الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، أوْ مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالى أوْ رَسُولَهُ، وَالسَّاحِرِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ؛ إِحْدَاهُمَا، لَا تقْبَل تَوْبَتُهُ، وَيُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ. وَالأخْرَى، تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، كَغَيرِهِ.
ــ
فصل: ولا تَصِحُّ رِدَّةُ المجنونِ ولا إسْلامُه، لأنَّه لا قولَ له. فإنِ ارْتَدَّ في صِحَّتِه، ثم جُنَّ، لم يُقْتَل في حالِ جُنونِه؛ لأنَّه يُقْتَلُ بالإِصْرارِ على الرِّدَّةِ، والمجنونُ لا يُوصَفُ بالإصْرارِ، ولا يُمْكِنُ اسْتِتابَتُه. ولو وَجَب عليه القِصاصُ فجُنَّ، قُتِل؛ لأنَّ القِصاصَ لا يَسْقُطُ عنه بسَبَبٍ من جِهَتِه، وههُنا يَسْقُطُ برُجُوعِه، ولأنَّ القِصاصَ إنَّما يَسْقُطُ بسَبَبٍ من جِهَةِ المُسْتَحِقِّ له، فَنَظِيرُ مَسْألَتِنا أن يُجَنَّ المُسْتَحِقُّ للقِصاصِ، فإنَّه لا (1) يَسْتَوْفِي في حالِ جُنُونِه.
4590 - مسألة: (وهل تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، ومَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه، أو مَن يسبَّ اللهَ تَعَالى أو رسولَه، أو السَّاحِرِ؟ على روَايَتَين؛ إحْدَاهُما، لا تُقْبَلُ تَوْبَتُه، ويُقتَلُ بِكُلِّ حالٍ. والأُخْرَى، تُقْبَلُ توْبَتُه كغيرِه)
مفهومُ كلامِ الشيخِ، رحمه الله، أنَّ المُرْتَدَّ إذا تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه، ولم يُقْتَلْ،
(1) سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أيَّ كُفْرٍ (1) كان. وهو ظاهرُ كلام الخِرَقِيِّ، سَواءٌ كان زِنْدِيقًا، أو لم يَكُنْ. وهذا مذهبُ الشافعَيِّ، وَالعَنْبَرِيِّ. ويُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، واختيارُ أبي بكرٍ الخَلَّالِ، وقال: إنَّه أَوْلَى على مذهبِ أبي عبدِ اللهِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، ومَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه. وهو قولُ مالكٍ، واللَّيثِ، وإسْحاق. وعن أبي حنيفةَ رِوايَتان، كهاتَين. واخْتيارُ أبي بكرٍ أنَّها لا تُقْبَلُ؛ لقولِ اللهِ تعالى:{إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (2). والزِّنْدِيقُ لا يَظْهَرُ منه ما يُبَيِّنُ به رُجُوعَه وتَوْبَتَه؛ لأنَّه كان مُظْهِرًا للإِسْلامِ، مُسِرًّا للكُفْرِ، فإذا أظْهَرَ التَّوْبَةَ، لم يَزِدْ على ما كان منه قبلَها، وهو إظْهارُ الإِسْلامِ، وأمَّا مَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه، فقد قال اللهُ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (3). وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، عن ظَبْيانَ (4) بنِ عُمارَةَ، أنَّ رَجلًا مِن بني سَعْدٍ مَرَّ على مسجدِ بني حَنِيفَةَ، فإذا هم يَقْرَأْونَ
(1) في م: «كافر» .
(2)
سورة البقرة 160.
(3)
سورة النساء 137.
(4)
انظر الاختلاف في فتح الظاء وكسرها بين ابن ماكولا والذهبي، في: الإكمال 5/ 246، 247، والمشتبه 424، 425.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
برَجَزِ مُسَيلَمَةَ، فرَجَعَ إلى ابنِ مسعودٍ، فذَكَرَ ذلك له، فبَعَث إليهم، فأُتِيَ بهم، فاسْتَتابَهُم، فتابُوا، فخَلَّى سَبِيلَهم، إلَّا رجُلًا منهم يُقالُ له: ابنُ النَّوَّاحَةِ. قال: قد أُتِيتُ بك مَرَّةً، فزَعَمْتَ أنَّك قد تُبْت، وأرَاكَ قد عُدْتَ. فقَتَلَه (1). ووَجْهُ الرَّوايةِ الأولى، قولُ اللهِ تعالى:{قُل للَّذِينَ كَفَروا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (2). ورُوِيَ أنَّ رجلًا سَارَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلم يُدْرَ ما سَارَّه به، فإذا هو يَسْتَأْذِنُه في قَتْلِ رَجُلٍ من المُنافِقين، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَليسَ يَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ؟». قال: بلى، ولا شَهادةَ له. قال:«أليسَ يُصَلِّي؟» . قال: بلى، ولَا صلاةَ له. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِيَ اللهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» (3). وقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إلا الَّذِينَ تَابُوا} (4). ورُوِيَ أنَّ مَخشِيَّ (5)
(1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 169. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد. . . .، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 269. والبيهقي، في: باب من قال في المرتد: يستتاب. . . .، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 206.
(2)
سورة الأنفال 38.
(3)
أخرجه الدارمي، في: باب في القتال على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن. . . .» ، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 218. والإمام مالك، في: باب جامع الصلاة، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 432، 433.
(4)
سورة النساء 145، 146.
(5)
في النسخ: «محش» . خطأ. وانظر: الإصابة 6/ 53. والإكمال 7/ 228.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ابنَ حُمَيِّرٍ كان في النَّفَرِ الذين أنْزَلَ اللهُ فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (1). فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتابَ إلى اللهِ تعالى، فقَبِلَ اللهُ توْبَتَه (2)، وهو الطَّائِفَةُ التي عَفا اللهُ عنها بقولِه سبحانه:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} (3). ورُوِيَ أنَّه سألَ اللهَ تعالى أن يُقْتَلَ شَهِيدًا في سَبيلِه، ولا يُعْلَمَ بمكانِه، فقُتِلَ يومَ اليَمامَةِ، ولم يُعْلَمْ مَوْضِعُه. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَفَّ عن المُنافِقِين بما أظْهَرُوا مِن الشَّهادةِ، مع إخْبارِ الله تعالى له بباطِنِهم، بقولِه تعالى:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (4) وغيرِها مِن الآياتِ. وحديثُ ابن مسعودٍ حُجَّةُ في قَبُولِ تَوْبَتِهم، مع إسْرارِهِم بكُفْرِهم. فأمَّا قَتْلُ ابنِ النَّوَّاحَةِ، فيَحْتَمِلُ أنَّه قَتَلَه لظُهُورِ كَذبِه في تَوْبَتِه؛ لأنَّه أظْهَرَها، وتَبَيَّنَ أنَّه ما زال عمَّا كان عليه مِن كُفْرِه. ويَحْتَمِلُ أنَّه (5) قَتَلَه؛ لقولِ النبيِّ
(1) سورة التوبة 65.
(2)
أخرجه الطبري، في: تفسيره 10/ 173.
(3)
سورة التوبة 66. وانظر تفسير عبد الرزاق 2/ 282، 283.
(4)
سورة التوبة 56.
(5)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صلى الله عليه وسلم له حينَ جاءَ رسولًا لمُسَيلِمَةَ: «لَوْلَا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ» (1). فقَتَلَه (2) تَحْقِيقًا لقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقد رُوِيَ أنَّه قَتَلَه لذلك.
فصل: فأمَّا مَن سَبَّ اللهَ سبحانه وتعالى أو رَسُولَه، فروَى القاضي، عن أحمدَ، أنَّه قال: لا تَوْبَةَ لِمَن سَبَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ
(1) أخرجه أبو داود، في: باب في الرسل، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 76. والدارمي، في: باب في النهي عن قتل الرسل، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 235. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 391.
(2)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رِوايةً أُخْرَى، أنَّ تَوْبَتَه مَقْبُولَةٌ، لقَوْلِ اللهِ تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . ولحديثِ مَخْشِيِّ بنِ حُمَيِّرٍ، ولأنَّ مَن زَعَم أنَّ للهِ ولدًا فقد سبَّ اللهَ تعالى، بدَليلِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إخْبارًا عن رَبِّه تعالى أنَّه قال:«شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي، أمَّا شَتْمُه إِيَّايَ، فَزَعَمَ أنَّ لِي وَلدًا» (1). وتَوْبَتُه مَقْبُولةٌ، بغيرِ خِلافٍ، وإذا قُبِلَتْ تَوْبَةُ مَن سبَّ اللهَ تعالى، فمن سبَّ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم أَوْلَى أن تُقْبَلَ توْبَتُه.
(1) تقدم تخريجه في 26/ 404.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وهل تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحدَاهُما، لا يُسْتَتابُ. وهو ظاهِرُ ما نُقِلَ عن الصحابةِ، رضي الله عنهم، فإنَّه لم يُنْقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه اسْتَتابَ ساحِرًا، وفي الحديثِ الذي رَواه هشامُ بنُ (1) عُرْوَةَ، عن عائشةَ، أنَّ امرأةً جاءَتْها، فقالت: يا أُمَّ المُؤْمِنينَ، إنَّ عَجُوزًا ذَهَبتْ بي إلى هاروتَ وماروتَ، فقلتُ: عَلِّمانيَ السِّحْرَ. فقالا: اتَّقِي اللهَ ولا تَكْفُرِي، فإنَّكِ على رأسِ أمْرِكِ. فقلتُ: عَلِّمانِيَ السِّحْرَ. فقالا: اذْهَبِي إلى ذلك التَّنُّورِ، فبُولِي فيه. ففعَلْتُ، فرأيتُ كأنَّ فارِسًا مُقَنَّعًا في الحديدِ خرَج مِنِّي حتى طارَ، فغابَ في السَّماءِ، فرَجَعْتُ إليهما، فأخْبَرْتُهما، فقالا: ذلك إيمانُكِ. فذكَرتْ باقِيَ القِصَّةِ، إلى أن قالتْ: واللهِ يا أمَّ (2) المؤمِنين ما صنعتُ شيئًا غيرَ هذا، ولا أصْنَعُه أبدًا، فهل لي مِن تَوْبَةٍ؟ قالت عائشةُ: ورأيتُها تَبْكِي بُكاءً شديدًا، فطَافَتْ (3) في أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهم مُتوافِرُون تسْألُهم، هل لها مِن تَوْبةٍ؟
(1) في النسخ: «عنه» . والمثبت من مصدري التخريج.
(2)
في م: «أمير» .
(3)
في م: «فكانت» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فما أفْتاها أحدٌ، إلَّا ابنَ عَبَّاسٍ قال: إن كان أحَدٌ مِن أُبوَيكِ حَيًّا، فبَرِّيه، وأكْثِري مِن عملِ (1) البِرِّ ما اسْتَطَعْتِ (2). ولأنَّ السِّحْرَ مَعْنًى في قلبِه لا يزولُ بالتَّوْبَةِ، فيُشْبهُ مَن لم يَتُبْ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، يُسْتَتابُ، فإن تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه، فإنَّ اللَّهَ تَعالى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَونَ، وجَعَلَهم مِن أوْلِيائِه في ساعةٍ، ولأنَّ السَّاحِرَ لو كان كافِرًا فأسْلَمَ صَحَّ إسْلامُه وتَوْبَتُه، فإذا صَحَّتِ التَّوْبَةُ منهما؛ صَحَّتْ من أحَدِهما، كالكُفْرِ، ولأنَّ الكُفْرَ والقتلَ ما هو إلَّا بعَمَلِه بالسِّحْرِ، [لا بعِلْمِه](3)، بدَليلِ السَّاحِرِ إذا أسْلَمَ، والعملُ به تُمْكِنُ التَّوْبَةُ منه، وكذلك اعْتِقادُ ما يَكْفُرُ باعْتِقادِه، تُمْكِنُ التَّوْبَةُ منه، كالشِّرْكِ.
فصل: والخِلافُ بينَ الأئِمَّةِ في قَبُولِ تَوْبَتِهم إنَّما هو في الظَّاهِرِ مِن
(1) في الأصل: «عملك» .
(2)
أخرجه ابن جرير في: تفسيره 1/ 460، 461. والبيهقي، في: باب قبول توبة الساحر. . . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 137.
(3)
سقط من: م.