الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوَقْفِ يُصْرَفُ إلى كل ما فيه أجْرٌ ومَثوبَةٌ وخَيْرٌ؛ لأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ في ذلك. وقال أصْحابُنا: يُجَزَّأُ الوَقْفُ ثلاثةَ أجْزَاءٍ، فجُزْءٌ يُصْرَفُ إلى الغُزَاةِ، وجُزْءٌ يُصْرَفُ إلى أقْرَبِ الناسِ إليه من الفُقَرَاءِ، لأنَّهم أكْثَرُ الجِهَاتِ ثَوَابًا، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"صَدَقَتُكَ عَلَى ذِى الْقَرَابةِ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ"(11). والثالِثُ يُصْرَفُ إلى مَن يَأْخُذُ الزَّكَاةَ لِحَاجَتِه، وهم خَمْسَةُ أصْنافٍ؛ الفُقَرَاءُ، والمَسَاكِينُ، والرِّقَابُ، والغارِمُونَ لِمَصْلَحَتِهِم، وابنُ السَّبِيلِ؛ لأنَّ هؤلاءِ أهلُ حاجَةٍ مَنْصُوصٌ عليهم في القُرْآن، فكان مَن نَصَّ اللهُ تعالى عليه في كِتَابِه أَوْلَى من غيرِه، وإن ساوَاه في الحاجَةِ، وهذا مذهبُ الشافِعىِّ. ولَنا، أنَّ لَفْظَه عامٌّ، فلا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بالبَعْضِ لِكَوْنِه أَوْلَى، كالفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ في الزَّكَاةِ، لا يَجِبُ تَخْصِيصُ أقَارِبِه منهم بها، وإن كانوا أَوْلَى، وكذلك سائِرُ الألْفاظِ العامَّةِ. وإن أوْصَى في أبْوابِ البِرِّ، صُرِفَ إلى (12) كلِّ ما فيه بِرٌّ وقُرْبَةٌ. وقال أصْحابُنا: يُصْرَفُ في أرْبَعِ جِهَاتٍ؛ أقَارِبه غيرِ الوارِثِينَ، والمَسَاكِين، والجِهَاد، والحَجِّ. قال أبو الخَطَّابِ: وعنه فداءُ الأسْرَى مكانَ الحجِّ. ووَجْهُ القَوْلَيْنِ ما تَقَدَّمَ في التي قبلَها.
923 - مسألة؛ قال: (فَإنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ، ولَمْ يَبْقَ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أحَدٌ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَينِ عَنْ أبِى عَبدِ اللهِ، رحمه الله، والرِّوَايةُ الأُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أقْرَبِ عَصَبَةِ الْوَاقِفِ)
وجملةُ ذلك أنَّ الوَقْفَ (1) الذي لا اخْتِلَافَ في صِحَّتِه، ما كان مَعْلُومَ الابْتِدَاءِ والانْتِهاءِ، غيرَ مُنْقَطِعٍ، مثل أن يُجْعَلَ على المَسَاكِينِ، أو طائِفَةٍ لا يجوزُ بِحُكْمِ العادَةِ
(11) تقدم تخريجه في: 4/ 99.
(12)
في م: "في".
(1)
في م: "الواقف".
انْقِرَاضُهُم. وإن كان غيرَ مَعْلُومِ الانْتِهَاءِ، مثل أن يقِفَ على قَوْمٍ يجوزُ انْقِرَاضُهُم بِحُكْمِ العادَةِ، ولم يَجْعَلْ آخِرَه لِلْمَسَاكِينِ، ولا لِجِهَةٍ غيرِ مُنْقَطِعَةٍ، فإنَّ الوَقْفَ يَصِحُّ. وبه قال مالِكٌ، وأبو يوسفَ، والشافِعِىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال محمدُ بن الحَسَنِ: لا يَصِحُّ. وهو القولُ الثاني للشافِعِىِّ؛ لأنَّ الوَقْفَ مُقْتَضاهُ التَّأْبِيدُ، فإذا كان مُنْقَطِعًا صارَ وَقْفًا على مَجْهُولٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو وَقَفَ على مَجْهُولٍ في الابْتِدَاءِ. ولَنا، أنَّه تَصَرُّفٌ مَعْلُومُ المَصْرِفِ، فصَحَّ، كما لو صَرَّحَ بمَصْرِفِه المُتَّصِلِ، ولأنَّ الإِطْلَاقَ إذا كان له عُرْفٌ، حُمِلَ عليه، كنَقْدِ البَلَدِ وعُرْفِ المَصْرِفِ، وههُنا هم أَوْلَى الجِهَاتِ به، فكأنَّه عَيَّنَهُم. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَنْصَرِفُ عندَ انْقِرَاضِ المَوْقوفِ عليهم إلى أقَارِبِ الواقِفِ (2). وبه قال الشافِعِىُّ. وعن أحمدَ رِوَايةٌ أخرى، أنَّه يَنْصَرِفُ إلى المَسَاكِينِ. واخْتارَه القاضِى، والشَّرِيفُ أبو جعفرٍ؛ لأنَّهم (3) مَصْرِفُ الصَّدَقاتِ وحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى من الكَفّارَاتِ ونحوها، فإذا وُجِدَتْ صَدَقَةٌ غيرَ مُعَيَّنةِ المَصْرِفِ، انْصَرَفَتْ إليهم، كما لو نَذَرَ صَدَقةً مُطْلَقةً. وعن أَحمدَ رِوَايةٌ ثالثةٌ، أنَّه يُجْعَلُ في بَيْتِ مالِ المُسلِمينَ؛ لأنَّه مالٌ لا مُسْتَحِقَّ له، فأشْبَهَ مالَ من لا وارِثَ له. وقال أبو يوسفَ: يَرْجِعُ إلى الواقِفِ وإلى وَرَثَتِه (4)، إلَّا أن يقولَ: صَدَقةٌ مَوْقُوفةٌ، يُنْفَقُ منها على فُلَانٍ وعلى فُلَانٍ. فإذا انْقَرَضَ المُسَمَّى كانت لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِينِ. لأنَّه جَعَلَها صَدَقةً على مُسَمَّى، فلا تكونُ على غيرِه، ويُفَارِقُ ما إذا قال: يُنْفَقُ منها على فُلَانٍ وفُلَانٍ. فإنَّه جَعَلَ الصَّدَقةَ مُطْلَقةً. ولَنا، أنَّه أزَالَ مِلْكَه للهِ تعالى، فلم يَجُزْ أن يَرْجِعَ إليه، كما لو أعْتَقَ عَبْدًا، والدَّلِيلُ على صَرْفِه إلى أقَارِبِ الواقِفِ، أنَّهم أوْلَى الناسِ بِصَدَقَتِه، بِدَلِيلِ قولِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ رَحِمِكَ صَدَقَةٌ، وصَدَقَتُكَ عَلَى رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ"(5). وقال: "إنَّكَ أنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أنْ
(2) في م: "الوقف".
(3)
في م: "لأنه".
(4)
في الأصل: "وارثه".
(5)
تقدم تخريجه في: 4/ 99.
تَدَعَهُمْ عالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" (6). ولأن فيه (7) إغْنَاءَهُم وصِلَةَ أرْحَامِهِم، لأنَّهم أَوْلَى الناسِ بِصَدَقاتِه النَّوَافِلِ والمَفْرُوضاتِ، كذلك صَدَقَتُه المَنْقُولَةُ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ، وظاهِرِ كلامِ أحمدَ، يكونُ لِلفُقَراءِ منهم والأغْنِياءِ؛ لأنَّ الوَقْفَ [لا يَخْتَصُّ الفُقَرَاءَ] (8)، ولو وَقَفَ على أوْلادِه، تَنَاوَلَ الفُقَرَاءَ والأغْنِياءَ، كذا ههُنا. وفيه وَجْهٌ آخَر، أنَّه يَخْتَصُّ الفُقَرَاءَ منهم، لأنَّهم أهْلُ الصَّدَقاتِ دُونَ الأغْنِياءِ، ولأنَّا خَصَصْنَاهُم بالوَقْفِ (9) لكَوْنِهم أَوْلَى الناسِ بالصَّدَقَةِ، وأَوْلَى الناسِ بالصَّدَقَةِ الفُقَرَاءُ دون الأغْنِياءِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوَايةُ في مَن يَسْتَحِقُّ الوَقْفَ من أقْرِبَاءِ الواقِفِ، ففى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، يَرْجِعُ إلى الوَرَثةِ منهم؛ لأنَّهم الذين صَرَفَ اللهُ تعالى إليهم مَالَه بعد مَوْتِه واسْتِغْنائِه عنه، فكذلك يُصْرَفُ إليهم من صَدَقَتِه ما لم يَذْكُرْ له مَصْرِفًا، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّكَ أنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ". فعلى هذا يكونُ بينهم على حَسَبِ مِيرَاثِهِم، ويكونُ وَقْفًا عليهم. نَصَّ عليه أحمدُ، وذَكَرَه القاضي، لأنَّ الوَقْفَ يَقْتَضِى التَّأْبِيدَ، وإنَّما صَرَفْناه إلى هؤلاءِ لأنَّهم أحَقُّ الناسِ بِصَدَقَتِه، فصُرِفَ إليهم مع بَقَائِه صَدَقةً. ويَحْتَمِلُ كَلَامُ الخِرَقِىِّ أن يُصْرَفَ إليهم على سَبِيلِ الإِرْثِ، ويَبْطُلَ الوَقْفُ فيه. فعلى هذا يكونُ كقولِ أبى يُوسُفَ. والرواية الثانية، يكونُ وَقْفًا على أقْرَبِ عَصَبَةِ الوَاقِفِ، دون بَقِيَّةِ الوَرَثَةِ من أصْحابِ الفُرُوضِ، ودون البَعِيدِ من العَصَباتِ (10)، فيُقَدَّمُ الأقْرَبُ فالأقْرَبِ، على حَسَبِ اسْتِحْقاقِهِم لِوَلَاءِ الموَالِى، لأنَّهم خُصُّوا بالعَقْلِ عنه، وبمِيرَاثِ مَوَالِيه، فَخُصُّوا بهذا أيضًا. وهذا لا يَقْوَى عِنْدِى، فإنَّ اسْتِحْقاقَهم لهذا دون غيرِهم من النّاسِ لا يكونُ
(6) تقدم تخريجه في: 6/ 37. من حديث سعد ابن أبي وقاص "والثلث كثير".
(7)
سقط من: الأصل.
(8)
في الأصل: "لا يحصل للفقراء".
(9)
في ب، م:"بالوقوف".
(10)
في م: "العصابات".