الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
الاجتهاد كان جائزا للرسول صلى الله عليه وسلم عند الشافعي وأصحابه، والإمام أحمد، وأبي يوسف، وعبد الجبار وأبي الحسين البصري.
فقيل: علم وقوع التعبدية، وقيل: لم يعلم ذلك، وقال أبو علي وأبو هاشم: بعدمه.
وقيل: به في الآراء والحروب - فقط - وتوقف في الجمهور.
لنا:
(أ){فاعتبروا} [الحشر: آية 2]، وتناوله له أولى، لقوة البصيرة، والاطلاع على شرائط القياس، و - حينئذ - لو لم يقع منه لقدح في عصمته ومن لم يقل به نزل الأمر على الإباحة، لأنه حقيقة فيها، أو تنزيلا للفظ على أقل مفهوماته.
(ب) قوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: آية 105] وهو عام أو مطلق في الإرادة بالتنصيص وبالقياس، فيحمل عليهما دفعا للتخصيص والتقييد.
(ج) قوله تعالى: {وشاورهم} [آل عمران: آية 159] وهو في غير ما نص فيه، إذ لا فائدة لها فيه، وحمله على الآراء والحروب والأمور الدنيوية - تقييد خلاف الأصل.
(د) قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: آية 79] ومثله لا يتسعمل فيما نص فيه، فهو في القياس - وحينئذ - يلزم جوازه في حق الرسل، لعدم القائل بالفصل. وفيه نظر.
(هـ) قوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي"،
ومثله لا يقال فيما كان بالوحي.
وروى أنه عليه السلام كان يقضي في القضايا والقرآن ينزل، والحكم بغيره.
وفيهما نظر؛ لأن امتناعه في الوحي الغير الصريح، وما يلزم من الصريح ممنوع، ولا يلزم من الحكم بغير القرآن الحكم بالقياس، لاحتمال أن يكون الوحي غير متلو.
والتمسك بقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الضاحي"، - ضعيف جدا، لجواز أن يكون كل واحد منهما بوحي غير متلو، ويؤكده: أن النسخ بالقياس غير جائز، أو وإن جوز ولكنه خلاف الغالب.
(و) أن عند الظن بمقدمتي القياس يحصل ظن أن مثل حكم الأصل حكم الله في الفرع، وترجح الراجح متعين في بداية العقول.
وأورد: أن تعينه عند القدرة على الأرجح - ممنوع، وعند عدمها لا يضر.
(ز) بعض الأحكام مضافة إليه كالسنن، وذلك يشعر بكونه من اجتهاده، إذ لا يقال: مذهب الشافعي وجوب الصلوات الخمس.
وأورد: بمنع تعينه طريقا إليه، فإنه يجوز ذلك، لأنه لم يشرع لغيره، وإنما لا يضاف إلى الشافعي ما ذكر، لعدم الاختصاص به، فإنه لو اختص به: يضاف إليه، وإن كان بنص صريح.
(ح) العمل بالاجتهاد أكثر ثوابا، للمشقة فيه، وللحديث، ولأنه يظهر فيه إثر دقة النظر، وجودة الخاطر، فكان أولى به من أمته، واختصاصه بفضيلة الوحي لا يمنع من مشاركته في أخرى. لا يقال: إنه يقتضي أن لا يعمل الرسول إلا: به؛ لأن ذلك غير ممكن، إذ العمل بالاجتهاد مشروط بالتنصيص على حكم الأصل، فكان العمل به في كل الأحكام ممتنعا.
فإن قلت: مقتضى الدليل ذلك، لكن ترك العمل به فيه للإجماع، فيبقى فيه غيره على أصله، ولأنه وإن ترجح على الحكم بالوحي من "هذا الوجه لكن يرجح" ذلك عليه بوجه أخر، فلو اتصف به في الأكثر - لزم فوات تلك الفضائل في الأكثر، وهذا - وإن كان آت في أصل المشاركة لكن فيه فوات فضيلة نوعية راجحة بوجه ما مرجوحا بوجه آخر، وأنه أشد محذورا من فاته بالنسبة إلى أكثر الأفراد، ولهذا قد يشتغل الإنسان بفن مرجوح من العلم، مع اتصافه بفن منه راجح، كي لا يفوته ذلك النوع من الفضيلة، لكن لا يجعل دوام اشتغاله فيه، كدوامه بالراجح.
(ط)"العلماء ورثة الأنبياء"، وإنما يرثون منهم الاجتهاد، أن لو كان لهم ذلك، وتقييده بأركان الشرع، خلاف الأصل.
وزيف:
بأنه لا يقتضي أن ما للوارث فموروث، بل إن ما للموروث: فمورث. فإن قلت: معناه: أن ما ختصوا به من العلم فهو وراثة منهم. قلت: يمنع ذلك، إذ قوله:(زيد وارث عمرو) لا يقتضي أن جميع ما لزيد من المال: فهو وراثة منه، بل عكسه، و - حينئذ - الاستدلال به دور، لأنه يتوقف على أن لهم الاجتهاد، فإثبات ذلك به دور، ثم اللازم منه حصول العلم به لهم، دون جواز العمل به، وفيه النزاع.
(ي) أنه وقع منه: إذ روى أنه قال: في مكة: "لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها"، فقال: العباس: إلا الإذخر، فقال: عليه السلام "إلا الإذخر"، ومعلوم أن الوحي لم يتنزل عليه، لعدم أمارته، فكان الاجتهاد.
وأمر يوم فتح مكة (بقتل مقيس بن جبابة، وابن أبي سرح، وإن وجدا متعلقين
بأستار الكعبة)، مع تقدم قوله:"منت تعلق بأستار الكبة فهو آمن"، ثم إنه عفى عن أبي سرح بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كان ذلك بالنص: لما عفى، ولأن أمارت الوحي غير ظاهرة.
وقال: "لا هجرة بعد الفتح"، ثم قبل شفاعة العباس في مجاشع بن مسعود، فقال:"أشفع عمي، ولا هجرة بعد الفتح"، ولم يكن لوحي، لما سبق.
واجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر، وكان يراجعهم في ذلك، حتى عوتب على
ذلك، قال الله تعالى:{وما كان لنبي أن يكون له أسرى} [الأنفال: آية 67]، ولو كان بالوحي لما كان كذلك، وعوتب على الإذن بقوله تعالى:{عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: آية 43]، هو من غير وحي، لما سبق.
وراجعه بعض الصحابة في منزل نزله، فقال:(إن كان هذا وحيا فالسمع والطاعة، وإلا: فليس هو بمنزل مكيدة)، فرحل عنها ولو كان وحيا لما رحل.
للمانع:
(أ) قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: آية 3]، حصر نقطقه فيما يوحى إليه، وقوله:{أتبع إلا ما يوحى إلي} [الأنعام: آية 50].
(ب) أنه يجوز مخالفة ما صدر عن الاجتهاد، لأنه من لوازمه وتجوز مراجته فيه، لما سبق، ولا يكفر مخالفه، إذ المجتهد المخطئ له أجر واحد، وشيء منه غير ثابت في الأحكام الشرعية، للإجماع.
ولقوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} [النساء: آية 65]، فليس فيها ما هو بالاجتهاد.
(ج) لو كان متعبدا به لكان عاملا به، وإلا: لقدح في عصمته، ولو كان كذلك لأظهره، كي لا يوهم شرعيته بطريق الوحي، لأنه الأكثر، فيكون مغريا على الجهل، ولكي يقتدي به كما فعله في غيره، ولما لوقف في الأحكام إلى نزول الوحي، لعلمه بحكم العقل، وطريق القياس وإلا: لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة، إذ القدرة على الشيء كحصوله، كالقدرة على تحصيل الماء، كحصوله في عدم جواز التيمم، واللازمان منتفيان إذ لم ينقل منه إظهاره في شيء من الأحكام وتوقف في كثير من المسائل: كالظهار، واللعان، فينتفي الملزوم.
(د) لو جاز له جاز لجبريل، و - حينئذ - لا يعرف إنما نزل به نص الله تعالى أو اجتهاده.
(هـ) تجويزه له يورث التهمة والنفرة، ويخل بمقصود البعثة.
(و) شرطه: عدم النص، وهو مفقود في حقه عليه السلام لتوقع نزول الوحي في كل وقت، وهو كوجدان النص في حقنا، فما لم يحصل له اليأس منه، لم يجز له العمل به.
(ز) أجمعنا على أنه لا يجوز له أن يخير بما لا يعلم صدقه، فإن غلب على ظنه ذلك، فكذا لا يجوز له أن يحكم بما لا يعلم حقيقته، وصوابه وإن غلب على ظنه.
وأجيب:
عن (أ): بأنه رد لقهولهم: {افتراه} [يونس: آية 38، هود: آية 13، الأنبياء: آية 5]، ثم إن اجتهاده من فعله، فلم يتناوله النص، ثم دل الوحي على العمل به: كان العمل به عملا بالوحي، وهذا
والأول جواب عن النص الثاني.
وعن (ب): أن جواز المخالفة والمراجعة وعدم التكفير مطلقا - ممنوع، بل ذلك في الاجتهادي الظني، وفيما يتعلق بالآراء والحروب. والحكم الاجتهادي - وإن كان مظنونا - لكن الرسول لما أفتى به صار قطعيا، لا تجوز مخالفته، ويكفر مخالفه، كالاجتهادي إذا صار مجمعا عليه.
وحديث الأجر محمول على الاجتهاد الظني بدليل عدم ثبوت مقتضاه فيما صار مجمعا عليه، والمراجعة منقولة في الآراء والحروب، دون الاحكام.
وعن (ج): بمنع أنه يجب إزالة مثله، وقطع الملكف في غير محله تقصير منه، ثم إنما يجب ذلك فيما لا دليل عليه، فأما معه فلا، كما في إنزل المتشابهات، وما ذكرنا دليل عليه. ولا عبرة بالإيهام الناشئ من آحاد الصور، فإن التكليف بمعرفة ذلك غير واقع.
ثم لا نسلم أنه لم يظهره، فلعله أظهره، لكن لم ينقل، إذ ليس مما توافر الدواعي على نقله، أو لندرته، ثم إنه نقل في بعضه، كما في حديث عمر في قبلة الصائم، والخثعمية. فإنه بين فيهما طريق الاجتهاد، فلعله كان طريق معرفة الحكم، فيهما، فلما سئل أجاب عنهما بطريق اجتهاده.
وتوقفه فيما لا سبيل للاجتهاد فيه كالظهار واللعان، ثم التوقف لعله بمقدار ما يعرف أنه لا ينزل فيه وحي، فإنه شرطه العجز عن وجدان النص، و - حينئذ - لم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وعن (د): أنه قياس خال عن الجامع، ثم الفرق ظاهر، ثم إنه مدفوع إجماعا.
وعن (هـ): أنه إنما يجوز له بوحي من الله، فلا تهمة ولا نفرة، سلمنا، لكنها زائلة بالمعجزة.
وعن (و): بمنع أن نزوله في حقه كوجدانه في حقنا، إذ هو معدوم ولا يترتب عليه شيء من الأحكام، كالنسخ وغيره. بخلاف الموجود الذي لم يوجد. ثم لا يشترط في اليأس من نزوله القطع، بل يكفي فيه الظن - فلعله عليه السلام ما كان يجتهد في واقعة حتى يغلب
على ظنه عدمه فيها.
وعن (ز) بمنع أنه لا يعلم حقية الحكم المجتهد فيه وصوابه، وسنده غير خاف.
ثم الفرق إجمالا: أنه لا يجوز للأمة الاجتهاد دونه، والافتراق في الحكم ديل على الافتراق في الحكمة، وتفصيلا: أن الحكم الشرعي يختلف باختلاف الناس والأحوال، فالحكم المجتهد فيه يعلمه المجتهد، أنه حكم الله في حقه، وأنه حق بالنسة إليه - وإن قيل: المصيب واحد - بخلاف الصدق والكذب، فإنهما أمران حقيقيان لا يختلفان باختلاف الناس والأحوال فلا يؤمن فيه من الكذب، فلم يجز الإقدام عليه.
فرع:
إذا جوز له الاجتهاد فلا يجوز أن يخطئ. والأكثر على تجويزه. لكن لا يقر عليه.
لنا:
(أ) أنه غض من منصبه، فلا يجوز.
(ب) اجتهاده لتشريع الأحكام بإبلاغها، ولم يجز فيه الخطأ وفاقا، فكذا هذا.
واستدل بأنا مأمورون باتباعه في الحكم، لقوله تعالى:{فلا وربك} [النساء: آية 65] وذلك ينافي كونه خطأ. هو ضعيف، لأنه إذا لم يقر عليه امتنع الأمر باتباعه فيه.
وقيس على مجموع الأمة، بأنه معصوم في اجتهاده، بل أولى، لأن عصمتهم مستفادة من عصمته، ولأنه أكرم عند الله منهم. وفيه نظر، للفرق، فإن عدم التقرير في حقهم غير مقصور، لانقطاع الوحي، فيبقى الخطأ شرعا دائما، بخلاف الرسول، فإن هذا المحذور زائل عن اجتهاده بتقدير كونه خطأ.
لهم:
(أ){عفا الله عنك} ، وقوله في أسارى بدر:{لولا كتاب من الله سبق} [الأنفال:
آية 68]، وقوله عليه السلام (لو نزل عذاب من السماء لما نجا إلا ابن الخطاب)، يدل على خطئه في اجتهاده، وقوله:{إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف: آية 110]- دل على أنه كغيره في الوحي.
(ب) قوله عليه السلام (إنكم لتختصمون لدي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ بهن فإنما أقطع له قطعة من النار). يدل على جواز قضائه لأحد بغير حقه.
(ج) أنه يجوز غلطه في فعله، فكذا في قوله كغيره.
وأجيب:
عن (أ) بمنع أنه كان عن اجتهاد، ثم هو في الآراء والحروب والمصالح الدنيوية، والنزاع في
الأحكام. ثم بمنع أن العفو لا يكون إلا: عن خطأ، فلم لا يجوز أن يكون لترك الأولى؟ فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهو الجواب عن الآية الثانية. وعن الآية الثالثة: أن العصمة من لوازم الوحي إليه، فلم قلت: إنه ليس كذلك؟
وعن (ب): أنه لا تعلق له بالمتنازع فيه.
وعن (ج) بمنع حكم الأصل، ثم إنه قياس بلا جامع، ثم الفرق بين القول والفعل: أنه لا يجوز الخطأ في القول فيما يتعلق في الإبلاغ عن الله تعالى والتشريع وفاقا، ويجوز ذلك في الفعل، والافتراق في الحكم يدل على الافتراق في الحكمة.