الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كان الوارِثُ جَماعةً، اعْتُبِرَ القَبُولُ أو الرَّدُّ من جِمِيعِهِم، فإن رَدَّ بعضُهم وقَبِلَ بعضٌ، ثَبَتَ للقابِلِ حِصَّتُه، وبَطَلَتِ الوَصِيّةُ في حَقِّ من رَدَّ. فإن كان فيهم مَنْ ليس من أهْلِ التَّصَرُّفِ، قامَ وَلِيُّه مَقامَه في القَبُولِ والرَّدِّ، وليس له أن يَفْعَلَ إلَّا ما لِلْمُوَلَّى عليه الحَظُّ فيه، فإن فَعَلَ غيرَه لم يَصِحَّ، فإذا كان الحَظُّ في قَبُولِها فرَدَّها، لم يَصِحَّ رَدُّه، وكان له قَبُولُها بعد ذلك. وإن كان الحَظُّ في رَدِّها فقَبِلَها، لم يَصِحَّ قَبُولُه؛ لأنَّ الوَلِىَّ لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ المُوَلَّى عليه بغيرِ ما لَه الحَظُّ فيه. فلو أَوْصَى لِصَبِىٍّ بِذِى رَحِمٍ له يَعْتِقُ بمِلْكِه له، وكان على الصَّبِىِّ ضرَرٌ في ذلك، بأن تَلْزَمَه نَفَقَةُ المُوصَى به، لكونِه فَقِيرًا لا كَسْبَ له، والمُوَلَّى عليه مُوسِرٌ، لم يكُنْ له قَبُولُ الوَصِيّةِ، وإن لم يكُنْ عليه ضَرَرٌ لكَوْنِ المُوصَى به ذا كَسْبٍ، أو كَوْنِ المُوَلَّى عليه فَقِيرًا لا تَلْزَمُه نَفقَتُه، تَعَيَّنَ قَبُولُ الوَصِيّةِ؛ لأنَّ في ذلك نَفْعًا لِلْمُوَلَّى عليه، لِعِتْقِ قَرَابَتِه، وتَحْرِيرِه، من غيرِ ضَرَرٍ يَعُودُ عليه، فتَعَيَّنَ ذلك. واللَّه أعلمُ.
فصل:
ولا يَمْلِكُ المُوصَى له الوَصِيّةَ إلَّا بالقَبُولِ، في قولِ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ، إذا كانت لمُعَيَّنٍ يُمْكِنُ القَبُولُ منه؛ لأنَّها تَمْلِيكُ مالٍ لِمَنْ هو من أهْلِ المِلْكِ مُتَعَيِّنٍ، فاعْتُبِرَ قَبُولُه، كالهِبَةِ والبَيْعِ. قال أحمدُ: الهِبَةُ والوَصِيَّةُ واحدٌ، فأمَّا إن كانتْ لغيرِ مُعَيَّنٍ، كالفُقَرَاءِ والمَساكِينِ ومَنْ لا يُمْكِنُ (6) حَصْرُهُم، كبَنِى هاشِمٍ وتَمِيمٍ، أو على مَصْلَحةٍ كمَسْجِدٍ أو حَجٍّ، لم يَفْتَقِرْ إلى قَبُولٍ، ولَزِمَتْ بمُجَرَّدِ المَوْتِ؛ لأنَّ اعْتِبارَ القَبُولِ من جِمِيعِهم مُتَعَذِّرٌ، فيَسْقُطُ اعْتِبارُه، كالوَقفِ عليهم، ولا يَتَعَيَّنُ واحِدٌ منهم فيُكْتَفَى بقَبُولِه، ولذلك لو كان فيهم ذو رَحِمٍ من المُوصَى به، مثل أن يُوصِىَ بِعَبْدٍ لِلفُقَراءِ وأبوه فَقِيرٌ، لم يَعْتِقْ عليه. ولأنَّ المِلْكَ لا يَثبُتُ لِلمُوصَى لهم، بِدَلِيلِ ما ذَكَرْنا من المَسْألةِ، وإنَّما ثَبَتَ لكلّ واحدٍ منهم بالقَبْضِ، فيَقُومُ قَبْضُه مَقَامَ قَبُولِه. أمَّا الآدَمِىُّ المُعَيَّنُ، فيَثْبُتُ له المِلْكُ، فيُعْتَبَرُ قَبُولُه، لكنْ لا يَتَعَيَّنُ القَبُولُ باللَّفْظِ، بل يُجْزِىءُ
(6) في م: "يملك".
ما قامَ مَقامَه من الأخْذِ والفِعْلِ الدّالِّ على الرِّضَى، كقولنا في الهِبَةِ والبَيْعِ. ويجوزُ القَبُولُ على الفَوْرِ والتَّرَاخِى. ولا يكونُ إلَّا بعد مَوْتِ المُوصِى؛ لأنَّه قبلَ ذلك لم يَثْبُتْ له حَقٌّ، ولذلك لم يَصِحَّ رَدُّه. فإذا قَبِلَ، ثَبَتَ المِلْكُ له من (7) حينِ القَبُولِ، في الصَّحِيحِ من المَذْهَبِ. وهو قولُ مالِكٍ، وأهْلِ العِرَاقِ. ورُوِىَ عن الشافِعِىِّ. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ في المَسْألةِ وَجْهًا آخَرَ، أنَّه إذا قَبِلَ، تَبَيَّنَّا أن المِلْكَ ثَبَتَ (8) حين مَوْتِ المُوصِى. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافِعِىِّ؛ لأنَّ ما وَجَبَ انْتِقالُه بالقَبُولِ، وَجَبَ انْتِقالُه من جِهَةِ المُوجِبِ عندَ الإِيجابِ، كالهِبَةِ والبَيْعِ، ولأنَّه لا يجوزُ أن يَثْبُتَ المِلْكُ فيه للوارِثِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (9). ولأنَّ الإِرْثَ بعدَ الوَصِيَّةِ، ولا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ؛ لأنَّه صارَ جَمَادًا لا يَمْلِكُ شيئًا. وللشافِعِىِّ قولٌ ثالثٌ غيرُ مَشْهُورٍ، أنَّ الوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بالمَوْتِ، ويُحكَمُ بذلك قبلَ القَبُولِ؛ لما ذَكَرْنا. ولَنا، أنه تَمْلِيكُ (10) عَيْنٍ لِمُعَيَّنٍ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فلم يَسْبِق المِلْكُ القَبُولَ، كسائِرِ العُقُودِ، ولأنَّ القَبُولَ من تَمامِ السَّبَبِ، والحُكْمُ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه، ولأنَّ القَبُولَ لا يَخْلُو من أن يكونَ شَرْطًا أو جُزْءًا من السَّبَبِ، والحُكْمُ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه ولا شَرْطَه، ولأنَّ المِلْكَ في الماضِى لا يجوزُ تَعْلِيقُه بشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ. فإن قيل: فلو قال لِامْرَأتِه: أنْتِ طالِقٌ قبلَ مَوْتِى بِشَهْرٍ. ثم ماتَ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قبلَ مَوْتِه بِشَهْرٍ. قُلْنا: ليس هذا شَرْطًا في وُقُوعِ الطَّلاقِ، وإنَّما تَبَيَّنَ به الوَقْتُ الذي يَقَعُ فيه الطَّلَاقُ. ولو قال: إذا مِتُّ فأنْتِ طالِقٌ قبلَه بِشَهْرٍ. لم يَصِحَّ. وأمَّا انْتِقالُه من جِهَةِ المُوجِبِ في سائِرِ العُقُودِ، فإنَّه لا يَنْتَقِلُ إلَّا بعدَ القَبُولِ، فهو كمَسْأَلَتِنا، غيرَ أنَّ ما بين الإِيجابِ والقَبُولِ ثَمَّ يَسِيرٌ،
(7) سقط من: الأصل، أ.
(8)
في م: "يثبت".
(9)
سورة النساء 11.
(10)
في م: "تملك".