4/ 236.
(20)
العيبة: وعاء من خوص ونحوه، أو وعاء من أدم ونحوه يكون فيه المتاع.
(21)
سقط من: م.
فذَكَرَها له، فقال عمرُ: هي لك، إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَنَا بذلك. ورَوَه النَّسَائِىُّ كذلك (22). وهذا نَصٌّ في غير الأَثْمانِ. ورَوَى الجُوزَجَانِىُّ، بإسْنادِه، عن الحُرِّ بن الصَّيَّاحِ (23) قال: كنتُ عند ابنِ عُمَرَ بمَكَّةَ، إذ جاءَه رَجُلٌ. فقال: إنِّي وَجَدْتُ هذا البُرْدَ، وقد نَشَدْتُه وعَرَّفْتُه فلم يَعْرِفهُ أحَدٌ، وهذا يومُ التَّرْوِيَةِ، ويومُ يَتَفَرَّقُ الناسُ. فقال: إن شِئْتَ قَوَّمْتَه قِيمَة عَدْلٍ، ولَبِسْتَه، وكنتَ له ضَامِنًا، متى جاءَك صاحِبُه دَفَعْتَ إليه ثَمَنَه، وإن لم يَجِىءْ له طالبٌ فهو لك إن شِئتَ. ولأنَّ ما جازَ الْتِقَاطُه مُلِكَ بالتَّعْرِيفِ، كالأثْمانِ، وما حَكَوْهُ عن الصَّحَابةِ إن صَحَّ، فقد حَكَيْنَا عن عمرَ وابْنِه خِلَافَه. وقولُهم: إنَّها لُقَطَةٌ لا تُمْلَكُ في الحَرَمِ. مَمْنُوعٌ، ثم هو مَنْقُوضٌ بالأَثْمانِ، ولا يَصِحُّ قِيَاسُها على الإِبِلِ؛ لأنَّ معها حِذَاءَها وسِقَاءَها، تَرِدُ الماءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حتى يأْتِيَها رَبُّها، ولا يُوجَدُ ذلك في غيرِها، ولأنَّ الإِبِلَ لا يجوزُ الْتِقَاطُها، فلا تُمْلَكُ به، وههُنا يَجوزُ الْتِقَاطُها، فتُمْلَكُ به، كالأثْمانِ. ثم إذا لم تُمْلَكْ في الحَرَمِ، لا تُمْلَكُ في الحِلِّ؛ وذلك لأنَّ الحَرَمَ مُيِّزَ بكَوْنِ لُقَطَته لا يَلْتَقِطُها إلَّا مُنْشِدٌ، ولهذا لم تُمْلَكِ الأثْمانُ بالْتِقَاطها فيه، فلا يَلْزَمُ أن لا (24) تُمْلَكَ في مَوْضِعٍ لم يُوجَد المانِعُ فيه. وقولُهم: إنَّ النَّصَّ خاصٌّ في الأثْمانِ. قُلْنا: بل هو عامٌّ في كلِّ لُقَطَةٍ، فيَجِبُ العَمَلُ بِعُمُومِه، وإن وَرَدَ فيها نَصٌّ خاصٌّ، فقد رُوِى خَبَرٌ عامٌّ، فيُعْمَلُ بهما، ثم قد رَوَيْنا نَصًّا خاصًّا في العُرُوضِ، فيَجِبُ العَمَلُ به، كما وَجَبَ العَمَلُ بالخاصِّ في الأَثْمانِ، ثم
(22) في م: "أيضًا".
ولعل هذا في السنن الكبرى.
كما أخرجه الطحاوي، في: باب اللقطة والضوال، من كتاب الإجارات. شرح معانى الآثار 4/ 137، 138.
(23)
في النسخ: "الصباح". والتصويب من المشتبه 406.
(24)
سقط من: الأصل.