الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ، وَلَحِقَا بدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيهِمَا، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُمَا، وَلَا اسْتِرْقَاقُ أَولَادِهِمَا الَّذِينَ وُلِدُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ قُتِلَ. وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَهَلْ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ.
ــ
4598 - مسألة: (وإذا ارْتَدَّ الزَّوْجانِ، ولَحِقَا بدارِ الحَرْبِ، ثم قُدِرَ عليهما، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهما، ولا اسْتِرْقاقُ أوْلادِهما الَّذِينَ وُلِدُوا في الإِسْلامِ، ومَن لم يُسْلِمْ منهم قُتِلَ. ويَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَن وُلِدَ بعدَ الرِّدَّةِ، وهل يُقَرُّونَ على كُفْرِهم؟ على رِوايَتَين)
وجملةُ ذلك، أنَّ الرِّقَّ لا يَجْرِي على المُرْتَد، سَواءٌ كان رجلًا أو امرأةً، وسَواءٌ لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ أو أقامَ بدارِ الإِسْلامِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا لَحِقَتِ المُرْتَدَّةُ بدارِ الحَرْبِ، جازَ اسْتِرْقاقُها؛ لأنَّ أبا بكرٍ سَبَى بني حنيفةَ، واسْتَرَقَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نساءَهم، وأمُّ محمدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ [من سَبْيِهم](1). ولَنا، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَن بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلُوهُ» (2). ولأنَّه لا يجوزُ إقْرارُها (3) على كُفْرِها (4)، فلم يَجُزِ اسْتِرْقاقُها (5) كالرَّجلِ، ولم يُنْقَلْ أنَّ الذين سَباهُم أبو بكرٍ، رضي الله عنه، كانوا أسْلَمُوا، ولا ثَبَت لهمِ حُكْمُ الرِّدَّةِ. فإن قِيل: فقد رُوِيَ عن عليٍّ، رضي الله عنه، أنَّ المُرْتدَّةَ تُسْبَى (6). قُلْنا: هذا الحديث ضَعَّفَه أحمدُ. فأمَّا أوْلادُ المُرْتَدِّينَ، فإن كانُوا وُلِدُوا قبلَ الردَّةِ، فإنَّهم مَحْكومٌ بإسْلامِهم تَبَعًا لآبائِهم، ولا يتْبَعُونَهم في الرِّدَّةِ؛ لأنَّ الإِسلامَ يَعْلُو، وقد تَبِعُوهم فيه، فلا يَتْبَعُونهم في الكُفْرِ، فلا يجوزُ اسْتِرْقاقُهم صِغارًا؛ لأنَّهم مسلمون، ولا كِبارًا؛ لأنَّهم إن ثَبَتُوا على إسْلامِهم بعدَ كُفْرِهم فهم مسلمون، وإن كَفَرُوا فهم مُرْتَدُّون، حُكْمهُم حُكْمُ آبَائِهم في الاسْتِتَابَةِ، وتَحْرِيمِ الاسْتِرْقاقِ. وأمَّا مَن حَدَث بعدَ الرِّدَّةِ، فهو محكومٌ بكُفْرِه؛ لأنَّه وُلِدَ بينَ أبَوَين كافِرَين، ويجوزُ اسْتِرْقاقُه؛
(1) في م: «منهم» .
(2)
تقدم تخريجه في: 21/ 42.
(3)
في م: «إقراره» .
(4)
في م: «كفره» .
(5)
في م: «استرقاقه» .
(6)
انظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 171. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 267. والبيهقي، في: باب ما جاء في سبي ذرية المرتدين، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 208.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأنَّه ليس بمُرْتَدٍّ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ وأبي بكرٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ اسْتِرْقاقُهم، لأنَّ آباءَهم لا يجوزُ اسْتِرْقاقُهم، ولأنَّهم لا يُقَرُّون بالجِزْيَةِ، فلا يُقَرُّونَ بالاسْتِرْقاقِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن وُلِدُوا في دارِ الإِسلامِ، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، وإن وُلِدُوا في دارِ الحَرْبِ، جازَ اسْتِرْقاقُهم. [ولَنا، أنَّه لم يَثْبُت لهم حكمُ الإِسلامِ، فجازَ اسْترْقاقُهم](1)، كوَلَدِ الحَرْبِيَّين، بخِلافِ آبائِهم. فعلى هذا، إذا وَقَع في الأسْرِ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحربِ، فحُكْمُه حُكْمُ سائرِ أهلِ الحربِ، وإن كان في دارِ الإِسْلام، لم يُقَرَّ بالجِزْيَةِ، وكذلك لو بَذَل الجِزْيَةَ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحَرْبِ، لمَ يُقَرَّ بها، لأنَّه انْتَقَل إلى الكُفْرِ بعدَ نزولِ القُرْآنِ. فأمَّا مَن كان حَمْلًا حال رِدَّتِه، فظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ أنَّه كالحادِثِ بعدَ كُفْرِه. وعندَ الشافعيِّ، هو كالمَوْلُودِ، [لأَنَّه موجودٌ](1)، ولهذا
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَرِثُ. ولَنا، أنَّ أكثرَ الأحْكامِ إنَّما تَتَعَلَّقُ به (1) بعدَ الوَضْعِ، فكذلك هذا الحكمُ. وهل يُقَر مَن وُلِدَ بعدَ الرِّدَّةِ على كُفْرِه؛ فيه رِوايتان؛ إحداهما، يُقرُّ، كأوْلادِ أهْلِ الحربِ. والثانيةُ، لا يُقَرُّونَ، فإذا أسْلَمُوا رُقُّوا؛ لأنَّهم أوْلادُ مَن لا يُقَرُّ على كُفْرِه، فلا يُقَرونَ على كُفْرِهم، كالمَوْجودِين قبلَ رِدَّتِهِم.
فصل: ومَن لم يُسْلِمْ من الذين كانوا مَوْجُودِين قبلَ الرِّدَّةِ، فقُدِرَ عليهم، أو على آبَائِهم، اسْتُتِيبَ منهم مَن كان بالغًا عاقِلًا، فمَن لم يَتُبْ قُتِلَ، ومَن لم يَبْلُغِ انْتُظِرَ بُلُوغُه، فإن لم يَتُبْ، قُتِلَ إذا اسْتُتِيبَ، ويَنْبَغِي أن يحْبَسَ حتى لا يَهْرُبَ.
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ومتى ارْتَدَّ أهلُ بلدٍ، وجَرَتْ فيهم أحْكامُهم، صارُوا دارَ حَرْبٍ في اغْتِنامِ أمْوالِهم، وسَبْي ذَرارِيِّهم الحادِثِين بعدَ الرِّدَّةِ، وعلى الإِمامِ قِتالُهم، فإنَّ أبا بكرٍ، رضي الله عنه، قاتَلَ أهْلَ الرِّدَّةِ بجمَاعَةِ (1) الصحابةِ، ولأنَّ اللهَ تَعالى قد أمَرَ بقِتالِ الكُفَّارِ في مَواضِعَ من كِتابِه، وهؤلاءِ أحَقُّهم بالقِتالِ؛ لأنَّ تَرْكَهم ربَّما أغْرَى أمْثالهم بالتَّشَبُّهِ بهم، والارْتِدَادِ معهم، فيَكْثُرُ الضَّرَرُ بهم. وإذا قَاتَلَهم، قَتَلَ مَن قَدَر عليه، ويُتْبَعُ مُدْبِرُهم، ويُجَازُ على جَرِيحِهم، وتُغْنَمُ أمْوالُهم. وبهذا قال
(1) بعده في م: «من» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَصِيرُ دارَ حربٍ حتى يَجْتَمِعَ فيها ثلاثةُ أشْياءَ؛ أن تكونَ مُتاخِمَةً لدارِ الحربِ، لا شيءَ بينَهما من دارِ الإِسلامِ. الثاني، أن لا يَبْقَى فيها مُسْلِمٌ ولا ذِمِّيٌّ آمِن. الثالثُ، أن تَجْرِي فيها أحْكامُهم. ولَنا، أنَّها دارُ كُفَّارٍ، فيها أحْكامُهم، فكانتْ دارَ حَرْبٍ، كما لو اجْتَمَعَ فيها هذه الخِصالُ، أو دارَ الكَفَرَةِ الأصْلِيِّين.
فصل: وإن قَتَلَ المُرتَدُّ مَن يُكافِئَه عَمْدًا، فعليه القِصاصُ. نَصَّ عليه أحمدُ. والوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بينَ قَتْلِه والعَفو عنه، فإن اخْتارَ القِصاصَ، قُدِّمَ على قَتْلِ الرِّدَّةِ، سَواءٌ تَقَدَّمَتِ الرِّدَّةُ أو تَأْخَّرَتْ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمي، وإن عَفَا على مالٍ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ في مالِه. وكذلك إن كان القَتْلُ خَطَأً، تَجِبُ الدِّيَةُ في مالِه أيضًا؛ لأنَّه لا عاقلةَ له. قال القاضي: وتُؤْخَذُ منه الدِّيَةُ في ثلاثِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سِنِينَ؛ لأنَّها دِيَةُ الخَطَأ، وإن قُتِلَ أو ماتَ، أُخِذَتْ من مالِه في الحالِ؛ لأنَّ الدَّينَ المُؤَجَّلَ يَحِلُّ بالمَوْتِ في حَقِّ مَن لا وارِثَ له. ويَحْتَمِلُ أن تَجبَ الدِّيَةُ حالَّةً عليه؛ لأنَّها إنَّما أُجِّلَتْ في حَقِّ العاقِلَةِ تَخْفِيفًا عليهم، لأَنَّهم يَحْمِلُون عن غيرِهم على سَبِيلِ المُوَاساةِ، فأمَّا الجانِي، فتَجِبُ عليه حالَّةً؛ لأنَّها بَدَلٌ عن مُتْلَفٍ، فكانتْ حالَّةً، كسائرِ أبْدالِ المُتْلَفاتِ.
فصل: ومَن أسْلَمَ من الأبوَين، كان أوْلادُه الأصَاغِرُ تَبَعًا له. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: إذا أسْلَمَ أبَوَاهُ أو أحدُهما، وأدْرَكَ فأبَى الإِسلامَ، أُجْبِرَ عليه، ولم يُقْتَلْ. وقال مالكٌ: إن أسْلَمَ الأبُ، تَبِعَه أوْلادُه، وإن أسْلَمَتِ الأمُّ لم يَتْبَعُوها؛ لأنَّ وَلَدَ الحَرْبِيَّين (1) يَتْبَعُ أبَاه دُونَ أُمِّه، بدَليلِ المَوْلَيَين إذا كانَ لهما ولدٌ، كان وَلاؤُه لمَوْلَى أبِيه دُونَ أُمِّه (2)، ولو كان الأبُ عَبْدًا والأمُّ مَوْلاةً، فأُعْتِقَ العبدُ، لجَرَّ وَلاءَ ولدِه إلى مَوالِيه، ولأنَّ الوَلَدَ يَشْرُف بشَرَفِ أبِيه، ويُنْسَبُ إلى قَبِيلَتِه دُونَ قَبِيلَةِ
(1) في م: «الحرين» . خطأ.
(2)
أي: مولى أمه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أُمِّه، فوَجَبَ أن يَتْبَعَ اعصباه في دِينِه أيَّ دِينٍ كان. وقال الثَّوْرِيُّ: إذا بَلَغ خُيِّرَ بينَ دِينِ أبِيه ودِينِ أُمِّه، فأيُّهما اخْتارَه كان على دِينِه. ولَعلَّه يَحْتَجُّ بحديثِ الغُلامِ الذي أسْلَمَ أبُوه، وأبَتْ أُمُّه أن تُسْلِمَ، فخَيَّرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ أبِيه وأُمِّه (1). ولَنا، أنَّ الولدَ يَتْبَعُ أبَوَيه في الدِّينِ، فإذا اخْتَلَفا، وَجَب أن يَتْبَعَ المسلمَ منهما، كولدِ المسلمِ من الكِتابِيَّةِ، ولأنَّ الاسلامَ يَعْلُو ولا يُعْلَى، ويَتَرَجَّحُ الإسلامُ (2) بأَشْياءَ؛ منها أنَّه دِينُ اللهِ الذي رَضِيَه لعبادِه، وبَعَث به رُسُلَه، ودَعا خَلْقَه إليه، ومنها، أنه تَحْصُلُ به السَّعادَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ويَتَخَلَّصُ به في الدُّنْيا من القَتْلِ والاسْتِرْقاقِ وأداءِ الجِزْيَةِ، وفي الآخِرَةِ مِن سَخَطِ اللهِ وعَذَابِه، ومنها أنَّ الدَّارَ دارُ الإِسْلامِ يُحْكَمُ بإسلام (3) لَقِيطِها، ومَن لا يُعْرَفُ حالُه فيها (4)، وإذا كان مَحْكومًا بإسْلامِه، أُجْبِرَ عليه إذا امتنعَ منه بالقَتْلِ، كوَلَدِ المسلمين، ولأنَّه مسلمٌ، فإذا رَجَع عن إسْلامِه، وَجَبَ قتلُه؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (5). وبالقِياسِ على غيرِه. ولَنا، على مالكٍ، أنَّ الأُمَّ أحَدُ الأبوَين، فتَبِعَها وَلَدُها في الإِسْلام، كالأبِ، بل الأُمُّ أَوْلَى به (2)؛ لأنَّها أخَصُّ به؛ لأنه مَخْلُوقٌ منها حَقِيقةً، وتَخْتَصُّ
(1) تقدم تخريجه في 24/ 470.
(2)
سقط من: م.
(3)
في الأصل: «بإسلامه» .
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
تقدم تخريجه، في: 21/ 42.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بحَمْلِه ورَضاعِه، ويَتْبَعُها في الرِّقِّ والحُرِّيَّةِ والتَّدْبِيرِ والكتابةِ، ولأنَّ سائرَ الحَيَواناتِ يَتْبَعُ الولَدُ أُمَّه دُونَ أبِيه، وهذا يُعارضُ ما ذَكَرَه (1). وأمَّا تَخْيِيرُ الغلامِ، فهو في الحَضانةِ لا في الدِّينِ.
فصل: ومَن ماتَ مِن الأبَوَين الكافِرَين على كُفْرِه، قُسِمَ للولَدِ المِيراثُ، وكان مسلمًا بمَوْتِ مَن ماتَ منهما. وأكثرُ الفُقَهاءِ على أنَّه لا يحْكَمُ بإسْلامِه بمَوْتِهما ولا بمَوْتِ أحَدِهما؛ لأنَّه ثَبَت كُفْرُه تَبَعًا، ولم يُوجدْ منه إسْلامٌ، ولا ممَّن هو تابعٌ له، فوَجَب إبْقاؤُه (2) على ما كان عليه؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحَدٍ مِن خُلَفائِه أنَّه أجْبَرَ أحدًا مِن أهلِ الذِّمَّةِ على الإِسْلامِ بمَوْتِ أبِيه، مع أنَّه لم يَخْلُ زَمَنُه عن مَوْتِ بعضِ أهلِ الذِّمَّةِ عن يَتِيمٍ (3). ولَنا، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويُمَجِّسَانِه» . مُتَّفَقٌ عليه (4). فجَعَل كُفْرَه بفِعْلِ أبْوَيه، فإذا ماتَ أحَدُهما، انْقَطَعَتِ
(1) في الأصل: «ذكروه» .
(2)
في م: «بقاؤه» .
(3)
في م: «بنيهم» .
(4)
تقدم تخريجه في 10/ 94.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التَّبَعَيَّةُ، فوَجَب إبْقاؤُه على الفِطْرَةِ التي وُلِدَ عليها، ولأنَّ المسألةَ مَفْرُوضَةٌ في مَن مات أبُوه في دارِ الإسلامِ، وقَضِيَّةُ الدارِ الحُكمُ بإسْلامِ أهْلِها، ولذلك (1) حَكَمْنا بإسلام لَقِيطِها، وإنَّما ثَبَت الكُفْرُ للطِّفْلِ الذي له أبَوان، فإذا عُدِمَا أو أحَدُهما، وَجَب إبْقاؤُه على حُكمِ الدَّارِ؛ لانْقِطاعِ تَبَعِيَّتِه لمَن يَكْفُرُ بها، وإنَّما (2) قُسِمَ له المِيراثُ؛ لأنَّ إسْلامَه إنما ثَبَت بمَوْتِ أبِيه الذي اشتَحَقَّ به المِيراثَ، فهو سَبَبٌ لهما، فلم يَتَقَدَّمِ الإِسلامُ المانِعُ مِن المِيراثِ على اسْتِحْقاقِه، ولأنَّ الحُريَّةَ المُعَلَّقَةَ بالموتِ، لا تُوجِبُ المِيراثَ فيما إذا قال سَيِّدُ العَبْدِ له: إذا ماتَ أبُوكَ فأنتَ حُرٌّ. فماتَ أبوه، فإنَّه يَعْتِقُ، ولا يَرِثُ، فيجبُ أن يكونَ الإِسلامُ المُعَلَّقُ بالمَوْتِ لا يَمْنَعُ المِيراثَ، وهذا فيما إذا كان في دارِ الإِسلامِ؛ لأنَّه متى انْقَطَعَت تَبَعِيَّتُه لأبوَيه أو أحدِهما، ثَبَت له حُكْمُ الدَّارِ، فأمَّا دارُ الحَرْبِ، فلا يُحْكَمُ بإسلامِ ولدِ الكافِرَين (3) فيها بمَوْتِهما، ولا مَوْتِ أحدِهما؛ لأنَّ الدَّارَ لا يُحْكَمُ بإسْلامِ أهْلِها، ولذلك لم يُحْكَمْ بإسلامِ لَقِيطِها.
(1) في م، ص:«كذلك» .
(2)
بعده في الأصل: «تقسم» .
(3)
في م: «الكافر» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وتَثْبُتُ الرِّدَّةُ بشَيئَين؛ الإِقْرارُ، والبَيِّنةُ، فمتى شَهِد بالرِّدَّةِ على المُرْتَدِّ مَن ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ بشَهادَتِه، فأنْكَرَ، لم يُسْمَعْ إنْكارُه، واسْتُتِيبَ، فإن تَاب، وإلَّا قُتِلَ. وحُكِيَ عن بعضِ أصحابِ أبي حنيفةَ، أنَّ إنْكارَه يَكْفِي في الرُّجُوعِ إلى الإِسلام، ولا يَلْزَمُه النُّطْقُ بالشَّهادةِ؛ لأنَّه لو أقَرَّ بالكُفْرِ ثُمَّ أنْكَرَه، قُبِلَ منه، ولم يُكَلَّفِ الشَّهادَتَين، فكذا هذا. ولَنا، ما رَوَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن عل، رضي الله عنه، أنَّه أُتِي برَجلٍ عربيٍّ [قد تَنَصَّر](1)، فاسْتَتابَه، فأبَى أن يَتُوبَ، فقَتَلَه، وأُتِيَ برَهْطٍ يُصَلُّونَ وهم زَنادِقَةٌ، وقد قامتْ عليهم بذلك الشُّهُودُ العُدُولُ، فجَحَدُوا،
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقالوا: ليس لنا دِينٌ إلَّا الإِسلامُ. فقَتَلَهم، ولم يَسْتَتِبْهم، ثم قال: أتَدْرُونَ لمَ اسْتَتَبْتُ النَّصْرانِيَّ؛ اسْتَتَبْتُه؛ لأنَّه أظْهَرَ دِينَه، فأمَّا الزَّنادِقَةُ الذين قامتْ عليهم البَيِّنَةُ، فإنَّما قَتَلْتُهم؛ لأنَّهم جَحَدُوا، وقد قامتْ عليهم البَيِّنَةُ (1). ولأنَّه قد ثَبَت كُفْرُه، فلم يُحْكَمْ بإسلامِه بدونِ الشَّهادَتَين، كالكافرِ الأصْلِيِّ، ولأنَّ إنْكارَه تَكْذِيب للبَيِّنَةِ، فلم يُسْمَعْ، كسائرِ الدَّعَاوَى. فأمَّا إذا أقَرَّ بالكُفْرِ ثم أنكرَ، فيَحْتَمِلُ أنَّ القولَ فيه كمسألتِنا، وإن سَلَّمْنا، فالفرقُ بينَهما أنَّ الحَدَّ وَجَب بقولِه، فقُبِلَ رُجُوعُه عنه، وما ثَبَت بالبَيِّنَةِ لم يَثْبُتْ بقولِه، فلا يُقْبَلُ رُجُوعُه عنه، كالزِّنَى والسَّرِقَةِ.
(1) أخرج نحوه عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإِيمان، من كتاب اللقطة. المصنف. 10/ 170.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وتُقْبَلُ الشَّهادةُ على الرِّدَّةِ مِن عَدْلَين، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والشافعيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. قال ابنُ المُنْذِر: ولا نعلمُ أحدًا خالفَهم، إلَّا الحسنَ، قال: لا يُقْبَلُ في القَتْلِ إلَّا أرْبعةٌ؛ لأنَّها شهادةٌ بما يُوجِبُ القَتْلَ، فلم يُقْبَلْ فيها إلَّا أربعةٌ، قياسًا على الزِّنَى (1). ولَنا، أنَّها شَهادةٌ بغيرِ الزِّنى، فقُبلَتْ مِن عَدْلَين، كالشَّهادَةِ على السَّرِقَةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الزِّنى، فإنَّه لم يُعْتَبَرْ فيه الأربعةُ (2) لعلَّةِ القَتْلِ، بدليلِ اعْتِبارِ ذلك في زِنَى البِكْرِ، ولا قَتْلَ فيه، وإنَّما العِلَّةُ كَوْنُه زِنًى، ولم يُوجَدْ ذلك في الرِّدَّةِ، ثم الفرقُ بينَهما أنَّ القَذْفَ بالزِّنَى يُوجِبَ ثمانين جلدةً، بخِلافِ القَذْفِ بالرِّدَّةِ.
فصل: وإذا أُكْرِهَ على الإسلام مَن لا (3) يجوزُ إكْراهُه، كالذِّمَّيِّ والمُسْتَأْمِنِ، فأسْلَمَ، لم يَثْبُتْ له حَكمُ الإِسلامِ، حتى يُوجَدَ منه ما يَدُلُّ على إسْلامِه طَوْعًا، مثلَ أن يَثْبُتَ على الإِسلامِ بعدَ زَوالِ الإِكْراهِ عنه. وإن ماتَ قبلَ ذلك، فحُكْمُه حُكْمُ الكُفَّارِ. وإن رَجَع إلى دِينِ الكُفْرِ، لم يَجُزْ قَتْلُه ولا إكْراهُه على الإِسلامِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ.
(1) انظر الأشراف 3/ 170، والإِجماع 76.
(2)
في النسخ: «إلا أربعة» . والمثبت من المغني 12/ 288.
(3)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال محمدُ بنُ الحسنِ: يَصيرُ مسلمًا في الظَّاهِرِ، وإن رَجَع عنه قُتِلَ إذا امْتَنَع مِن الإِسلامِ؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلام:«أمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إلا اللهُ. فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَموَالهُمْ إلا بِحَقِّهَا [وحِسَابُهُم عَلَى الله] (1)» (2). ولأنَّه أتَى بقَوْلِ الحَقِّ، فلَزِمَه حُكْمُه، كالحَرْبِيِّ إذا أُكْرِهَ عليه. ولَنا، أنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكراهُه عليه، فلم يَثْبُت حُكْمُه في حَقِّه، كالمُسْلمِ إذا أُكْرِهَ على الكُفْرِ، والدَّليلُ على تحريمِ الإِكراهِ قولُ اللهِ تعالى؛ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3). وأجْمَعِ أهلُ العلمِ على أنَّ الذِّميَّ إذا قامَ على ما هو عليه والمُسْتَأْمِنَ، لا يجوزُ نقْضُ عَهْدِه، ولا إكْرَاهُه على ما لم يَلْتَزِمْه (4). ولأنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكْراهُه عليه، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّه، كالإِقْرارِ والعِتْقِ. وفارَقَ الحَرْبِيَّ والمُرْتَدَّ؛ فإنَّه يجوزُ قَتْلُهما وإكْراهُهُما على الإِسلامِ، بأنْ يقولَ: إن أسْلَمْتَ وإلَّا قَتَلْنَاكَ. فمتى أسلمَ، حُكِمَ بإسْلامِه ظاهِرًا. وإن ماتَ قبلَ زَوالِ الإِكراهِ عنه، فحُكْمُه حكمُ المسلمين؛ لأنَّه أُكْرِهَ بحَقٍّ، فحُكِمَ بصِحَّةِ ما يَأْتِي به، كما لو أُكْرِهَ المسلمُ على الصلاةِ فصَلَّى، وأمَّا في الباطِنِ
(1) سقط من: م.
(2)
تقدم تخريجه في 3/ 31.
(3)
سورة البقرة 256.
(4)
في الأصل: «يلزمه» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فبينَهم وبينَ ربِّهم، فمَن اعْتَقَد الإِسلامَ بقَلْبِه، وأسلمَ فيما بينَه وبينَ رَبِّه، فهو مسلمٌ عندَ اللهِ موْعودٌ بما وَعَد به مَن أسْلَمَ طائِعًا، ومَن لم يَعْتَقِدِ الإِسلامَ بقَلْبِه، فهو باقٍ على كُفْرِه، لا حَظَّ له في الإِسلامِ، وسَواءٌ في هذا مَن يُجَوِّزُ إكْراهَه ومَن لا يُجَوزُ، فإنَّ الإِسلامَ لا يَحْصُلُ بدونِ اعْتِقادِه مِن العاقلِ، بدليل أنَّ المُنافِقِين كانوا يُظْهِرُونَ الإِسلامَ، ويَقُومُونَ بفَرائِضِه، ولم يكُونوا مُسْلِمِين.
فصل: ومَن أُكْرِهَ على الكُفْرِ، لم يَصِرْ كافِرًا. وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: هو كافِرٌ في الظَّاهِرِ، تَبِينُ منه امرأتُه، ولا يَرِثُه المسلمون إن ماتَ، ولا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه، وهو مسلمٌ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، لأنَّه نَطَق بكَلِمَةِ الكُفْرِ، فأشْبَهَ المُخْتارَ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى:{إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (1). ويُرْوَى أنَّ عَمَّارًا (2) أكْرَهَه المُشْرِكون، فضربُوه حتى تَكَلَّمَ بما طَلَبُوا منه، ثم أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يَبْكِي، فأخبرَه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنْ عَادُوا فَعُدْ» (3). ورُوِيَ أنَّ الكُفَّارَ كانوا يُعَذِّبُونَ المُسْتَضْعَفِينَ مِن المؤمِنِين، فما منهم أحَدٌ إلَّا أجابَهم، إلَّا بلالًا، فإنَّه كان يقولُ: أحَدٌ. أحَدٌ (4).
(1) سورة النحل 106.
(2)
في الأصل: «عميرا» .
(3)
تقدم تخريجه في 22/ 154.
(4)
أخرجه البيهقي، في: باب المكره على الردة، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 209. وانظر: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عُفِيَ لأمَّتِي عَنِ الخَطَأ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (1). ولأنَّه قول أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَثْبُتْ في حَقِّه، كما لو أُكْرِهَ على الإِقْرارِ، وفارَقَ ما إذا أُكْرِهَ بحَقٍّ، فإنَّه خُيِّرَ بينَ أمْرَينِ يَلْزَمُه أحدُهما، فأيُّهما اخْتارَه ثَبَت حُكْمُه في حَقِّه. فإذا ثَبَت أنَّه لم يَكْفُرْ، فمتى زال عنه الإكراهُ، أُمِرَ بإظْهارِ إسْلامِه، فإن أظْهَرَه فهو بَاقٍ على إسْلامِه، وإن أظْهَرَ الكُفْرَ حُكِمَ أنَّه كَفَر مِن حينَ نَطَق به؛ لأنَّنَا تَبَيَّنَّا بذلك أنَّه كان مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بالكُفْرِ مِن حينَ نَطَق به، مُخْتارًا له. وإدْ قامَتْ عليه بَيِّنَةٌ أنَّه نَطَق بكَلمةِ الكُفرِ، وكان محبوسًا عندَ الكُفَّارِ، أو مُقَيَّدًا عندَهم في حالةِ خوفٍ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّ ذلك ظاهر في الإِكراهِ. وإن شَهِدَت أنَّه كان آمِنًا حال نُطْقِه حُكِمَ (2) برِدَّتِه. فإنِ ادَّعَى ورثتُه رُجوعَه إلى الإِسْلامِ، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاؤْه على ما هو عليه. وإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ عليه بأكْلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّه قد يأكلُه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه، كما يشربُ الخمرَ مَن يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَها. وإن قال بعضُ ورَثَتِه: أكلَه مُسْتَحِلًّا له. أو أقَرَّ برِدَّتِه، حُرِمَ مِيرَاثَه؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّه لا يَسْتَحِقُّه، ويُدْفَعُ إلى مُدَّعِي إسْلامِه قَدْرُ ميراثِه؛ لأنَّه لا يَدَّعِي أكثرَ منه، ويُدْفَعُ الباقِي إلى بَيتِ المالِ؛ لعَدَمِ مَن يَسْتَحِقُّه، فإن كان في الورثةِ صغيرٌ أو مجنونٌ، دُفعَ إليه نَصيبُه، ونصيبُ المُقِر برِدَّةِ الموروثِ؛ لأنَّه لم تثْبُتْ
= السيرة النبوية 1/ 317 - 321.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 276.
(2)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رِدَّتُه بالنسبةِ إليه.
فصل: ومَن أُكْرِهَ على كلمةِ الكُفْرِ، فالأفضلُ أن يصبرَ ولا يقولَها، وإن أتَى ذلك على نفْسِه؛ لِما رَوَى خَبَّابٌ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:«إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ لَيُحْفَرُ له في الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بمِنْشَارٍ، فيُوضَع عَلَى شِقِّ رَأْسِه، ويُشَقُّ باثْنَتَين، مَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِه مِنْ لَحْمٍ، مَا يَصْرِفُه ذَلِكَ عَنْ دِينِه» (1). وجاءَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (2). أنَّ بعضَ مُلُوكِ الكُفَّارِ، أخَذ قَوْمًا مِن المُؤْمِنِين، فحَفَر لهم أُخْدُودًا في الأرْضِ، وأوقَدُوا فيها نارًا، ثم قال: مَن لم يَرْجِعْ عن دَينِه فَألْقوه في النَّارِ. فجعَلُوا يُلْقُونَهم فيها، حتى جاءَتِ امرأةٌ على كَتِفِها صَبِيٌّ لها، فتَقاعَسَتْ مِن أجْلِ الصَّبِيِّ، فقال الصَّبِيُّ (3): يا أُمَّهِ، اصْبِرِي، فإنَّكِ على الحَقِّ. فذَكَرَهُم اللهُ تعالى في كِتابِه (4). ورَوَى الأثْرَمُ، عن أبي
(1) أخرجه البخاري، في: باب علامات النبوة في الإِسلام، من كتاب المناقب، وفي: باب من اختار الضرب والقتل. . . .، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 4/ 244، 9/ 25، 26. وأبو داود، في. باب في الأسير يكره على الكفر، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 44. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 109، 110، 111، 6/ 395.
(2)
سورة البروج 4 - 7.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه مسلم، في: باب قصة أصحاب الأخدود. . . .، من كتاب الزهد والرقائق. صحيح مسلم 4/ 2299 - 2301. والترمذي، في: باب ومن سورة البروج، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عبدِ اللهِ، أنَّه سُئِلَ عن رجلٍ يُؤْسَرُ، فيُعْرَضُ على الكُفْرِ، ويُكْرَهُ عليه، أَلَهُ أن يَرْتَدَّ؟ فكَرِهَه كَرَاهَةً شديدةً، وقال: ما يُشْبِهُ (1) هذا عندِي الذين (2) أُنْزِلَتْ فيهم الآيةُ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أولئِكَ كانوا يُرادُونَ على الكلمةِ، ثم يُتْرَكُونَ يعملون ما شاءوا، وهؤلاءِ يُريدُونَهم على الإِقامَةِ على الكُفْرِ، وترْكِ دِينِهم. وذلك أنَّ الذي يُكْرَهُ على الكلمةِ يقولُها ثم يُخَلَّى، لا ضَرَرَ فيها، وهذا المُقِيمُ بينَهم، يَلتزِمُ بإجابَتِهم إلى الكُفْرِ المُقامَ عليه، واسْتِحْلال المُحَرماتِ، وتَرْكَ الفَرائضِ والواجباتِ، وفِعْلَ المُنْكَراتِ والمَحْظُورَاتِ، وإن كان امْرأةً [تَزَوَّجُوها واسْتَوْلَدُوها](3) أوْلادًا كُفَّارًا، وكذلك الرَّجُلُ، وظاهرُ حالِهم المصيرُ إلى الكُفْرِ الحقيقِيِّ، والانْسِلاخُ مِن الدِّين الحَنِيفيِّ.
فصل: ومَن أصابَ حَدًّا ثم ارْتَدَّ ثم أسلمَ، أُقِيمَ عليه حَدُّه. وبهذا قال الشافعيُّ، سَواءٌ لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ في رِدَّتِه، أو لم يَلْحَقْ بها. وقال قَتادَةُ، في مسلم أحْدَثَ حَدَثًا، ثم لَحِقَ بالرُّومِ، ثم قدِرَ عليه: إن كان ارْتَدَّ دُرِئَ عنه الحَدُّ، وإن لم يَكُنِ ارْتَدَّ، أُقِيمَ عليه. ونحوَ هذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ، إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ؛ لأنَّ رِدَّتَه أحْبَطَتْ عَمَلَه،
= 12/ 238 - 242. والنسائي، في: باب سورة البروج، من كتاب التفسير. السنن الكبرى 6/ 510 - 512. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 17، 18.
(1)
في الأصل: «يشبهه» .
(2)
في م: «الذي» .
(3)
في الأصل: «تزوجها واستولدها» وفي م: «يزوجونها ويولدونها» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فأسْقَطَتْ ما عليه مِن حُقوقِ اللهِ تعالى، كمَن فَعَل ذلك في حالِ شِرْكِه [ولأنَّ «الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» (1). ولَنا، أنَّه حَقٌّ عليه فلم يَسْقُطْ برِدَّتِه، كحقوقِ الآدَمِيِّين. وفارَقَ ما فَعَلَه في شِرْكِه](2). فإنَّه لم يَثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّه. وأمَّا قولُه: «الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . فالمُرادُ به ما فَعَلَه في كُفْرِه؛ لأنَّه لو أرادَ ما قبلَ رِدَّتِه، أفْضَى إلى كَوْنِ الرِّدَّةِ التي هي أعْظَمُ الذُّنُوبِ، مُكَفِّرَةً للذُّنُوبِ، وأنَّ مَن كَثُرَتْ ذُنُوبُه، ولَزِمَتْه حُدُودٌ، يَكْفُرُ ثم يُسْلِمُ، فتُكَفَّرُ ذُنُوبُه، وتَسْقُطُ حُدُودُه.
فصل: فأمَّا ما (3) فَعَلَه في رِدَّتِه، فقد نَقَل مُهَنَّا عن أحمدَ، قال: سألتُه عن رجلٍ ارْتَدَّ عن الإِسلامِ فقَطَعَ الطَّرِيقَ، ثم لَحِق بدارِ الحَرْبِ، وأخَذَه المسلمونَ. فقال: تُقامُ عليه (4) الحدُودُ، ويُقْتَصُّ منه. وسألتُه عن رجلٍ ارْتَدَّ فلَحِقَ بدارِ الحَرْبِ، فقَتَلَ بها مُسلمًا، ثم رَجَع تائِبًا، وقد أسْلَمَ، فأخَذَه وَلِيُّه، يكونُ عليه القصاصُ؟ فقال: قد زال عنه الحُكْمُ؛ لأنَّه إنَّما قَتَل وهو مُشرِكٌ، [وكذلك إن سَرَق وهو مُشْرِكٌ] (5). ثم تَوَقَّف بعدَ ذلك. وقال: لا أقولُ في هذا شيئًا. وقال القاضي: ما أصابَ في رِدَّتِه مِن نَفْسٍ أو مالٍ أو جُرْحٍ، فعليه ضَمانه،
(1) أخرجه مسلم، في: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 199، 204، 205.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: م.
(4)
في الأصل، ر 3:«فيه» .
(5)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سَواءٌ كان في مَنَعَةٍ وحماعةٍ، أو لم يَكُنْ؛ لأنَّه الْتَزَمَ حُكْمَ الإِسلامِ بإقْرارِه به (1)، فلم يَسْقُطْ بجَحْدِه، كما لا يَسْقُطُ ما الْتَزَمَه عندَ الحاكمِ بجَحْدِه. قال شيخُنا (2): والصَّحِيحُ أنَّ ما أصابَه المُرْتَدُّ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحَرْبِ، أو كَوْنِه في جماعةٍ مُمْتَنِعَةٍ، لا يَضْمَنُه. لِما ذَكَرْناه فيما تَقَدَّمَ في (3) مَسألَةِ: وما أتْلَفَ من شيءٍ ضَمِنَه. وما فعلَه قبلَ هذا، أُخِذَ به، إذا كان ممَّا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ آدَمِيٍّ، كالجِنايَةِ على نفْسٍ أو مالٍ؛ لأنَّه في دارِ الإِسْلامِ، فلَزِمَه حُكْمُ جِنايَتِه، كالذِّمِّيِّ والمُسْتَأْمِنِ. وأمَّا إنِ ارْتَكَبَ حَدًّا خالِصًا للهِ تَعالى، كالزِّنَى وشُرْبِ الخَمْرِ، والسَّرِقَةِ، فإنَّه إن قُتِلَ بالرِّدَّةِ، سَقَط ما سِوَى القَتْلِ مِن الحُدُودِ؛ لأنَّه متى اجْتَمَعَ مع القَتْلٍ حَدٌّ، اكْتُفِيَ (4) بالقَتْلِ، وإن رَجَع إلى الإِسلام، أُخِذَ بحَدِّ الزِّنَى والسَّرِقَةِ؛ لأنَّه من أهلِ دارِ الإِسلامِ، فأُخِذَ بهما، كالذِّمِّيِّ والمُسْتَأْمِنِ. فأمَّا حَدُّ الخمرِ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لا يجبُ عليه؛ لأنَّه كافرٌ، فلا يُقامُ عليه حَدُّ الخمرِ، كسائرِ الكُفَّارِ. ويَحْتَمِلُ أن يجبَ؛ لأنَّه أقَرَّ بحُكْمِ الإِسلامِ قبلَ رِدَّتِه، وهذا من أحْكامِه، فلم يَسْقُطْ بجَحْدِه بعدَه.
فصل: ومَن ادَّعَى النُّبُوَّةَ، أو صَدَّقَ مَن ادَّعاها، فقد ارْتَدَّ؛ لأنَّ مُسَيلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فصَدَّقَه قَوْمُه، صارُوا بذلك مُرْتَدِّينَ، وكذلك
(1) سقط من: م.
(2)
في المغني 12/ 298.
(3)
سقط من: الأصل، ر 3.
(4)
في م: «انتفى» .
فَصْل: والسَّاحِرُ الَّذِي يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ، فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْوهِ، يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ، فَأَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بالْأَدْويَةِ، وَالتَّدْخِينِ، وَسَقْي شَيْءٍ يَضُرُّ، فَلَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَيُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ.
ــ
طُلَيحَةُ الأسَدِيُّ ومُصدِّقُوه. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى [يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ] (1) كُلُّهم يَزْعُمُ (2) أنَّه رَسُولُ الله» (3).
فصل: قال الشيخُ رحمه الله (والسَّاحِرُ الذي يَرْكَبُ المِكْنَسَةَ، فتَسِيرُ به في الهواءِ ونحوه، يَكْفُرُ ويُقْتَلُ. فأمَّا الذي يَسْحَرُ بالأدْويَةِ، والتَّدْخِينِ، وسَقْي شيءٍ يَضُرُّ، فلا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ، ولكنْ يُعَزَّرُ، ويُقْتَصُّ منه إن فَعَل ما يُوجِبُ القِصاصَ) وجملةُ ذلك، أنَّ السِّحْرَ عُقَدٌ
(1) في م: «يخرج ثلاثون كذابون» .
(2)
في م: «يدعى» .
(3)
أخرجه البخاري، في: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 4/ 243. ومسلم، في: باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل. . . .، من كتاب الفتن وأشراط الساعة. صحيح مسلم 4/ 2240. وأبو داود، في: باب في خبر ابن صائد، من كتاب الملاحم. سنن أبي داود 2/ 435. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 63. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 450.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ورُقًى وكَلامٌ يَتَكَلَّمُ به، أو يَكْتُبُه، أو يَعْمَلُ شيئًا يُؤَثرُ في بَدَنِ المَسْحُورِ، أو قَلْبِه، أو عَقْلِه، مِن غيرِ مُباشَرَةٍ له. وله حَقِيقةٌ، فمنه ما يَقْتُلُ، وما يُمْرِضُ، وما يَأْخُذُ الرجلَ عن امرأتِه فيَمْنَعُه وَطْأَها، ومنه ما يُفَوَّق به بينَ المرءِ وزَوْجِه، وما يُبَغِّضُ أحدَهما إلى الآخَرِ، أو يُحَبِّبُ بينَ اثْنَين. وهذا قولُ الشافعيِّ. وذَهَب بعضُ أصحابِه إلى أنَّه لا حَقِيقَةَ له، إنَّما هو تَخْيِيلٌ؛ قال اللهُ تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (1). وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: إن كان شيئًا يَصِلُ إلى بَدَنِ المَسْحُورِ، كدُخانٍ ونحوه، جازَ أن يَحْصُلَ منه ذلك، فأمَّا أن يَحْصُلَ المَرَضُ والمَوْتُ مِن غيرِ أن يَصِلَ إلى بَدَنِه شيءٌ، فلا يجوزُ ذلك؛ لأنَّه لو جازَ، لَبَطَلَتْ مُعْجِزاتُ الأنْبِياءِ عليهم السلام؛ لأنَّ ذلك يَخْرِقُ العاداتِ، فإذا جازَ من غيرِ الأنبياءِ، بَطَلَتْ مُعْجِزاتُهم وأدِلَّتُهمِ. ولَنا، قولُ الله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (2). يَعْنِي السَّواحِرَ اللَّاتي يَعْقِدْنَ في سِحْرِهِنَّ، ويَنْفُثْنَ عليه، ولولا أنَّ السِّحْرَ له (3) حقيقةٌ، لَما
(1) سورة طه 66.
(2)
سورة الفلق 1 - 4.
(3)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أُمِرْنا (1) بالاسْتِعاذَةِ منه. وقال اللهُ تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (2). إلى قولِه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} . ورَوَت عائشةُ، رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حتى إنَّه ليُخَيَّلُ إليه (3) أنَّه يَفْعَلُ الشئَ وما يَفْعَلُه، وأنَّه قال لها ذاتَ يوم:«أَشَعَرْتِ أنَّ اللهَ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيتُه؟ أنَّه أتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَال: مَطْبُوبٌ. قَال: مَنْ طَبَّهُ؟ قَال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ (4)، في جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، في بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ» (5). ذَكَرَه البخاريُّ، وغيرُه (6). جُفُّ الطَّلْعَةِ: وعاؤُها. والمُشَاطَةُ: الشَّعَرُ الذي يَخْرُجُ من شَعَرِ (3) الرَّأْسِ أو غيرِه إذا مُشِطَ. فقد أثْبَتَ لهم سِحْرًا. وقد اشْتُهِرَ بينَ النَّاسِ وجودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عن امرأتِه حينَ
(1) في م: «أمر» .
(2)
سورة البقرة 102.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في بعض روايات البخاري: «ومشاقة» . والمشاقة: ما يستخرج من الكتان.
(5)
في «البخاري» بئر ذروان، وكلاهما صحيح، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 14/ 177.
(6)
أخرجه البخاري، في: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق، وفي: باب السحر، وباب هل يستخرج السحر، من كتاب الطب، وفي باب قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} ، من كتاب الأدب، وفي: باب تكرير الدعاء، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 4/ 148، 7/ 177، 178 =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَتَزَوَّجُها، فلا يَقْدِرُ على إتْيانِها، وحَلُّ عَقْدِه، فيَقْدِرُ عليها بعدَ عَجْزِه عنها، حتى صارَ مُتَواتِرًا لا يُمْكِنُ جَحْدُه. ورُوِيَ من أخْبارِ السَّحَرَةِ ما لا يَكادُ يُمْكِنُ التَّواطُؤُ على الكَذِبِ فيه. وأمَّا إبْطالُ المُعْجِزَاتِ، فلا يَلْزَمُ مِن هذا؛ لأنَّه لا يَبْلُغُ ما تَأْتِي به الأنبياءُ عليهم السلام، وليس يَلْزَمُ أن يَنْتَهِيَ إلى أن تَسْعَى العَصَا والحِبالُ.
فصل: وتَعْلِيمُ السِّحْرِ وتَعَلُّمُه حَرامٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. قال أصحابُنا: ويَكْفُرُ السَّاحِرُ بتَعَلُّمِه وفِعْلِه، سَواءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَه أو إباحَتَه. ورُويَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يَكْفُرُ، فإنَّ حَنْبَلًا روَى عنه، قال: قال عَمِّي في العَرَّافِ والكاهِنِ والسَّاحِرِ: أرَى أن يُسْتَتابَ مِن هذه الأفَاعِيلِ كلِّها، فإنَّه عندِي في معْنى المُرْتَدِّ، فإن تابَ وراجَعَ -يعني- خُلِّيَ سَبِيلُه. قلتُ له: يُقْتَلُه؟ قال: لا، يُحْبَسُ (1)، لَعَلَّه يَرْجِعُ (2). قلتُ له: لِمَ لا تَقْتُلُه؟ قال: إذا كان يُصَلِّي، لعلَّه يتوبُ ويرجعُ. وهذا يَدُلّ على أنَّه لم يُكَفِّرْه؛ لأنَّه لو كَفَّرَه لقَتَلَه. وقولُه: في معنى المُرْتَدِّ. يعني في الاسْتِتَابَةِ. وقال أصحابُ أبي حنيفةَ:
= 8/ 22، 23، 103. ومسلم، في: باب السحر، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1719 - 1721. وابن ماجه، في: باب السحر، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1173. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 57، 63، 96.
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: «يراجع» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إنِ اعْتَقدَ أنَّ الشَّياطِينَ تَفْعَلُ له ما يَشاءُ، كَفَر، وإنِ اعتقدَ أنَّه تَخْيِيلٌ، لم يَكْفُرْ. وقال الشافعيُّ: إنِ اعْتَقَدَ ما يُوجبُ الكُفْرَ، مثلَ التَّقَرُّبِ إلى الكواكبِ السَّبْعَةِ، أنَّها تَفْعَلُ ما يَلْتَمِسُ، أوَ اعْتَقَدَ حِلَّ السِّحْرِ، كَفَر؛ لأنَّ القرآنَ نَطَق بتَحْرِيمِه، وثَبَت بالنَّقْلِ المُتواترِ والإِجْماعِ، وإلَّا فُسِّقَ ولم يُكَفَّرْ؛ لأنَّ عائشةَ، رضي الله عنها، باعَتْ مُدَبَّرَةً لها سَحَرتْها، بمَحْضَرٍ مِن الصحابَةِ (1). ولو كَفَرَتْ لصَارَتْ مُرْتَدَّةً يجبُ قَتْلُها، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُها، ولأنَّه شيء يَضُرُّ بالنَّاسِ، فلم يَكْفُرْ بمُجَرَّدِه كأذاهم. ووَجْهُ قولِ الأصحابِ قولُ اللهِ تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . إلى قولِه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . وقولُه تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ} (2). أي ما كان ساحِرًا كَفَر بسِحْرِه. وقولُهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . أي لا تَتَعَلَّمْه فَتَكْفُرَ بذلك، وقد ذَكَرْنا حديثَ هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبِيه، عن عائشةَ، أنَّ السَّاحِرَةَ سأَلَتْ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهم مُتوافِرُونَ، هل لها من تَوْبَةٍ؟ فما أفْتاها أحَدٌ (3)
فصل: وحَدُّ السَّاحِرِ القَتْلُ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ
(1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 183. والبيهقي، في: باب من لا يكون سحره كفرا. . . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 137.
(2)
سورة البقرة 102.
(3)
تقدم تخريجه في صفحة 140.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عمرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدَبِ بنِ عبدِ اللهِ، وجُنْدَبِ بنِ كَعْبٍ، وقَيسِ بنِ سَعْدٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. ولم يَرَ الشافعيُّ عليه القتلَ بمُجَرَّدِ السِّحْرِ. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ، ورِوايَة عن أحمدَ وقد ذَكَرْناها. ووَجْهُها ما ذَكَرْنا مِن حديثِ عائشةَ في المُدَبَّرَةِ التي سَحَرَتْها، فبَاعَتْها، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بإحْدَى ثَلَاثٍ، كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، أو زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغَيرِ حَقٍّ» (1). ولم يَصْدُرْ منه أحَدُ الثلاثةِ، فوَجَب أن لا يَحِلَّ دَمُه. ولَنا، ما روَى جُنْدَبُ بنُ عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:«حَدُّ السَّاحِرِ، ضَرْبةٌ بِالسَّيفِ» (2). قال ابنُ المُنْذِرِ (3): رَواه إسْماعيلُ بنُ مسلمٍ، وهو ضَعِيفٌ. ورَوَى. سعيدٌ، وأبو داودَ، في «كِتَابَيهِمَا» (4)، عن بَجَالةَ، قال: كنتُ كاتِبًا لجَزْءِ (5) بنِ مُعاويةَ، عَمِّ
(1) تقدم تخريجه في 3/ 31.
(2)
أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في حد الساحر، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 246. والدارقطني، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطني 3/ 114. والببيهقى، في: باب تكفير الساحر وقتله، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 136. وهو ضعيف. انظر ضعيف سنن الترمذي 244.
(3)
انظر الإشراف 3/ 268.
(4)
أخرجه سعيد، في: باب جامع الطلاق، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 90، 91. ولم نجده في سنن أبي داود. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 179، 180.
والبيهقي، في: باب تكفير الساحر وقتله. . . .، من كتاب القسامة، وفي: باب ما جاء في الذميين. . . .، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 136، 247. وعبد الرزاق، في: باب كل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 179، 180، 181. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الساحر. . . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 136.
(5)
في الأصل: «لجبر» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأحْنَفِ بنِ قَيسٍ، إذ جاءَ كتابُ عمرَ قبلَ مَوْتِه بسَنَةٍ: اقْتُلُوا كلَّ ساحِرٍ. فقَتَلْنا ثلاثَ سَوَاحِرَ في يومٍ. وهذا اشْتُهِرَ فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، وقتلتْ حَفْصَةُ جارِيةً لها سَحَرَتْها (1). وقَتَل جُنْدَبُ بنُ كَعْبٍ ساحِرًا كان يَسْحَرُ بينَ يَدَيِ الوَليدِ بنِ عُقْبَةَ (2). ولأنَّه كافِرٌ فيُقْتَلُ؛ للخَبَرِ المَرْويِّ.
فصل: والسِّحْرُ الذي ذَكَرْنا حُكْمَه، هو الذي يُعَدُّ في العُرْفِ سِحْرًا (3)، مثلَ فِعْلِ لَبِيدِ بنِ الأعْصَمِ، حينَ سَحَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ. ورَوَينا في «مَغازِي الأُمَويِّ» (4) أنَّ النَّجاشِيَّ دَعَا السَّواحِرَ فنَفَخْنَ في إحليلِ عُمارةَ بنِ الوَليدِ، فهامَ مع الوَحْشِ، فلم يَزَلْ معها إلى إمارَةِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، فأمْسَكَه إنْسانٌ، فقال: خَلِّنِي وإلَّا مِتُّ. فلم يُخَلِّه، فماتَ من ساعَتِه. وبَلَغَنا أنَّ بعضَ الأُمَراءِ أخذَ ساحِرَةً، فجاء زَوْجُها كأنَّه مُحْتَرِقٌ، فقال: قُولُوا لها تَحُلُّ عَنِّي. فقالت: ائْتُونِي بخُيوطٍ وبابٍ. فأتَوْها به، فجَلَسَتْ على البابِ، وجعلَتْ تَعْقِدُ، فطارَ بها البابُ، فلم يقدرُوا عليها. فهذا وأمْثالُه مثلُ أن يَعْقِدَ الرجلَ المُتَزَوِّجَ، فلا يُطِيقُ وَطْءَ امرأتِه، هو السِّحْرُ المُخْتَلَفُ في حُكْمِ صاحِبِه.
(1) تقدم تخريجه في 26/ 175.
(2)
أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 181، 182. والبيهقي، في: باب تكفير الساحر وقتله، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 136.
(3)
بعده في الأصل: «بين» .
(4)
وأخرجه أبو نعيم، في: دلائل النبوة 1/ 243 - 246. والبيهقي، في: دلائل النبوة 2/ 285 - 296.