الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب ما جاء في القراءة خلف الإمام]
اعلم أن مسألة القراءة خلف الإمام من أدق مسائل فروع الدين وأهم ما تنازعت فيه فقهاء المجتهدين وليس مقصودنا في إيراد هذه المسألة ههنا إلا إثبات ما هو حق لا يرتاب فيه وإن لم يقبله مكابرة وعنادًا مجادل أو سفيه فنقول إن في عدم قراءة المؤتم خلف الإمام وقت ما هو يقرأ اتفاقًا (1) بينهم إنما الخلاف في القراءة وقت سكتات الإمام وكذلك هم
(1) المراد اتفاق الجمهور وإلا ففيه خلاف يسير، قال ابن قدامة: المأموم إذا سمع قراءة الإمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ، الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم «مالي أنازع القرآن فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر» ، والجملة أن المأموم إذا كان يسمع قراءة الإمام لم تجب عليه القراءة ولا تستحب عند إمامنا والزهري والثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك وإسحاق وأحد قولي الشافعي والقول الآخر له بقرأ فيما جهر فيه الإمام وأورد ابن العربي على عموم القراءة خلف الإمام فقال يقال للشافعي عجبًا لك كيف يقدر المأموم في الجهر على القراءة أينازع الإمام أم يعرض عن استماعه أم يقرأ إذا سكت فإن قال يقرأ إذا سكت قيل له فإن لم يسكت الإمام وقد أجمعت الأمة على أن سكوت الإمام غير واجب متى يقرأ ويقال له أليس في استماعه لقراءة الإمام قراءة منه وهذا كاف لمن أنصفه وفهمه وقد كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام وكان أعظم الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
متفقون على أنه لا يقرأ غير الفاتحة وهو السورة حين هو مؤتم إلا ما ذهب شرذمة قليلة لا يعبأ بها إذ لم ينتظموا في سلك الفقهاء فإنهم تقولوا بقراءة السورة أيضًا خلف الإمام، وفي المسألة أربعة مذاهب:
الأول ما اختاره الإمام الهمام قدوة العلماء الأعلام من عدم جواز قراءة الفاتحة للمقتدي حين الاقتداء في الصلاة الجهرية والسرية كلتيهما.
والثاني مذهب شافع العصاة رحمه الله تعالى من وجوب قراءتها في كلتيهما.
والثالث مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى من عدم الوجوب في الجهرية والوجوب (1) في السرية.
والرابع ما ذهب إليه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى من عدم الوجوب من كلتيهما والجواز غير منفي عنده.
وأما إذا نظر إلى ما قدمنا من مذهب الشرذمة الغير المعتد بها فالمذاهب خمسة ولو نظر إلى ما روى عن محمد (2) من أنه استحسن القراءة خلف الإمام تصير المذاهب ستة، وأما عند الشيخين فالقراءة محرمة (3) لما فيها من الوعيد (4)
(1) ما حكى الشيخ من الوجوب في السرية عند مالك لعله مأخوذ من كلام بعض المالكية فإنهم قالوا بذلك ومرجح مذهب الإمام مالك كما في الأوجز عدم الوجوب في كلتيهما، نعم أحبها في السرية وكرهها في الجهرية وكذلك ما حكى عن الحنابلة من عموم الجواز خلاف فروعهم بل فيها المنع عن القراءة عند الجهر إلا لعذر.
(2)
كما حكاه عنه صاحب الهداية وغيره، وفي الدرالمختار ما نسب لمحمد ضعيف.
(3)
أي مكروه تحريمًا، ففي الدارالمختار: المؤتم لا يقرأ مطلقًا فإن قرأ كره تحريمًا وتصح في الأصح قال ابن عابدين منع المؤتم القراءة مأثور عن ثمانين نفرًا من كبار الصحابة منهم المرتضي والعبادلة الأربعة وقد دون أهل الحديث أساميهم.
(4)
ففي التنسيق عن كشف الأسرار عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، انتهى، وفي الأوجز روى عن ابن مسعود بألفاظ مختلفة ففي رواية قال أنصت فإن في الصلاة شغلاً سيكفيك الإمام، وفي أخرى عنه ليت الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابًا وروى عن علقمة بن قيس أن أعض على جمرة أحب إلي من أن أقرأ خلف الإمام وعن سعد بن أبي وقاص وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة وعن عمر ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرًا، قال صاحب التنسيق هذا سند جيد لا كلام فيه ثم رد ما نقل عنه بخلافه وغير ذلك من الآثار في الباب.
ولقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} والذي أجاب العلماء المتقدمون من لزوم تخصيص الآية بالخبر مشهور مستفيض لسنا محتاجين إلى ذكره والمقصود ههنا الجواب عما استدل به الخصم على مرامه بتقرير لم يسبق إليه بعون الله وحسن توفيقه فيحمده من له فهم مستقيم وقلب غير عنيد إذا ألقى إلينا سمعه وهو شهيد، قال الترمذي الحافظ رحمه الله تعالى: حدثنا هناد قال حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق إلخ قالت الأحناف: محمد بن إسحاق قال فيه مالك كذاب وكذلك بعض من سواه طعن فيه فكيف يستند بحديثه والذي توبع عليه به وهو نافع بن محمود رجل مجهول (1) ولا يخفى عليك أن طعنهم في محمد بن
(1) على ما جزم به ابن عبد البر وأن ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب مستور.
إسحاق غير مقبول كيف وقد أخذ البخاري منه في بعض ما أدرجه في صحيحه ووثقه آخرون، فالحق أن الحديث وإن لم يبلغ منزلة الصحة لكلام من كلم منهم فيمن كلم منهم إلا أن حسنه لا ينكر وكذلك طعنهم في الإمام وتضعيف روايته التي رواها في الإنصات كما فعله الدارقطني لغو.
قوله [فثقلت عليه القراءة] قالت الشافعية هذا الثقل كان لما أن الرجل كان يصلي جهرًا فثقل قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تعلم أن مثل هذا القول بعيد ممن له أدنى مسكة في علم الحديث فكيف بهذه الجهابذة النقاد أو لم يروا أن مثل ذلك كيف يتصور في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هو يقرأ القرآن جهرًا إذ الواقعة كانت في صلاة الصبح أنهم يقرأون بأنفسهم ولا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أنزل، كيف وكانوا لا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فيما دون الصلاة ووقت سكوته أو لم ير هؤلاء الذين حملوا الثقل على هذا السبب إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من صلاته إني أراكم تقرأون وراء إمامكم، وفي رواية هل قرأ منكم أحد فهذا هو الكلام وقت هذا التيقن الذي يلزم من قراءة المؤتم جهرًا بل الوجه في ذلك أن لإكمالهم السنن والفرائض كان تأثير في قلب النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في مقام آخر لعلكم لا تحسنون الطهارة فإني (1) فكان لارتكابهم القراءة وقد نهوا عنها دخل في التأثير باطني أو لما أنهم كانوا حين يقرأون يهذون (2) هذا طلبًا لإتمام الآية قبل أخذه (3) صلى الله عليه وسلم في القراءة كما ورد في هذه الرواية بإسناد آخر
(1) بياض في الأصل ههنا والحديث الذي أشار إليه الشيخ ما في المشكاة أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فقرأ ((الروم)) فالتبس عليه فلما صلى قال ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور وإنما يلبس علينا القرآن أولئك، ففيه أن قلبه الأطهر صلى الله عليه وسلم ينكشف فيه أحوال الرجال وهذا مما لا ينكر عن مشايخ السلوك فكيف عن مركز دوائرهم.
(2)
أي يسرعون في القراءة وهو يورث الرجة الخفية.
(3)
يعني يقرأون في سكتاته صلى الله عليه وسلم ويهذون لإتمام الآية قبل أخذه صلى الله عليه وسلم في آية أخرى.
فأحس النبي صلى الله عليه وسلم حسيسهم فاشتبه عليه قرآنه أو لأنه لما علم بحسيس صوتهم في القراءة اغتاظ لمخالفتهم أمره في الانتهاء عن القراءة خلف الإمام فلشدة موجدته عليهم في ذلك اشتبهت عليه قراءته أو لما أثر رغبتهم عن قراءته لشغلهم بقراءتهم في توجهه إلى قراءته فإن لرغبة السامعين دخلاً في انبعاث الإمام القارئ على القراءة.
قوله [قول فانتهى الناس] أي الذين كانوا يقرأون حين يصلون خلف الإمام ومما ينبغي أن يعلم أن أول ما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة إنما هي صلاة الليل كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} إلخ وكان الأمر على ذاك ما شاء الله تعالى ثم نسخت في حق المقدار حين نزلت آي أواخر السورة المذكورة وهي قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} وبقى مطلق أمر صلاة التهجد عل فرضيته ولو آية (2) أو سورة قصيرة أو طويلة وشاع فيما بينهم في ذلك طريقة أداء الصلوات الخمس ثم لما فرضت الصلوات الخمس وكانوا من قبل ذلك يصلي كل منهم لنفسه ووجبت الجماعة نزل قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} فانتهوا بذلك عما كانوا عليه من قراءة كل ما اعتادوا ذلك في صلاة التهجد وبذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستقر الأمر على ذلك وكان الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن، وكذلك لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
(1) وكان نزولها في مبدأ الوحي لما جاءه الوحي في غار حراء ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال زملوني زملوني ثم نسخر بآخر السورة وكان بينهما سنة كما في حديث عائشة وابن عباس عند أبي داؤد فبقى مطلق التهجد فرضًا ثم نسخ بالصلوات الخمس في الإسراء كما في الجلالين والقسطلاني وغيرهما.
(2)
أي ولو يقرأ فيها آية أو سورة قصيرة قال الرازي قيل يقرأ مائة آية، وقيل خمسين آية ومنهم من قال بل السورة القصيرة كافية لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعًا للحرج وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها، انتهى.
مصداقه المنفرد والإمام لا المقتدي لما ورد في الرواية الصحيحة من زيادة لفظ سورة وفي رواية وزيادة إلى غير ذلك، وزاد هذه اللفظة معمر وشعبة (1) أو لا يرد جلالة قدرهما في ذلك الفن عنهما وصمة السهو وتهمة النسيان كما أوزراهما به المخالفون، وليت شعري ما الذي اضطرهم إلى مخالفة قاعدهم المسلمة من أن زيادة الثقة معتبرة إذا لم تكن مخالفة لما هو أوثق منه وههنا كذلك إذ لا مخالفة بشيء في قولهم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بقولهما لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها وفي رواية لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا. وفي رواية لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن فعلم أن المقصود بذلك ليس هو نفي أصل الصلاة وأن الفاتحة والسورة مساويتان في الوجوب وأن المراد بذلك هو المنفرد دون المؤتم وعليه يحمل ما ورد في ذلك من الروايات الخالية عن هذه الزيادة فإن الراوي كثيرًا ما يختصر رواية والآخر يأتي بها أتم أو ليس لمن يخالفنا من سبيل إلى موافقتنا حتى يستخلص من ورطة مخالفة هذه الروايات الصريحة الصحيحة مع أنهم خصصوا (2) من عموم حديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب من أدرك الإمام وهو راكع فلنا
(1) هكذا في الأصل وكتب الشيخ على هامش كتابه مضببًا عليه لفظه بدله لكنه لم يذكر البدل بل ترك البياض، والظاهر عندي أنه أراد محله كتابة سفيان ابن عيينة فإن المشهور في الشروح هو متابعة لمعمر وهو أيضًا من حفاظ الحديث فكلام الشيخ الآتي مستقيم يترتب على معمر وسفيان أيضًا تابعهما على هذه الزيادة صالح والأوزاعي وعبد الرحمن بن إسحاق وغيرهم كما حكاه الشيخ في البذل.
(2)
فإنهم متفقون على أن مدرك الإمام في الركوع مدرك للركعة وإن لم يقرأ الفاتحة، قال ابن عبد البر هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق، انتهى ما في الأوجز ولا يلتفت إلى من خالفهم فإنهم فوارس هذا الميدان.
فلنا أن تخص منها غيره بالقياس أو بالرواية أو بالآية ولو سلم عموم قوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» عممنا القراءة عن الحقيقية والحكمية والمتقدي قارئ بقراءة إمامه فقد روى عن أبي هريرة (1) نفسه وهو راوي رواية قراءة الفاتحة ما يدل على ذلك حيث قال من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له، وعلى هذا يحمل ما ورد من الألفاظ المختلفة ففي بعضها فهي خداج غير تمام إلى ما سوى ذلك ومصداقه إذًا ما لا قراءة فيه لا حقيقة ولا حكمًا، ثم لما نهى الله تعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرءوا خلف إمامهم تفرقوا فيه، فمنهم من انتهى عن ذلك مطلقًا كما دلت عليه رواية عبد الله (2) بن مسعود رضي الله عنه، ومنهم من اجتهد فقال إن المنع إنما هو طلبًا للاستماع فلا علينا في أن نقرأ فاتحة الكتاب وقت سكتات الإمام وليس المراد بالقراءة ههنا قراءة السورة كما يظهر بالتتبع والتفحص والتعمق والتأمل في روايات هذه القصة فاستمر بذلك على قراءة للفاتحة خلف الإمام في سكتاته وبذلك يصح ما في الرواية الأخرى تهذ هذًا وإلا فأية حاجة كانت إلى الهذ لما كانوا يقرءون مع قراءة الإمام وكيف يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم أحس بقراءة من خلفه مع جهره بالقراءة وإخفائهم، إذ الواقعة كانت في الصبح فلا بد من التسليم لما قلنا من أنهم كانوا يقرءون ويهذبون باجتهاد منهم في سكتات الإمام، وذلك لما
(1) أخرج حديثه الدارقطني وقال تفرد به محمد بن عباد الرازي وهو ضعيف، قال صاحب التنسيق بعد تسليم جرح محمد بن عباد أن الضعاف يقوي بعضها بعضًا وههنا صحاح وضعاف فكيف لا يقوى بها الضعاف، انتهى، قلت: وهو مؤيد بالرواية الصحيحة عنه المرفوعة بلفظ وإذا قرأ فأنصتوا.
(2)
فقد أخرج الطحاوي والطبراني عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال خلطتم على القراءة، قال السيوطي في الدر: أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قال في القراءة خلف الإمام أنصت للقرآن كما أمرت فإن في الصلاة شغلاً وسيكفيك الإمام، انتهى.
ألفوا من القراءة في الصلاة كما قد قدمنا وأما من تعمق في مضمون الخطاب فرأى أن النهي عام لسكتة الإمام وقراءته فكان حاله ما قلنا من رواية عبد الله بن مسعود ولولا الأمر ما قلنا من بناء قراءتهم على اجتهادهم فأي حرج كان عليهم في قراءتهم خلفه حتى سكنوا حين سأل أيكم قرأ أو قال هل قرأ خلفي منكم أحد أو لم يكن يعلم أني أمرتهم بذلك فلا يصح سؤاله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا كان عليهم أن يجيبوا بأنك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرتنا بأن نقرأ، فعلم أن قراءتهم هذه إنما كانت في السكتات وأن مدارها كان على اجتهادهم إن إحراز فضيلتي قراءة الفاتحة واستماع قراءة الإمام والإنصات وقت قراءته هو الأولى، فلما انصرف عن صلاته وأنكر عليهم قراءته لما اجتهدوا أي قاسوا والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن وليس في الحديث الذي نحن فيه ما يستدل به على وجوب الفاتحة، فإن أحدًا من أئمة اللغة والنحو والبيان لم يقل بأن الاستثناء من الأمر يكون نهيًا ومن النهي أمرًا بل الأمر كذلك لكان معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة إلخ وجوب شد الرحال إليها ولم يقل به أحد فالذي يفهم منه أن القراءة خلف الإمام لا تصح ولا تجوز إلا أن له رخصة في قراءة الفاتحة وكان ههنا منشأ سؤال وهو أن يسأل وجه الرخصة في الفاتحة مع حرمة القراءة وراء الإمام فقال: إن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب لا تصح صلاته إذا لم يكن وراء الإمام، فإذا كان وراء الإمام فله رخصة في قراءتها لعظمة شأنها وقلة مقدارها وكثرة سكتة الإمام قبلها وبعدها، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية فإنه لا صلاة إلخ ليس إلا جوابًا لذلك السؤال المقدر وبيانًا للفرق بين الفاتحة والسورة الأخرى، قال الأستاذ -أدام الله علوه ومجده وأفاض على العالمين بره ورفد- قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا صلاة إلخ تنبيه على علة الرخصة وتبيين لعلة الاستثناء وذلك أن الفاتحة تفارق سائر القرآن في كثرة تكرار الألسنة له ودوام قراءتها في الصلاة بأسرها فريضة كانت أو تطوعًا،
فلا يتطرق اللبس والاختلاط في قراءتها ولا كذلك سائر السور والآيات فإنها ليست بتلك المنزلة فأفهم واغتنم، وأما ما قالوا من أن آية وإذا قرأ إلخ نزلت في الخطبة فغير مسلم لما أن سورة الأعراف مكية إلا آية {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} والخطبة افترضت في المدينة، ولو سلم أنها فرضت في مكة فمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب بها إذ قد صرحوا بأن أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فلم يك خطبة حتى يتكلم (2) فيها فيأمر الله تعالى بالسكوت والإنصات وما قال بعضهم من أن نزولها في الصلاة والخطبة جميعًا فحق لا يرتاب فيه وليس المعنى أن ورودها كان في هاتين الوقعتين بل المعنى أن حكمها عام للخطبة والصلاة كلتيهما وإن كان نزولها في الصلاة، لا غير (3).
والحاصل أن المفهوم من هذا الحديث ليس (4) إلا رخصة في قراءتها، ومن المعلوم أن الرخصة ترتفع بارتفاع ما هي مبنية عليها (5) فكان سبب رخصتهم أنهم كانوا لا يخلطون قراءتهم بقراءة الإمام حتى يلزم المخالفة آية الإنصات فرخصوا فلما رأى الأصحاب رضي الله عنهم خلط العوام فيها نهوا (6) عن ذلك لئلا يلزم
(1) بياض في الأصل بعد ذلك، والظاهر أن مراد الشيخ رحمه الله أن أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سالم بعد رحيله من قباء كما صرح به جمع من أهل السير، وفي الخميس كانت أول جمعة جمعها في الإسلام حين قدم المدينة وخطب يومئذ خطبة بليغة وهي أول خطبة في الإسلام ثم ذكر الخطبة.
(2)
فقد حكى السيوطي في الدر عن جمع من الصحابة وغيرهم أنها نزلت في القراءة في الصلاة.
(3)
يعني لم يكن قبل الهجرة وجود الخطبة حتى يتكلم فيها أحد فيؤمر بالسكوت.
(4)
وإلا فيجب شد الرحال إلى المساجد الثلاثة كما تقدم في كلام الشيخ.
(5)
أي كان مبني رخصتهم أولاً أنهم كانوا لا يخلطون.
(6)
هذا على سبيل التسليم أن المنع ليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه السياق أو المراد شدة النهي حتى تمنوا أن يدخل في فيه التراب.
ترك الفرض بالاشتغال بالمباح أو المستحب لو سلم ولو لم يرفعه الصحابة كان للمجتهد أن يرفع هذه الرخصة إذا شاهد فيه مثل ذلك ولا يبعد أن يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه رفع تلك الرخصة قبل وفاته لما روى عن صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط من دابته فجحش شقه فصلى قاعدًا والناس خلفه قيام فقال حين سلم من صلاته إنما جعل الإمام ليؤتم به إلخ، وقال وإذا قرأ فانصتوا، وقد تكلم البخاري (1) في زيادة تلك الكلمة وقال تفرد بها سلمان التيمي ولم يروها عن أبي هريرة غيره مع كثرة من روى عنه هذه الرواية قلنا لا يضر (2) تفرده فيها بعد كونه ثقة وقد وثقه مسلم (3) فكان ذلك نهيًا عما رخصه من قبل وفي ذلك رسالة (4) للأستاذ العلام قدوة العلماء الأعلام- أدام الله علوه ومجده وأفاض على العالمين بره ورفده- فلذلك تركنا الطويل في بيان هذا التقرير معتمدًا على اشتهار ذلك التحرير.
قوله [فقال له حامل الحديث] أي الذي يحتمل الحديث منه وهو التلميذ [إني أكون أحيانًا وراء الإمام] وهذا دليل على أن عملهم اليوم كان على
(1) وبسط الشيخ في البذل على تصحيح هذه الروايات وذكر لسليمان التيمي عدة متابعات ولا يلتفت إلى كلام الإمام البخاري بعد ما صححه شيخه الإمام أحمد بن حنبل وغيره.
(2)
أي على تسليمه وإلا فقد ثبت أنه ليس بمتفرد كما بسط في البذل مع أن سليمان التيمي وثقه جماعة من أئمة الحديث وهو من رواة الستة ووثقه ابن معين والنسائي والعجلي وابن سعد وابن حبان وقال الثوري حفاظ البصرة ثلاثة وذكره منهم وكذا ذكره فيهم ابن علية.
(3)
فقال في جواب من تكلم في الحديث أتريد أحفظ من سليمان التيمي قاله النيموي.
(4)
في اللسان الهندية سميت بهداية المعتدي في قراءة المقتدي. فأجاد الشيخ رحمه الله البحث فيه بالإيجاز لا بد لطالب الحديث من النظر إليه.
ترك القراءة وإلا لم يكن لهذا الاستبعاد والسؤال وجه.
قوله [اقرأ بها في نفسك] أنت تعلم أن القراءة في النفس لا تسمى قراءة فكيف يتم الاستدلال بها على الوجوب وظاهر معنى القراءة في النفس إنما هو التدبر (1) في معنى الآية، وأما إرادة القراءة الخفية فمع أنها ليست مما يدل عليه اللفظ يردها أن المسائل لم يكن استبعد إلا إسراره بها دون الجهر بها إذا لم يكن أمره أبو هريرة إلا بالقراءة السرية وإذا كان كذلك لم يكن جوابه على ما زعمتم شافيًا لباله ولا كاشفًا غمة بلباله بل ولا مطابقًا لسؤاله مع أن مراد أبي هريرة لو سلم أنه هو الذي زعمتم لا ما أردنا فليس اجتهاد الصحابي سيما ولم يعد (2) من فقهاء الصحابة واجبًا تسليمه إذا خالف اجتهاد غيره من الفقهاء بل ومخالفًا للروايات الصحيحة أيضًا فقد ورد في بعض الروايات (3) أن أبا هريرة حين سأله السائل عن حالة الاقتداء هل يأتي فيها بالقراءة أم لا استدل بما ورد في الصحيح من قوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، الحديث، فلما كان أطلق عليها لفظ الصلاة فكانت هي عين الصلاة لا تتم صلاة دونها وهذا الاستدلال مع إمكان التفصي عنه بوجوه غير قليلة مناد على أن أبا هريرة لم يكن عنده رواية هي نص في أداء المعنى المقصود (4) حتى التجأ إلى هذا الاستدلال الذي
(1) وبه فسر عيسى وابن نافع معنى القراءة في النفس كما في الأوجز، وسيأتي ما يتعلق بتفسير هذا الحديث من كلام الشيخ قدس سره في أبواب التفسير.
(2)
كما قاله بعضهم وإن كان من أحفظ الصحابة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا بالشبع وكان متقنًا متينًا مثبتًا ذكيًا ذا صيام وقيام وذكر وتسبيح وتهليل رضي الله عنه وأرضاه.
(3)
فقد أخرج أبو داؤد وغيره هذه الرواية مفصلاً.
(4)
يعني أن أبا هريرة استدل على أمره بالقراءة في النفس بالحديث القدسي قسمت الصلاة بين وبين عبدي، الحديث، ولا يتم التقريب كما لا يخفى ولما ذكره مستنده ومأخذه علم أن قوله هذا من اجتهاده فلم يبق في الرفع المحكمي أيضًا فلم يبق إلا اجتهاد صحابي مخالف لأقوال الصحابة والروايات المرفوعة.
غير لازم ولا ملزم وهذا يغنينا عن قبول قوله رضي الله عنه مخالفًا لأقوال المجتهدين من الصحابة الكرام والفقهاء من الأئمة الأعلام.
قوله [أنادي أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب] ولم يذكر (1) لفظ الحديث كاملاً وقد كان إلا بفاتحة الكتاب وما زاد كما رواه أبو داؤد فلما كان كذلك لم يضرنا بل كان لنا بعد ما كان لهم وصار عليهم بعد صيرورته علينا إذ مقصودنا وهو تسوية الفاتحة بالسورة حاصل ومرادهم وهو إثبات التأكد في الفاتحة فوقه في السورة لم يحصل.
قوله [احتج بحديث جابر بن عبد الله إلخ] وأنت تعلم أنه مما لا يدرك إلا بالنص فكان له حكم المرفوع من كل وجه سيما وقد تايد ذلك بموافقة النص ومتابعة الروايات وعمل الصحابة وقد روى مرفوعًا أيضًا كما ذكره الطحاوي (2).
(1) وهذا بعيد من مثل الإمام الترمذي وللعذر وسعة ثم الرواية أخرجها أبو داؤد بطريقين: إحداهما بلفظ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بالقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد، وثانيتهما بلفظ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد.
(2)
أي بهذا اللفظ الذي ذكره الترمذي، وأما حديث جابر المشهور مرفوعًا من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة رواه الحافظ أحمد بن منيع في مسنده ومحمد بن الحسن في الموطأ والطحاوي والدارقطني، قال النيموي إسناده صحيح ثم بين تصحيحه وهذا الحديث مشهور روى عن جمع من الصحابة غير جابر منهم أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك، بسطت طرقها في المطولات.
قوله [كان إذا دخل المسجد صلى على محمد] وفي وضع العلم موضع ضمير المتكلم تفاؤل وإشارة إلى محموديته وهو مستحب للأمة لما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح أبواب الفضل والرحمة وأجرى هذه الرسوم للأمة، والصلاة رحمة خاصة كما يدل عليه العطف في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فلا يجوز على غيره صلى الله عليه وسلم إلا تبعًا، وأما ما روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى على غيره كقوله اللهم صل على آل أبي أو في فمن خصوصياته وهذا عند الفقهاء وترخص المحدثون فرخصوا لغيره أيضًا.
قوله [رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك] هذا إما أن يكون تخصيصًا بعده تعميم إذ المغفرة أخص من مطلق الرحمة أو يقال الأول إشارة إلى التخلية عن الرذائل، والثاني إلى التحلية بالفضائل، وقوله وقت الخروج أبواب فضلك إشارة إلى التوفيق بامتثال ما أمر الله تعالى به في قوله {وَابْتَغُوا (1) مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} من فضل الله حيث عقبه بذكر الصلاة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت من الدعاء منزلة الجناحين من الطائر فإن الطيران لا يتم إلا بهما ذكر الصلاة مع الدعاء في الوقتين ليكون أقرب إلى الإجابة ولأن الصلاة من أهم العبادات والخروج من المسجد إنما الغالب أن يشتغل بعده بالمعاملات وإن كان يثاب فيها ثواب العبادات والقربات إذا نوى بها خيرًا والنوعان بأسرهما إنما علم صلاحهما وفسادهما وطريق الفوز فيهما والتمكن من إتيانهما على الوجه الذي يرضى به الخالق والمخلوق جميعًا بتعليمه صلى الله عليه وسلم وحسن تربيته وتقنينه القوانين وترتيبه الشرائع فكان الدعاء في الأمرين معًا شكرًا له على ما اجتهد في ذلك وثناءًا عليه على بليغ سعيه ليكون أقر لقلبه صلى الله عليه وسلم.
قوله [فلقيت عبد الله بن الحسن] أي بعد ما كنت أخذت منه ذلك الحديث
(1) وتمام الآية {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية
بواسطة الليث أردت أن أشافهه به.
قوله [وإنما عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم] وكان عمر حسين وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سبع سنين فأنى لابنته وفاطمة رواية عن أمه فاطمة ولا يخفى عليك أن الحديث مع انقطاعه حسنه الترمذي لما علم من اتصاله بطريق آخر فعلم أن المنقطع إذا علم (1) اتصاله يبلغ درجة الحسن وهذا أصل كبير يتفرع منه الجواب عن كثير من مطاعن المخالفين بأن أكثر أحاديث الإمام تكون منقطعات والجواب أن لا ضير في ذلك لما علم اتصالها.
قوله [فليركع ركعتين] هذا مسلم بين الفريقين (2) في عدم الجواز في أوقات النهي لكن الشافعي استثنى زوال يوم الجمعة، وسيجيئ الكلام في ذلك ثمة.
قوله [وهذا حديث غير محفوظ] أي وضع جابر مكان أبي قتادة لأن
(1) أو وجد له شاهد أو متابع يرتقي إلى درجة الحسن بل قد يرتقي لكثرة الطرق إلى الصحيح أيضًا كما بسط في الأصول.
(2)
أي الحنفية والشافعية كما يدل عليه السياق ثم ما حكى من الاتفاق هو على قول للإمام الشافعي لكن المرجح عندهم الجواز قال النووي هي سنة بالإجماع فإن دخل وقت الكراهة يكره له أن يصلي في قول أبي حنيفة وأصحابه وحكى ذلك عن الشافعي ومذهبه الصحيح أن لا كراهة، انتهى، قال الحافظ: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بد من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية، انتهى، قلت: وهو مذهب الحنابلة كما في الأوجز عن نيل المآرب ولا بد من التخصيص عند الشافعية أيضًا لأن الداخل والإمام يصلي المكتوبة لا يصلي عند أحد، وكذا الداخل في آخر الخطبة وغير ذلك والخطيب عند الشافعية إذا دخل للخطبة كما في الأوجز.
عمرو بن سلم (1) لم يثبت لقاؤه عن جابر ولأن أكثر من رواه (2) إنما روى عن أبي قتادة دون جابر.
[إلا المقبرة والحمام] وفي الحمام كشف الستر والتشبه لوجود التصاوير والتلوث وتشتت البال وعدم الحضور ومع ذلك كله فلو صلى مستجمعًا شرائطها جازت صلاته ويقاس عليهما ما وجد فيه ما وجد فيهما من التشبه أو شبهة التلوث أو حقيقة التلوث إلى غير ذلك من وجوه الحرمة وقد وقع التصريح ببعضها في بعض الروايات.
قوله [ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه] أي لم يذكر فيه عن أبي سعيد.
قوله [وكان عامة روايته] أي رواية عمرو بن يحيى عن أبي سعيد وهذا بيان لمنشأ غلط من رفعه وأدخل فيه أبا سعيد.
قوله [من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا (3) في الجنة مثله] المتماثلة في الإخلاص وعلى هذا فزيادة الأجر بزيادة الإخلاص وإن لم يزد مقدار ما أنفق فيه أو يكون المراد (4) أن نسبة المسجد إلى أبنية هذه الدار الدنيا توجب
(1) ولم يذكر الحافظ جابرًا في مشايخه ولا عمروًا في تلامذة جابر.
(2)
أي بهذا السند وإن روى عن جابر أيضًا بغير هذا السند.
(3)
وبنحو ذلك استدل من قال أن الجنة لم يكمل بناؤها كما بسطه صاحب اليواقيت والجواهر ويؤيد ذلك ما في المشكاة عن ابن مسعود قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم ليلة أسرى بي فقال يا محمد اقرأ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، انتهى.
(4)
يعني أن الثواب الذي يعطى على بناء المسجد يكون فضله على دور الآخرة والجنة كفضل المسجد على دور الدنيا أو المعنى أن الثواب الذي يعطى على بناء المسجد أن يكون تزايده على دور الآخرة مثل تزايد حسن جودة بناء المسجد على جودة بنائه دور الدنيا.
إيتاء ما يناسب المسجد نسبته إلى دور تلك الدار الآخرة وكان السبب في رواية عثمان هذا الحديث أن أبا بكر وعمر لم يكونا تصرفا في المسجد النبوي إلا قليلاً من إصلاح ما وهن منه وكان عمر زاد فيه ولم يغيره عن هيئته التي كانت له في زمنه صلى الله عليه وسلم وأن عثمان جمع الحجارة وسائر ما يحتاج إليه في تشييده فأنكر عليه الصحابة صنيعه ذلك لما لم يسبق عليه فيه فاعتذر من ترك الشيخين إياه على حاله بأنهما لم يجدا ما يستعينان به على ذلك، وأما أنا فقد آتاني الله من المال ما أقدر به على ذلك وبين الحديث، وكان بناؤه المسجد من خالص ماله الذي آتاه الله لا من بيت مال الله الذي للمسلمين وذلك جائز لمن أراد، وموجب أجر إذا أصلح النية ما لم يجعل فيه ما يلهي عن الصلاة.
قوله [قد أدرك إلخ] قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأه واحد إلا في الأعمى فإنه ليس فيه إلا الإدراك دون الرؤية.
قوله [لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج] أما مسألة زيارة النساء القبور (1) فمذهب حنفاء الله فيه أن النهي الوارد في الزيارة كما
(1) وفي الدارالمختار و (لا بأس) بزيارة القبور ولو للنساء لحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها، قال ابن عابدين قوله بزيارة القبور أي لا بأس بل تندب كما في البحر عن المجتبي فكان ينبغي التصريح به للأمر بها، وقوله ولو للنساء وقيل تحرم عليهن والأصح أن الرخصة ثابتة لهن وجزم في شرح المنية بالكراهة، وقال الخير الرملي إن كان ذلك لتجديد الحزن والبكاء والندب على ما جرت به عادتهن فلا تجوز وعليه حمل حديث لعن الله زائرات القبور وإن كان للاعتبار والترحم من غير بكاء والتبرك بزيارة قبور الصالحين فلا بأس إذا كن عجائزه ويكره إذا كن شواب كحضور الجماعة في المساجد وهو توفيق حسن، انتهى.
نسخت (1) في حق الرجال نسخت في حق النساء أيضًا لأنهن تبع الرجال في الخطابات وأما قوله عليه السلام «لعن الله زائرات القبور» فكان في وقت النهي ولما رخصهم في الزيارة بقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها رخص النساء أيضًا وسيجيئ بعض بيانه في بيان الأحاديث التي وردت في ذلك وهذا وإن كان هو الحق لكن لا ينبغي أن يشاع ويرخص لهن في الزيارة لما أحدثن في زماننا وقد كن يمنعن من الخروج في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل النهي عن زيارة القبور بل لمفاسد أخرى، وكذا في زمان الخلفاء الراشدين ومما يدل على حقية ما ذهبت إليه الأحناف زيارة عائشة (2) أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر.
وأما الذين منعوها عن الزيارة فمبناهم أن قوله عليه السلام لعن الله زائرات القبور، خبر لا يتطرق إليه النسخ وزيارة عائشة فأما لكونها محرمة أو لكونها مرة والنهي إنما هو عن زيارة غير المحرم والزيارة (3) فيها حتى يبلغ حد التكرار وأجاب بعضهم بأن ذلك كان اجتهادًا منها لا يتمشى الاستدلال بفعلها لكونه غير مستند إلى حجة ودليل، وأنت تعلم ما في تلك الوجوه من الخلل.
أما قولهم إنها كانت محترمة له فمن المعلوم أنها لم تكن محترمة لكل من دفن هناك ولم يكن قبر عبد الرحمن في موضع خال، وأما النهي عن التكرار دون أصل الزيارة ترجيح (4) من غير مرجح أو رجوع إلى ما كنا ذهبنا إليه من أن نفس الزيارة ليس فيها شيء من الكراهة وإنما الكراهة عارضة لها من خارج فحيث وجدت الكراهة من خارج كرهت الزيارة وحيث لم توجد لم تكره فكانت
(1) هكذا في الأصل وحق العبارة التذكير فتأمل.
(2)
بل روى عنها قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين، الحديث في جمع الفوائد عن مسلم والنسائي.
(3)
كما يدل عليه صيغة المبالغة فيما ورد من قوله زوارات القبور.
(4)
لما ورد في بعضها من غير المبالغة.
فكانت الزيارة جائزة الأصل.
وأما قول من قال إن ذلك كان اجتهادًا منها من غير أن يستند إلى حجة ودليل فحطيطه لشأن الأصحاب رضي الله عنهم من مراتبهم لا سيما عائشة أفقه النساء بل وأفضل في التفقه من أكثر الرجال فكيف يظن بها أنها ارتكبت ذلك دون استناد إلى حجة وبرهان إذ لو سلم هذا لارتفع الأمان من سائر الأصحاب مع أن القدوة بهم في تلك المسالك ودون التقفي بهم مفاوز وعر ومهالك مع أن مسألة زيارة القبور ليست مما يندر وقوعها حتى يظن أنها لم تعلم جوازها عن حرمتها ومن تشبث بكون هذا خيرًا لم يأت بمقنع لأنه وإن كان خبرًا لفظًا لكنه إنشاء معنى وكثير من الأوامر والنواهي أنزلت بصورة الأخبار لفوائد مختلفة ونكت بليغة مؤتلفة مع جواز الشيخ عليها وليس بفرق بين الأوامر التي في صورة الأخبار والتي في صورة الإنشاء بجواز النسخ على الثاني دون الأول مع أن الأخبار لو سلم لفظًا ومعنى لم يضر لأن الأخبار عن شيء هو موقوف وجودًا وعدمًا على وجود غيره وعدمه ليس بمستدع أن يبقى المخير عنه موجودًا وإن تبدل الذي توقف الخبر عنه عليه بل الأخبار إنما ثمة موقوف على وجود المتوقف عليه وإذا كان كذلك فأعلم أن الأخبار عن وجود اللعن عليهن فإنما ذلك لارتكابهن شرعيًا فلما ارتفع النهي ورخص الشرع في فعله لم يبق منهيًا عنه حتى يلزم اللعن بفعله والتخلف عن ذلك لا يسمى كذبًا حتى يلزم المحال الذي بنى المستدل عليه استدل النسخ.
وأما اتخاذ المساجد عليها فلما فيه من الشبه باليهود في اتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعبدة الأصنام لو كان القبر في جانب القبلة وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة كونه يمينًا أو يسارًا وإن كان خلف المصلي فهو أخف كراهة من كل ذلك لكن لا يخلو عن كراهة (1)
(1) فإن أهل المتون صرحوا بكراهة الصلاة في المقبرة، قال ابن عابدين واختلف في علته فقيل لأن فيها عظام الموتى وصديدهم وهو نجس وفيه نظر، وقيل لأن أصل عبادة الأصنام اتخاذ قبور الصالحين مساجد وقيل لأنه تشبه باليهود عليه مشى في الخانية ولا بأس في الصلاة فيها إذا كان فيها موضع أعد الصلاة وليس فيه قبر ولا نجاسة ولا قبلته إلى قبر، انتهى، والمسألة خلافية بين الأئمة جدًا فاختلفوا في فساد الصلاة والإباحة والكراهة واختلفوا في المقبرة المنبوشة وغير المنبوشة واختلفوا في مقابر المسلمين والكفرة، والبسط في الأوجز.