الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه إشارة إلى أن كل باب باب منها باب للعلم يدخل منه في مدينة وأن المقصود (1) الأصلي إيراد الروايات المرفوعة، فأما ما يذكر فيه من بيان المذاهب وأحوال الرواة والروايات فتبع واستطراد لتأييده وإيراثه بصيرة فيما هو البغية القصوى والغاية الأقصى ولا يبعد أن يقال إن بيان المذاهب أيضًا بيان للروايات غير أن المروي منه صلى الله عليه وسلم منه ما هو مذكور بلفظ الشريف صراحة، ومنه ما دل عليه كلامه دلالة أو إشارة فيبانه بيان لمعنى كلامه وإن لم يكن بيان لفظه.
[باب ما جاء لا تقبل صلاة إل
خ] ولما كان كل حديث تستنبط منه مسائل جمة صح التعبير بلفظ الباب وإن كان الحديث الوارد فيه واحدًا فإن الباب إنما يطلق على طائفة من المسائل ونوع منها وههنا كذلك، ثم إن ما أضيف إليه الباب وهي الترجمة بمنزلة الدعوى وما يورد بعده من الرواية دليل على إثباته كما فيما نحن فيه، فإن قوله لا تقبل صلاة بغير طهور حكم ادعاه المؤلف فرام إثباته بإيراد الحجة عليه وهو قوله عليه الصلاة والسلام إلخ، وكم من أشياء هي مذكورة استطرادًا وتبعًا فلا تكونن منها على غفلة.
(1) يعني التقييد بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن المقصود بالذكر الروايات المرفوعة وما سواها استطراد وتبع.
[قوله ح وحدثنا إلخ] قال بعضهم (1): إنه إشارة إلى قوله إلى آخر ما سيجيئ، وقيل إلى قولهم، الحديث، والصحيح المنقول عن الأساتذة أنه إشارة إلى التحويل.
[قوله عن سماك إلخ] إنما كرر قوله عن سماك ليعلم موضع التحويل ولأنهما روايتان على أصل أهل الحديث فإن السماك في الأول منسب وفي الثاني غير منسب وتختلف الرواية عندهم لمثله.
[قوله لا تقبل صلاة بغير طهور إلخ] ومما ينبغي أن يتنبه له أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم وعلى من تبعهم أو تبعوه قد تفرقت أصولهم التي يتفرع عليها اختلافهم في المسائل الشرعية وفيه كثرة، فمن ذلك أنهم اختلفوا في وجه ترجيح الروايات المتخالفة فيما بينها فقال (2) مالك رحمه الله تعالى: يترجح رواية المدنيين على غيرهم وإنما كانت روايتهم بالقبول أحرى لأن صاحب البيت بما فيه أدرى وما لم يكن فيه منهم شيء وجب المصير إلى غيرهم، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يترجح الحديث بقوة الإسناد فإذا ثبتت الرواية وكان السند متينًا وجب القول بمقتضاها وإن خالف بعض الأصول الشرعية الثابتة بالروايات الآخر أو الآيات
(1) وتوضيح ذلك أن الحديث إذا كان له إسنادان أو أكثر فمن دأب المحدثين أنهم جمعوا بينهما في متن واحد وكتبوا عند الانتقال من سند إلى آخر لفظ ح مفردة واختلفوا في أنها معجمة بمعنى إسناد آخر أو مهملة وهو المشهور ثم اختلفوا هل يتلفظ عندها بشيء فقيل لا يتلفظ بشيء وعن بعض المغاربة يقول بدلها: الحديث، لأنها مأخوذة منه عندهم والجمهور على أنه يقول عند الوصول إليها حا ويمر، صرح بذلك السيوطي في التدريب والنووي في مقدمة شرح مسلم، ثم قيل هي رمز صح، وقيل من الحائل وقال النووي: المختار أنه مأخوذ من التحول كما بسط في مقدمة الأوجز.
(2)
حتى قال ابن العربي أصل مالك أن شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده وإن لم يتابع عليه، وقد تكلمنا في ذلك في أصول الفقه بما فيه كفاية.
غاية الأمر أن تلك الجزئية بنوعها تستثنى عن هذه الكلية وكان رضي الله تعالى عنه مدة إقامته بالحجاز يعمل برواياتهم لكونها أصح عنده فلما ورد مصر أخذ برواياتهم ولم ينكر على ما كان قاله من المسائل أولاً فتفرقت أقاويله في مسألة واحدة، وهذا هو المراد بما يذكر في الفقه من قوله القديم والجديد، بل الذي ثبت أن له أقاويل ثلاثة أو أزيد في بعض المسائل إلا أن هذا قليل والأكثر أن له قولين، وأما أحمد بن حنبل فأكثر أخذه بظاهر الحديث لا غير، وقلما يسيغ في الحديث اجتهادًا وإذا تعددت الروايات في مسألة كان العمل عنده على أيها أحب ولا يكون العمل بإحدى الروايات موجبًا لترك العمل بالأحرى بل كان له العمل بهذا تارة وبذلك أخرى.
وأما إمامنا العلامة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقننًا يقنن القوانين ويضع الأصول ليعمل بها وترجع الفروع إليها وهي العمدة في العمل، فأما ما ورد من الجزئيات التي خالفت بظاهرها تلك الأصول المقررة وجب عند الإمام الهمام جمعها بتلك الأصول بضرب من التأويل كزيادة قيد أو تعميم أو تخصيص أو غير ذلك من وجوه التوفيق وما لم يمكن جمعها بالأصول وجب قصرها على موردها وكان خاصًا استثنى من الأصول بشخصه لا بنوعه فتفكروا إذا تمهد هذا، فنقول: تفرقت أقوال العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «لا تقبل صلاة بغير طهور، فقال مالك: لا تقبل الصلاة ما لم يتطهر غير أن الفريضة تسقط من الذمة وكان تاركًا للواجب ولعل هذا مبني على ما ذكرنا من أنه لم يثبت له من أصحابه المدنيين عدم الصحة في حالة التنجس (1) مع أن المنفي في هذه الرواية القبول وهو لا يستلزم الفساد كالحجة (2)
(1) الظاهر أن المراد به التنجس بالأنجاس دون الأحداث فإن صحة صلاة المحدث لم أرها في شيء من كتب الفروع أو الشروح بل حكوا الإجماع على اشتراط الطهارة من الأحداث وصرح باشتراطها في فروع المالكية أيضًا، ففي الشرح الكبير للدروير شرط لصحة صلاة ولو نفلاً أو جنازة أو سجود تلاوة طهارة حدث أكبر أو أصغر ابتداء ودوامًا ذكر وقدر أولاً فلو صلى محدثًا أو طرأ عليه الحدث فيها ولو سهوًا بطلت، انتهى. نعم الطهارة من الأنجاس مختلف فيها عندهم فقيل بالوجوب وقيل بالسنية وهو المشهور عندهم، ففي الشرح الكبير شرط طهارة خبث وابتداء ودوامًا لجسده وثوبه ومكانه أن ذكر وقدر فسقوطها في صلاة مبطل كذكرها فيها بناء على القول بوجوب إزالة النجاسة وأما على القول بالسنية فليست بشرط صحة بل شرط كمال، انتهى.
(2)
قال النووي في مناسكه: إن حج بمال مغصوب صح حجه في ظاهر الحكم لكنه ليس حجًا مبرورًا ويبعد قوله، هذا هو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة رحمهم الله وجماهير العلماء من السلف والخلف، وقال أحمد بن حنبل لا يجزيه الحج بمال حرام، انتهى.
من مال الغصب فإنها تسقط الفريضة مع عدم القبول، ونظيره ما ورد من قوله (1) صلى الله عليه وسلم: من شرب الخمر لا يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن الأمة والأئمة اتفقوا على فراغ الذمة بصلاته مع تنصيص الرواية بعدم قبولها منه، وقالت الثلاثة لا يقبل صلاة من لم يتطهر ولم تصح أيضًا ولم تفرغ ذمته وذلك أن المنفى هو القبول بجملة أنواعه وسقوطها عن الذمة نوع من القبول فلا بد من إدخاله تحت النفي كيف وقد ورد في الرواية مفتاح الصلاة الطهور فهذا التشبيه مصرح بالمدعي من أنه لا يمكن الدخول في باب الصلاة من دون طهارة وأيضًا فقد تأيد ذلك بقوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية، ولعل مالكًا رحمه الله تعالى لم ينكر اشتراطها للقبول بل أنكر أن يكون شرط الصحة ولا يبعد أن يكون رضي الله عنه نظمها في سلك الشروط التي تحتمل السقوط كالاستقبال أو القراءة للمقتدي.
[قوله من غلول] الغلول (2) خاص بما هو من مال الغنيمة والصدقة
(1) كما سيأتي عند المصنف في الأشربة من حديث ابن عمر مرفوعًا.
(2)
قال القارئ بالضم على ما في النسخ الصحيحة، وأصل الغلول الخيانة في الغنيمة ووهم ابن حجر إذ ظن أن الرواية بفتح الغين أي كثيرًا فعل وفيه أن المبالغة غير مراد، انتهى.
تقبل من غضب أيًا كان ومن الغنيمة أشد فلذا ذكرها، أو يقال (1) تخصيص الغنيمة باعتبار المحل الذي قال فيه هذا الكلام وإن كان الحكم لا يفترق بين خيانة وخيانة.
[قال أبو عيسى إلخ] ومما اختصت به سنن الترمذي رحمه الله تعالى من
(1) وأفاد الشيخ في البذل لعل وجه تخصيصه بالذكر أن الغنيمة فيها حق لجميع المسلمين فإذا كان التصدق من المال الذي له فيها حق غير مقبول فأولى أن لا تقبل من المال الذي ليس له فيها حق، انتهى، وكتب الشيخ محمد حسن في تقريره: اعلم أن الصدقة من مال الغلول وكذا من كل مال حرام كمال السرقة وثمن الخمر وأجرة المزينة ونحوها لا تقبل، وكذلك المال الحرام لا يصير حلالاً وإن تداوله الأيدي لأن الحرمة ثبتت بالنص ولم يوجد نص آخر يدل على رفع الحرمة بتداول الأيدي، فإن قلت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتري من أهل الحرب ومن أهل الذمة أموالهم مع أن أكثر أموالهم كان حرامًا لكونها حاصلة بالربا والسرقة ونحوهما من غير أن يسألهم عنها، فعلم أن الحرمة ترفع بتداول الأيدي.
قلت: أموال أهل الحرب على نوعين: منها ما حصل لهم على وجه حلال في عرفهم وإن كان حرامًا عندنا كالربا ونحوه، فهذا المال يصير ملكًا لهم لأنهم لما لم يكونوا مخاطبين بالفروع كان المعتبر فيهم عرفهم فحلال لنا أن نشتري هذا المال منهم، ومنها ما حصل لهم على وجه لا يكون حلالاً في عرفهم أيضًا كالسرقة ونحوها، فقلنا هذا المال يصير ملكًا لهم باستيلائهم عليه فحل لنا أن نشتريه منهم، وأما أهل الذمة فهم مبقون على عرفهم فكان الجواب فيهم كالجواب في أهل الحرب فيما هو حلال في عرفهم، أما لو اكتسبوا مالاً على وجه لا يكون حلالاً في عرفهم ولا في شرعنا فذلك المال لا يصير ملكًا لهم ولا يحل لنا أن نشتريه منهم، انتهى.
بين الكتب (1) أن المؤلف يذكر فيها حال الرواية من الصحة والحسن وغيرهما دون أصحاب السنن الآخر، والفرق بين الحسن والصحيح أن الضبط وإتقان الرواية في رواة الحسن دونهما في رواية الصحيح، وعلى هذا فلا يصح اجتماع الصحة والحسن في رواية واحدة، فإن أحدًا من رجال الإسناد إذا اتصف بكونه دون رواة الصحيح تنزل الإسناد من الصحة فلا يكون إلا حسنًا، وإذا كانت جملة رواته في المرتبة القصوى من الضبط والإتقان لم يكن إلا صحيحًا وإذا كان الأمر على ما وصفنا افتقر إلى الجواب عما جمعها الترمذي رحمه الله تعالى في أكثر الروايات، ومعنى التفضيل غير مرعى فيه وأجيب (2) بتعدد طرق المتن، فإحدى
(1) قلت: يعني من بين الأمهات الستة خاصة وإلا فالمبدع لهذا الاصطلاح على بن المديني، قال الحافظ في نكته على ابن الصلاح: قد أكثر على بن المديني من وصف الأحاديث بالصحة وبالحسن في مسنده، وفي علله، وكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغير واحد، وعن البخاري أخذ الترمذي، فاستمداد الترمذي لذلك إنما هو من البخاري لكن الترمذي أكثر منه وأظهر الاصطلاح فيه وصار أشهر به من غيره، كذا في القوت.
(2)
قلت: وأجاب عنه عماد الدين بن كثير بأن ههنا ثلاث مراتب: الصحيح أعلاها والحسن أدناها، والجمع بينهما رتبة متوسطة كقولهم الحلو الحامض، وتعقبه الحافظ وغيره بأن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به، وحاصل ما قاله ابن دقيق العيد في الاقتراح بأن بينهما عمومًا وخصوصًا فكل صحيح حسن بدون العكس وأجاب عنه الزركشي بأنه إذا جمع بينهما فيحتمل أن يريد في هذه الصورة الخاصة الترادف ويحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه وأدى اجتهاد غيره إلى صحته أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين، وأجاب عنه الحافظ في النكت بأجوبة منها يجوز أن يكون باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم فيجوز أن يكون حسنًا باعتبار الإسناد صحيحًا باعتبار الحكم، وأجيب أيضًا بأن ذلك للتردد من المجتهد في الناقل هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها وغير ذلك من الأجوبة التي ذكرها صاحب القوت وغيره.
طرقه حسن والأخرى صحيح وبأن الحسن والصحة كلاهما للغير، والضعيف يترقى إلى درجة الحسن بتعدد طرقه كما أن الحسن بتعدد أسانيده يصحح فيمكن كونه حسنًا صحيحًا معًا إذا كان الحسن والصحة كلاهما لغيره لا لنفسه أو كان الحسن لنفسه والصحة لغيره وبأن الحسن والصحة ههنا أريد بهما المعنى اللغوي لا الاصطلاحي أو الصحة اصطلاحية دون الحسن أو بالعكس، ولا يخفى ما فيه من البعد أما أولاً فلأن الكلام على هذا لا يجدي بعائدة ولا يأتي بفائدة فإن الرواية لا يخفي كونها حسنًا وصحيحًا كيف وهو من كلام خير البشر بل من وحي خالق القوى والقدر وأما ثانيًا فلأن المراد لو كان ذلك لأطلق لفظ الحسن أو الصحيح على الروايات الغريبة بل الضعيفة أيضًا مع أنه لم ينقل من أحدهم وأما ثالثًا فلأن التزام ترك الاصطلاح من غير ضرورة إليه أمر ينفر عنه القلب السليم ويشمئز منه الفهم المستقيم (1).
[وفي الباب إلخ] يعني بذلك أن الرواية (2) قد بلغت بحسب المعنى حد
(1) ثم لا يذهب عليك أن قولهم أصح شيء في الباب كذا وهذا يوجد في جامع الترمذي كثيرًا، وفي تاريخ البخاري وغيرهما قال النووي في الأذكار لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفًا ومرادهم أرجحه وأقله ضعفًا، كذا في التدريب.
(2)
قال السيوطي في التدريب: إن الترمذي في الجامع حيث يقول: وفي الباب عن فلان وفلان فإنه لا يريد ذلك الحديث المعين بل يريد أحاديث أخر يصح أن تكتب في الباب، قال العراقي: وهو عمل صحيح إلا أن كثيرًا من الناس يفهمون من ذلك أن من سمى من الصحابة يروون ذلك الحديث بعينه وليس كذلك بل قد يكون كذلك وقد يكون حديث آخر يصح إيراده في ذلك الباب، انتهى.
الاشتهار حيث نقلت عن جم غفير من تلك الكبار ثم إن الرواية كثيرًا ما تشتهر باسم الصحابي الذي رواها وقد تنسب إلى التابعي أيضًا وستقف على ذلك إن شاء الله تعالى.
[مالك بن أنس إلخ] الكلام فيه كالكلام في سماك المار قبل ذلك وأيضًا ففي السند الأول تصريح بتحديث مالك دون الثاني فإن فيه عنعنة.
[إذا توضأ العبد المسلم إلخ] لما كان الحكم (1) على المشتق يستلزم عليه مأخذ الاشتقاق للحكم وجب القول بأن ذلك الموعود من الأجر إذا كان المتوضئ قد أسلم وجهه لله أو قد أيقن بقلبه الحضور إلى الله، ولما كان كذلك كان العبد المتوضئ تائبًا إلى الله تعالى بقلبه نادمًا على ما فرط في جنب الله مقنعًا عما اقترفته يداه إذًا لتيقن بالحضور والإسلام له لا يتركه لاهيًا عن ذلك وهذه هي التوبة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ولا تترك في كتاب حسابه جريمة ولا جريرة وعلى هذا لا يفتقر إلى التخصيص بالصغائر وما ذكروا في أسفارهم من أن المراد الصغائر فقط فمحتمل، ويحمل على أن المراد بلفظ العام بعض أفراده والقرينة عليه قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} علق تكفير السيئات بالاجتناب عن الكبائر، وفيه بعض تفصيل سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ولا يبعد أن يقال إن تكفير السيئات أي الصغائر فقط عام لكل متوضئ ويعم الكبائر إذا اشتمل على إنابة وندامة كما ذكرنا والله تعالى أعلم، وفيه تنبيه على أن المسلم شأنه أن
(1) يعني عبر النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ المسلم أو المؤمن ولم يعبره بلفظ الرجل فكان فيه إشارة إلى مراعاة صفة الإسلام والإيمان، قلت: وأفاد حضرة الوالد عند الدرس بتوجيه آخر أيضًا وهو أن المراد بالخطيئة الأعم المطلق لكن لا يمكن أن يبقى على ذمة المسلم كبيرة فإن المسلم المسلم إذا صدر عنه كبيرة فيبعد عنه أن يغفل عنه حتى يغسلها بعبرات التوبة فمن شأن المسلم أن لا يبقى عليه إلا صغيرة وسيأتي البسط في ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الأمثال في باب مثل الصلوات الخمس.
يكون عند تطهره كذلك ولا يغفل عن حاله ولا ينسى عن آثامه وبلباله.
[وهو حديث مالك إلخ] هذا من غاية احتياط المؤلف حيث لا يبالي بلزوم التكرار، ومحط المقصود إنما هو توضيح المرام كيفما حصل فكرر ههنا قوله وهو حديث مالك إلخ مع أنه نفسه مصرح بقوله هذا حديث حسن لئلا يتوهم إرجاع الإشارة إلى الحديث السابق أو يختص الإشارة بالسند الثاني المذكور بعد التحويل فقط إلى غير ذلك، وأيضًا فقد تكلم بعضهم في سهيل هذا ففي التصريح باسمه تنصيص على رد زعمهم وتعديل له.
[وأبو صالح] ومما ينبغي التنبه عليه أن الذين يذكر الترمذي أنسابهم وبعض متعلقاتهم الآخر إنما هم الذين لم يكونوا من الشهرة بمرتبة الرجال الأخر عند هؤلاء الفحول، وأما بالنسبة إلينا فالمشاهير أيضًا كالمساتير وإلى الله المشتكي من زمان شاع فيه الجهل والبدع.
[قول الصنابحي] والحاصل (1) أن الصنابحي الذي ذكره المؤلف في سلك
(1) ما أفاده الشيخ قدس سره مبني على النسخة الأحمدية فإن مدلولها أن الصنابحي عند المصنف اثنان فقط كما هو عند جماعة، أحدهما صنابح بن الأعسر الصنابحي الذي له حديث واحد عند المصنف وأربع عند الحافظ في تهذيبه والثاني أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة التابعي صاحب أبي بكر والنسخة التي في هامش العارضة المصرية صريحة في هذا المعنى ولفظها والصنابحي هذا الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الطهور هو أبو عبد الله الصنابحي واسمه عبد الرحمن بن عسيلة هو صاحب أبي بكر إلخ، ويؤيده أيضًا ما في الأوجز عن الترمذي عن البخاري أن مالكًا وهم في عبد الله إنما هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة فعلم من هذا كله أن ما في بعض النسخ المطبوعة الجديدة الهندية من المجتبائية وغيرها للترمذي بلفظ والصنابحي هذا الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الطهور هو عبد الله الصنابحي، والصنابحي الذي روى إلخ غلط من الناسخ فإن هذا السياق يدل على أن الصنابحي ثلاثة عند الترمذي وليس كذلك بل الصواب أنه اثنان فقط عند الترمذي كما أفاده الشيخ قدس سره، وإن كان الصواب عند هذا العبد الضعيف أنهم ثلاثة وصاحب حديث الباب هو عبد الله الصنابحي الصحابي كما حققته في الأوجز.
من روى هذا الحديث المتقدم ليس بالصنابحي الذي له صحبة بل هو التابعي الذي يروي عن أبي بكر الصديق، وأما الصنابح بن الأعسر الذي يقال له الصنابحي أيضًا فإنما له حديث واحد مرفوعًا وله صحبة وليس بالمراد ههنا، انتهى.
[وقد روى إلخ] أي من غير ذكر الواسطة فكان إرسالاً (1)
[وإنما حديثه إلخ] وليس له حديث منه صلى الله عليه وسلم غيره (2).
[قوله إني مكائر بكم الأمم] لما كان المكاثرة تقتضي أن تتكثر الأمة والاقتتال عكسه لأنه مستأصل أراد أن ينهاهم عنه فالقاتل لأخيه المسلم كان ساعيًا في إعدام ما تمناه النبي صلى الله عليه وسلم وأراد فكان كبيرة لا محالة منه.
[مفتاح الصلاة إلخ] ولا يخفى ما يرد فيه على الحنفية حيث فرقوا فيما بين الثلاثة مع أن الرواية المسوقة لإيجاب الثلاثة واحدة فقالوا شرط لافتتاح الصلاة مطلق الذكر وإن لم يكن خصوص قوله الله أكبر أو الله الكبير أو الله الأكبر، وكذلك لا يشترط عندهم لتمام الصلاة والخروج عنها خصوص لفظ التسليم بل تتم الصلاة بالكلام وغيره مما يفسد الصلاة وإن لم يخل فعله هذا عن ارتكاب محرم
(1) يعني أن عبد الرحمن بن عسيلة أبا عبد الله طالما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة فهذه الروايات تكون مرسلة لأنه تابعي كما ثبت في كتب الرجال.
(2)
أي على المشهور وإليه يشير كلام الترمذي بلفظ الحصر إنما حديثه ولذا قال صاحب التهذيب: له صحبة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا، وقال صاحب الخلاصة: له صحبة وحديث، وأما على غير المشهور فبلغ الحافظ مروياته إلى ثلاثة أحاديث وقيل أكثر منها.
لو عمدًا وكان الإعادة عليه واجبًا، نعم سلموا فرضية الطهارة وشرطيتها، والجواب أن الخبر الواحد لا يجب تسليمه تسليم الخبر المتواتر أو المشهورة، وكذلك لا يوجب خبر الواحد إيجاب النص القرآني فالفرق بين مقتضى تلك الثلاثة وموجبها ثابت عقلاً ونقلاً فكيف يسلك بالثلاثة مسلكًا واحدًا بل ينزل كل منها منزلته فما ثبت بالخبر الواحد فقط يكون فرضًا عمليًا لا كالفرائض القطعية التي يكفر جاحدها وهو الواجب كالتسليم والتكبير (1)، وما ثبت بالنص القرآني أو الخبر المشهور أو المتواتر يكون فرضًا كالطهارة مع أن العمل بالخبر في باب التكبير يخصص إطلاق قوله تعالى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} والتخصيص في حكم النسخ وليس الخبر الواحد صلاح ذلك، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم تحليلها التسليم بالمعنى الذي ذكرتم معارض بقوله صلى الله عليه وسلم إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك فوجب تنزيلها عن منزلة الفرض إلى الوجوب لئلا تتعارض النصوص فيما بينهما، والأئمة الآخر لما لم يفرقوا فيما بين الأخبار ذهبوا إلى أن الثلاثة أركان بعينها.
[ابن عقيل] كلهم عقيل إلا ثلاثة (2).
[يحتجون إلخ] واحتجاج تلك الأعلام يخرجه من الضعف إلى الصحة أو الحسن.
[وهو مقارب الحديث (3) أي يقارب حديثه القبول أو الذهن إلى
(1) فإن الابتداء بمطلق ذكر الله عز وجل فرض وخصوص التكبير واجب كما بسطه ابن نجيم.
(2)
ذكر النووي في مقدمته: عقيل كله بفتح عين إلا عقيل بن خالد ويأتي كثيرًا عن الزهري غير منسوب وإلا يحيى بن عقيل وبني عقيل فبالضم انتهى، وهكذا ذكر في المعنى وغيره.
(3)
وذكر السيوطي هذه الكلمة في المرتبة الثالثة من مراتب التعديل على رأي النووي والمرتبة الخامسة على رأي غيره والاختلاف مبني على اختلافهم في مراتب الجرح والتعديل كما لا يخفي على من نظر كتب الأصول والمعتمد أنه يكسر الراء وفتحها من ألفاظ التعديل فمعنى الكسر أن حديثه يقارب حديث غيره ومعنى الفتح أن حديثه يقاربه حديث غيره، وما قيل إنه بفتح الراء بمعنى الردى من ألفاظ الجرح رده شراح الألفيتين العراقي والسيوطي.
غير ذلك.
[وقد قال مرة إلخ] أي قال أستاذي عبد العزيز تارة ما ذكر مرة أخرى هذا ولما كانت الرواية بحسب المعنى شائعة بين الأئمة الأعلام ذائعة بين العلماء الكرام لم يضر ذلك ويمكن أن يكون قد سمع ذاك تارة وهذا أخرى، ثم أن الخبث جمع خبيث كما أن الخبائث جمع خبيثة وظاهر تفسير الخبث والخبائث ذكور مردة الجن وإنائهم، وفيه أقوال (1) آخر والعوذ من استهزائهم بعوراته واطلاعهم على سوأته وغير ذلك.
[قال سعيد عن قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد] اعلم أن في هذه الرواية اضطرابًا لوجهين: الأول في اسم الصحابي حيث ذكر بعضهم زيدًا أو بعضهم أنس بن مالك، والثاني في ذكر القاسم وتركه فكانت الروايات أربعًا بأربع أسانيد الأولى رواية سعيد عن قتادة عن القاسم عن زيد، ورواية هشام عن قتادة عن عن زيد، وشعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد ومعمر عن قتادة عن النضر عن أنس، والحاصل أن فيه اضطرابين الأول أن سعيدًا وهشامًا اختلفا على قتادة فقال سعيد عن قتادة عن القاسم عن زيد، وقال هشام عن قتادة عن زيد، والثاني أن شعبة ومعمر اختلفا على قتادة أيضًا فقال شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس
(1) منها أن الخبث الشياطين والخبائث المعاصي، وروى الخبث بسكون الباء وأنكره الخطابي وتعقبه النووي وغيره، وذكر الشيخ في البذل: قيل الخبث بسكون الباء خلاف طيب الفعل والخبائث الأفعال المذمومة.
عن زيد بن أرقم، وقال معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبيه، فأما دفعه عن البخاري فأما مقصور على أولهما ولم يذكر الثاني لأنهما يندفعان معًا بجواب واحد فقياس الثاني على الأول ويحتمل أنه لم يحضر له جواب عنه والضمير على هذا عائد إلى القاسم وزيد، وإما عام بحيث يشمل الجواب عن الاضطرابين معًا بإرجاع الضمير إلى زيد والنضر، وحاصل الجواب على ذلك أن قتادة يحتمل أن يروي عنهما أي عن زيد بن أرقم وعن النضر بن أنس، والنضر يروي عن أبيه، وعن زيد فالمعنى أن قتادة يروي عن زيد بواسطة القاسم لكنه يرسل وإرسال الثقة مقبول ما لم يعلم أنه مدلس فصار المعنى أن قتادة يحتمل أن يكون هذا الحديث عن زيد وعن النضر سواء كان روايته عن زيد بواسطة القاسم أو بلا واسطة، وسواء كانت روايته عن النضر عن أبيه أو عن النضر عن زيد هذا (1) والله تعالى أعلم.
(1) أعلم أن المشايخ في اختلفوا تقرير الاضطراب ودفعه بكلام البخاري على أقاويل كثيرة، والأوجه عندي أن الاضطراب ههنا بثلاثة وجوه، الأول في الواسطة بين قتادة والصحابي وعدمها، والثاني في تعيين الصحابي أيهم هو، والثالث في تعيين الواسطة هل هي القاسم أو النضر، وحمل كلام البخاري محتمل على كل واحد من هذه الثلاثة كما يظهر من كلام الشيخ -نور الله مرقده- وإن كان الحمل على بعضها أقرب من بعض آخر، والظاهر عندي حمله على دفع الاضطراب الثالث فقط، وذلك لأن الاضطرابين الأولين ليسا مما يحتاج لدفعهما إلى جواب فإن رواية قتادة عن زيد بلا واسطة مرسلة ظاهر الإرسال لا يخفي على من مارس كتب الرجال فإن عامة روايات قتادة عن الصحابة مرسلة وقد ذكر الحافظ في تهذيبه جماعات من الصحابة وغيرهم الذين أرسل عنهم قتادة، وقال الحاكم في علوم الحديث لم يسمع قتادة عن صحابي غير أنس وذكر ابن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك.
قلت: لا سيما عن زيد فظاهر الإرسال فإن ولادة قتادة سنة 61 هـ ووفاة زيد مختلف من سنة 65 إلى سنة 68 ولذا قال محمد الأشبيلي في حديث الباب كما حكاه العيتي واختلف في إسناده والذي أسنده ثقة، انتهى، فعلم أن من أسقط الواسطة فروايته مرسلة ولذا لم يحتج إلى دفعه، وهكذا الاضطراب الثاني في تعيين الصحابي، فأيضًا كان مدفوعًا ظاهرًا إذ قال البيهقي قال الإمام أحمد: قيل عن معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس وهم فلم إلا الاحتمال الثالث فدفعه باحتمال السماع عنهما أي القاسم والنضر ويؤيده ما قال العيني: سأل الترمذي عن البخاري عن هذا الاضطراب فقال لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف والنضر بن أنس، وحكى البيهقي قال أبو عيسى قلت لمحمد يعني البخاري أي الروايات عندك أصح فقال لعل قتادة سمع منهما جميعًا عن زيد بن أرقم، انتهى.
ثم إن الاضطراب (1) قد يدفع حيثما وقع بكون راوي إحدى الروايتين أحفظ من راوي الأخرى أو بإثبات اللقاء بالمذكورين كليهما عند البخاري ومن دان دينه أو بإمكان اللقاء عند مسلم ومن سار سيره أو بكثرة في رواة إحداهما.
[غفرانك (2)] وجه الاستغفار انقطاع ذكر اللسان مدة كذا وهذا وإن
(1) قال السيوطي في التدريب: فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويهما مثلاً أو كثرة صحبة المروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالحكم للراجحة ولا يكون الحديث مضطربًا، انتهى.
(2)
قال ابن العربي: مصدر كالغفر والمغفرة ومثله سبحانك ونصبه بإضمار فعل تقديره أطلب غفرانك، وفي طلب المغفرة ههنا محتملان: الأول أنه سأل المغفرة من تركه ذكر الله عز وجل في ذلك الوقت فإن قيل إنما تركهما بأمر ربه فكيف يسأل المغفرة عن فعل كان بأمر الله، فالجواب أن الترك وإن كان بأمر الله إلا أنه من قبل نفسه وهو الاحتياج إلى الخلاء، فإن قيل: هو مأمور بما جره إلى الدخول في الخلاء وهو الأكل قلنا: العبد مأمور بالأكل المؤدي إلى الاحتياج إلى الغائط مقدور عليه خلو ذلك الوقت عن الذكر والباري يعد على العبد ما يقوده إليه ويلزمه ما يخلقه فيه ولذلك موضع يحقق فهمه فيه وهذا المحتمل أكثر وأغمض. الثاني وهو أشتهر وأخص أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المغفرة في العجز عن شكر النعمة في تيسير الغذاء وإبقاء منفعته وإخراج فضلته عن سهولة، انتهى.
قلت: ويحتمل طلب المغفرة على إجراء الذكر القلبي والحضور في هذه الحالة فتأمل.
لم تكن نسبته إلينا مما يعد نقصًا وذنبًا حتى يستغفر منه فإن اشتغال القلب بذكر الله تعالى طاعة لا تدري حقيقتها إلا أنه إذا نسب إلى ذلك الجناب عد بالنسبة إليه ذنبًا ونقصًا فإن الاكتفاء بذكر القلب لمن يداوم على الذكر اللساني والقلبي معًا يكون نقصانًا أو السبب في استغفاره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أن المتغوط إذا تفكر فيما خرج منه وعلم تقذره توقف بذلك على أقذار باطنه وتنجس قلبه بالقاذورات النفسانية والنجاسات الشهوانية فاستغفر منها أو السبب فيه أن المرأ إذا تفكر في بروز هذه النجاسة منه وهو مضطر إلى ذلك تنبه على صدور الآثام منه من غير أن يكون له علم بعض منها لكثرة الغفلة وقلة التيقظ وأن استحالة الغذاء إلى مثل هذه الكيفية في مقدار من الوقت المعلوم وهو غير كثير نبهه على خبثه وتلطخه بالأنجاس فاستغفر مما هو فيه من هذا القبيل، قلت: ومنه كل ما هو له حتى إن وجوده كذلك أيضًا، وأيًا ما كان فضيعه عليه الصلاة والسلام هذا كان تعليمًا لأمته المرحومة، والله تعالى أعلم.
[قوله إلا من حديث إسرائيل إلخ] يعني قد تفرد في أخذ هذا الحديث عن يوسف فلو أخذه معه غيره لم يبق غريبًا وأشار بقوله أبو بردة بن أبي موسى إلخ إلى اسم الراوي قصدًا واسم أبيه وجده تبعًا واستطرادًا لتضمنه فائدة جديدة (1).
(1) ولا يذهب عليك أنه واقع في مبدأ السند شتى من التحريف فإنه ليس في الرواة أحد اسمه محمد بن حميد بن إسماعيل، وما في النسخ المصرية في محله حدثنا محمد بن إسماعيل نا حميد نا مالك بن إسماعيل، الحديث أيضًا خلاف الظاهر فالظاهر أن المراد بمحمد بن إسماعيل البخاري، ولفظ حميد مقحم ويؤيد ذلك ما قال الشيخ عثمان وهبي في الدر الغالي بعد ذكر رواية الباب عن عائشة، وكذا رواه البخاري في الأدب المفرد، وعنه رواه الترمذي ووهم ابن سيد الناس حيث قال هو أبو إسماعيل الترمذي، انتهى.
[إذا أتيتم الغائط إلخ] لما كانت حالة كشف العورة هيئة منكرة يستحي منها وجب التحرز عن استقبال القبلة واستدبارها لئلا يقابل البيت بشتى مستهجن قيح، وكذلك عند الجماع والبول وإن لم يلزم فيه عند الاستدبار مقابلة البيت بشيء سوء وذلك لما فيه من سوء الأدب، ثم إن العلماء اختلفوا فيما بينهم في كون هذا النهي مطلقًا أو مقيدًا فقال الإمام الهمام أبو حنيفة المقدام رضي الله تعالى عنه: أن النهي عام فلا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار مطلقًا لا في البنيان ولا في الفيافي، وهذا مبني على أصل له وهو أن أحكام الشرع معللة إلا نادرًا حيث لم يعلم لنا علة وإن كان في نفس الأمر معللاً أيضًا فالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها مبني على علة تعم الكنف والفيافي، وأجابوا عن الأحاديث التي وردت على خلاف ذلك بأجوبة سترد عليك تفصيلها إن شاء الله تعالى، والشافعي رحمه الله تعالى فقد علل النهي كما عللنا غير أنه قال الاستقبال والاستدبار كلاهما سواء ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما رخص في الاستقبال بفعله لزم الترخص في الاستدبار أيضًا لاستوائهما فوجب الجمع بين الروايات بحمل النهي عن الفيافي والإجازة على الكنف فهذا ناش على أصله من حمل المطلق على المقيد ولكننا لما لم نقل به أجرينا المطلق على إطلاقه، وأما (1)
(1) قلت: اختلفت الروايات عن الإمام أحمد بن حنبل في ذلك كما بسطت في أوجز المسالك إلى مؤطأ فأحداهما لا يجوز الاستقبال مطلقًا لا في الصحارى ولا في العمران ويجوز الاستدبار فيهما، والثانية أن النهي للتنزيه، والثالثة يحرم الاستقبال والاستدبار بشرطين: الأول أن يكون في الصحراء، والثاني أن يكون بلا حائل ويكفي إرخاء ذيله والاستتار بداية وجبل كذا في نيل المآرب، وفي الروض المربع: يحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان ويكفي انحرافه عن جبهة القبلة وحائل ولو كمؤخرة الرحل انتهى، فهذه الرواية مختار فزوعه، والرابعة النهي مطلقًا كقول الحنفية وهي مختار ابن القيم. والظاهر أن الرواية التي ذكرها الترمذي هي الرواية الأولى، وما أفاده الشيخ فلعله رواية عنه لكثرة الروايات عنه في ذلك.
أحمد بن حنبل فلم يتصرف في الحكم بتعديته إلى غيره بل أخرج الاستدبار عن عموم النهي بفعله صلى الله عليه وسلم وأبقى سائر الصور تحت النهي. والحاصل أن الأصل في الأحكام لما كان أن يعلل وجب تعليل النهي الوارد في ذلك فسوينا بين الاستقبال والاستدبار والصحراء والبنيان وفعل الشافعي كذلك غير أنه حمل المطلق على المقيد فأخرج الكنف وكل منا ومنهم يفتقر إلى الجواب عما يخالف مذهبه ولم يستثن ابن حنبل غير الصورة الواحدة فقط جريًا على أصله المذكور من عدم التعليل وأنت تعلم أن رأي أبي أيوب الراوي يوافق رأي الحنفية حيث استغفر في استقبال مراحض الشام ولولا أنه عم النهي عنده لما فعل ذلك وكان استغفاره لما يقع في أول وهلة من جلوسه من استقبال القبلة وكان استغفار هذا بقلبه إذ ليس ذاك بمقام تكلم أو يكون ثمة بقلبه ثم بعد الخروج منه بلسانه.
[قوله فرأيته قبل أن يقبض بعام إلخ] ظاهره معارض بما سلف من النهي فيرجح القول على الفعل لاحتمال الخصوص ولأن عين الكلمة لعله كان بمرأى منه صلى الله عليه وسلم فمال عنه (1) ولم يتنبه لذلك الراوي الذي رآه صلى الله عليه وسلم فظنه مستقبلاً فكما أن
(1) أو كان مائلاً عنه بخصوص الذاكرة قال ابن عابدين: ونص الشافعية على أنه لو استقبلها بصدره وحول ذكره عنها وبال لم يكره بخلاف عكسه أي فالمعتبر الاستقبال بالفرج وهو ظاهر قول محمد في الجامع الصغير يكره أن يستقبل القبلة بالفرج في الخلاء، انتهى.
الفرض للمكي في الاستقبال إصابة عينها ولغيره إصابة جهتها فكذلك النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما المقصود تعظيم عين هذا المكان غير أن الاطلاع على عين تلك البقعة لما تعسر أمرنا باستقبال جهة في الصلاة ونهينا عن استقبال جبهته أيضًا واستدبارها في الغائظ، وما في حكمه لأجل هذا التعسر فإذا سلم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر إليه (1) لم يستبعد إصابته جهتها إذا لم يلزم فيها إصابة عينها التي هي المقصود بالنهي ولا يبعد أن يجاب أيضًا بأن الأمر بالتحرز عن استقبالها واستدبارها لما فيهما من إساءة أدب فأما جملة أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم فأشرف ما يكون فليس في استقباله إياها ترك تعظيم وهذا راجع إلى ما تقدم من الاختصاص مع أن استقباله هذا يحتمل بناءه على عذر من تحصيل الستر ومثله فلا يعارض النهي كالبول قائمًا الآتي عن قريب فإنه كان مبنيًا على عذر كما سيذكر فلا يمكن أن يعارض عموم النهي والله أعلم.
[رقيت يومًا على بيت حفصة إلخ] أسند البيت في بعض الروايات إلى نفسه وفي بعضها إلى أخته حفصة، وفي الأخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا ضير في كل ذلك فإن المراد واحد والتفاوت إنما هو في التعبير والعنوان فإن لكل من الثلاثة المذكور تلبسًا به (2) فأضيف إلى أيهم شاء، ثم إن الرواية تخالف مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى حيث تبث فيه استقبال القبلة ولم يكن ثمة كنيف وإلا لما نظر إليه ابن عمر وغاية ما يمكن من الاعتذار فيه للشافعي رحمه الله أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم كان
(1) أي بطريق الكشف كما كشف له صلى الله عليه وسلم جنازة النجاشي حيث صلى عليها وكما كشفت له الجنة والنار في صلاة الكسوف وغيرها.
(2)
وذكر الشيخ في البذل طريق الجمع أن يقال أضاف البيت إلى نفسه على سبيل المجاز إما لكونه بيت أخته أو أضافه إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون إخوته لكونه شقيقها ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب وأضافه إلى حفصة لأنه البيت الذي أسكنها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وبسطه الحافظ في الفتح.
متبرز يستره من القبلة وهو المراد بالكنيف المبني وإن لم يكن ستر في الجهة التي رقى منها ابن عمر، ثم الجواب عنه قد سبق ولا يبعد أن يقال أيضًا إن ابن عمر لم يتبين إليه النظر ولم يحقق الأمر لما أن النظر في مثل ذلك ينصرف ولا يستقر حتى يظهر الواقع، وأيضًا ففي تلك الواقعة كان تبرزه صلى الله عليه وسلم في موضع محاط لئلا يلزم تعريه في فضاء مع ورود النهي عن ولئلا يلزم خلاف ما اخترتم من الاستقبال في الكنيف المبني، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جلس غير مستقبلها إلا أنه لما أحس بقعقعة (1) ابن عمر صرف بصره إليه وأدار رأسه وعنقه فقط كما هو العادة إذا تبدى له آخر في موضع خال فظن أنه مستقبل ولم يكن الأمر بل نشأ الاستقبال لهذا العارض.
[قوله من حدثكم إلخ] أرادت نفي اعتياده لذلك وكونه دأبًا له فلا ينافيه ما سيأتي لبنائه على العذر والأعذار مستثناة فلا حاجة إلى الجواب عنه بأنها لم تبلغها رواية البول قائمًا وكان بوله قيامًا لعلة بمأبضه كما روى أو تحصيل الستر الغير الحاصل إلا به أو عدم موضع صالح للجلوس إما لوجود النجاسات هناك أو لخوف أن يرتد البول إليه لارتفاع الموضع وعدم قراره إلى غير ذلك من الوجوه وعلى هذا فلا يخالف هذا ما ورد من النهي عن البول قائمًا.
ثم إن في [قوله أتى سباطة قوم فبال] إجازة الاستمتاع بملك الغير إذا علم رضاه بذلك وأنه لا يستضر به ولا يكرهه فإن بوله صلى الله عليه وسلم وسائر فضلاته وإن كانت طاهرات على ما هو صحيح (2) غير أنه لم يكن يعامل بها في العادة إلا معاملة
(1) قال المجد القعقعة حكاية صوت السلاح وصريف الأسنان لشدة وقعها في الأكل وتحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت والذهاب في الأرض وصوت الرعد، انتهى.
(2)
قال ابن عابدين: صحح بعض الشافعية طهارة بوله صلى الله عليه وسلم وسائر فضلاته وبه قال أبو حنيفة كما نقله في المواهب اللدنية عن العيني، وصرح به البيري في شرح الأشياء، وقال الجاحظ ابن حجر: تظافرت الأدلة على ذلك وعد الأئمة ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
النجاسات تعليمًا للأمة وتشريعًا لهم ليكون فعله سنة وطريقه مسلوكة في الدين من بعده.
[قوله وروى حماد بن أبي سليمان إلخ] ثم الظاهر أنهما وقعتان فكلاهما صحيح والمؤلف لما حمل الروايتين على اتحاد القصة احتاج إلى ترجيح إحدى الروايتين (1) على الأخرى وقد عرفت أنه كان مستغنيًا عن ذلك لو فعل.
[قوله لم يرفع ثوبه إلخ] تحصيلاً للستر ما أمكن له وفيه دلالة على قبح كشف العورة إذا لم يفتقر إليه ويمكن منه استنباط قولهم ما أبيح للضرورة تقدر بقدرها.
[قوله مرسل] أراد بالمرسل ههنا أعم من معناه المصطلح عليه وهو ما لم يذكر فيه الصحابي فالمراد (2) ههنا ما ترك فيه راو أو أكثر صحابيًا أو تابعيًا وهي مرسل ومنقطع ومعضل.
(1) قال الحافظ في الفتح: وهو كما قال الترمذي، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصمًا على قوله عن المغيرة فجاز أن يكونن أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معًا لكن من حيث الترجيح رواية منصور والأعمش لاتفاقهما أصح من رواية عاصم وحماد لكونهما في حفظهما مقال، انتهى، ومال في الدراية إلى أن الحديث عند أبي وائل عنهما معًا، ولا يذهب عليك أن حديث المغيرة هذا في البول قائمًا غير حديثه المشهور في المسح على الخفين فإنه في سفر تبوك وحديث سباطة هذا كان في المدينة.
(2)
وتوضيح كلام الشيخ أن المرسل في كلام المصنف ليس المصطلح إذ المعروف في الاصطلاح أن المرسل ما ترك فيه صحابي، والمتروك ههنا تابعي فإطلاق المرسل عليه باعتبار المعنى العام وهو ما ترك فيه راو أعم من أن يكون واحدًا أو أكثر صحابيًا أو تابعيًا فالمرسل باعتبار هذا المعنى يشمل المرسل الاصطلاحي والمنقطع والمعضل واختلفوا في إطلاق المرسل على أربعة أقوال بسطت في مقدمة الأوجز والمشهور هو المعنى الأول.
[قوله فورثه مسروق] يعني أن أمه (1) كانت أتت به إلى دار الإسلام وهو
(1) هذا تفسير للحميل في قوله كان أبي حميلاً، ففي المجمع: هو الذي يحمل من بلاده صغيرًا إلى بلاد الإسلام، وقيل هو المحمول النسب بأن يقول الرجل لآخر هو أخي أو ابني، ومذهب الحنفية في ذلك ما في موطأ محمد إذ قال بسنده عن سعيد بن المسيب قال أبي عمر بن الخطاب أن يورث أحدًا من الأعاجم إلا ما ولد في العرب قال محمد: وبهذا نأخذ لا يورث الحميل الذي يسبي وتسبي معه امرأة فتقول هو ولدي أو تقول هو أخي ولا نسب من الأنساب يورث إلا بينه إلا الوالد والولد فإنه إذا ادعى الوالد أنه ابنه وصدقه فهو ابنه ولا يحتاج في هذا إلى بينة إلا أن يكون الولد عبدًا فيكذبه مولاه بذلك فلا يكون ابن الأب ما دام عبدًا حتى يصدقه المولى والمرأة إذا ادعت الولد وشهدت امرأة حرة مسلمة على أنها ولدته وهو يصدقها وهو حر فهو ابنها وهو قول أبي حنيفة والعامة، انتهى، إذا عرفت ذلك فتوريث مسروق إياه يحتمل وجوهًا عديدة ذكر منها حضرة الشيخ وجهين سأوضحهما وهذه الوجوه تنحصر في احتمالين: الأول أن مسروقًا ورثه من بعض أقربائه غير الأم وهذا مختار ابن العربي إذ قال يعني به أنه كان مسببًا محمولاً من بلد إلى بلد في جملة ذكروا أنهم إخوة فورث بعضهم بعضًا بذلك القول قال مالك لا يكون ذلك إلا إذا كانوا جماعة نحو العشرين، وقد بيناه في مسائل الفقه، انتهى، وهذا الاحتمال يتضمن وجوهًا منها أنهم حملتهم أمهم وكانت هناك بينة فأفنى بها مسروق، وعلى هذا لا يخالف الحنفية ومنها أنها لم تكن هنالك بينة فأفتى مسروق بمجرد الدعوى ويكون هذا مذهبه وهذا أحد الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ وهذا الوجه يخالف الحنفية كما عرفت وأنت خبير بأن فتوى عمر أولى من فتوى مسروق، ويحتمل وجوهًا آخر غير الوجهين المذكورين، والاحتمال الثاني وهو لا يخالف الحنفية بشرط إن لم تبق الورثة المقدمة عليها ومن حكى فيه خلاف الحنفية جهل بمسلكهم ففي السراجية: يبدأ بأصحاب الفرائض والعصبة ثم بالعصبة من جهة السبب ثم الرد على ذوي الفروض ثم ذوي الأرحام ثم مولى الموالات ثم المقر له بالنسب على الغير بحيث لم يثبت نسبه بإقراره من ذلك الغير إذا مات المقر على إقراره فعلى هذا إذا كان مهران حميل أمه ولم تبق الورثة فوقها فلا مانع من توريثه عنها.
صغير، وفي تحميل النسب على الغائب فاقة إلى البينة ولم يكن ثمة غير أن مسروقًا أفتى بذلك من غير بينة وكان من مذهبه ولا يبعد أن يراد التوريث من أمه فلا يخالف المسلك المختار، وقيل له الأعمش لعمش عينيه ونسبة إلى كاهلة قبيلة من أسد لكون أبيه مولى الموالاة لهم وأراد المؤلف بقوله ((وقد نظر إلى أنس)) إثبات أنه تابعي فإن التابعي من رأى صحابيًا مسلمًا ومات عليه كما أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا أو حضره كذلك ومات على ذلك تحمل أو لم يتحمل.
[باب كراهية الاستنجاء باليمين] لما كان بعض الأفعال وبعض الأشياء محقرة مقذرة والبعض الآخر على خلاف ذلك أكرم الله سبحانه اليمنى على اليسرى ليستعمل كل منهما فيما يناسبه فكان ترك هذا الاستحباب الذي يوافق الوضع الإلهي إساءة وقباحة فنهينا عنه.
[قد علمكم نبيكم إلخ] كان السائل اعترض بذلك التعليم وأورده مورد الاستهزاء فرده سلمان عليه بأن ما علمنا لم يكن من الذي يفطن له من غير تعليم ولم يعلمنا ما يستغني من تعليمه حتى يعترض فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوث لإتمام المكارم فكانت جملة
همته مصروفة إلى ذلك ثم إن الأمر في قوله وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار بإتمام الثلاث أمر استحباب (1) وليس لتوكيد وإيجاب فيجزئ الأقل إذا أنقى الموضع وكذلك لزم الزيادة عليها إذا لم ينق بها غير أن الغالب لما كان حصول الأنقاء بالثلاثة اقتصر على ذكر هذا العدد وهذا هو المراد بقول الفقهاء ليس فيه عدد مسنون أي مؤكد بحيث لا يجوز الزيادة عليه أو النقص عنه ويدل على جواز الزيادة والنقصان رواية ابن عمر الآتية (2) بعد فإنه لما طلب ثلاثة وأتى بها وكانت فيها روثة فألقاها ولم يأمره بإحضار ثالثة (3).
(1) لما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ولأن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار متروك الظاهر إجماعًا إذ قالت الشافعية وغيرهم لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز ولأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه مشير إلى أن المقصود الأنقاء وهذا العدد يكفي في الأجزاء غالبًا ولذا أمر بها المستيقظ من منامه وليس التثليث هناك واجبًا بالإجماع، وكذا أمر بها المتوضئ في غسل أعضائه وليس بواجب وغير ذلك ولذا ذهب إلى الاستحباب داؤد مع ظاهريته.
(2)
هذا سبقه قلم فإن الرواية الآتية لابن مسعود لا لابن عمر ولعله انتقل الذهن من لفظ عبد الله في الحديث الآتي إلى ابن عمر وكان ابن مسعود.
(3)
كما أقر الطحاوي وهو إمام الحديث وما أورد عليه الحافظ من زيادة قوله ائتني بحجر تعقبه العينى وتكلم على هذه الزيادة وإليه يظهر ميل الترمذي إذ بوب على الحديث الاستنجاء بالحجرين فكأنه لم يثبت عنده الأخذ بالثالث وإلا لا يصح تبويبه ولم يصح عند ابن العربي فقال: وفي حديث عبد الله أنه أخذ الحجرين وألقى الروثة ولم يأمر بالإتيان بعوض منها، قال العيني: وقد قال أبو الحسن بن القصار المالكي روى أنه أتاه بثالث لكن لا يصح ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم لأنه اقتصر في الموضعين (أي البول والغائط) على ثلاثة فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة وقول ابن حزم هذا باطل لأن النص ورد في الاستنجاء ومسح البول لا يسمى استنجاء باطل على ما لا يخفى، انتهى.
[قوله برجيع] الرجيع للبقر والجاموس كالروثة للفرس والحمار كما أن البعرة للغنم والإبل وساغ إرادة كل منها بالآخر ووجه النهي عن التطهر بها زيادة التلوث إما إن كانت رطبة فظاهر، وإما إن كانت يابسة فالأمر كذلك فإن بلل الموضع يوجب تلطخًا بها ولا يحصل المقصود وهو النقاء والطهارة.
[قوله فأتيته بحجرين] لا يقال: إنه رضي الله تعالى عنه خالف الأمر بالإتيان بالروثة لأنا نقول انه ظن أن المقصود إنقاء الموضع بماذا حصل مع أن الحجر كثيرًا ما يطلق على كل جسم (1) متحجر.
[قوله وكأنه رأى حديث (2) زهير إلخ] أشار بزيادة لفظ التشبيه إلى
(1) ثم وقع في الحديث هذا ركس واختلفوا في المراد منه قال الحافظ: كذا وقع ههنا بكسر الراء وإسكان الكاف فقيل هي لغة في رجس بالجيم ويدل عليه رواية ابن ماجة وابن خزيمة في هذا الحديث فإنها عندهما بالجيم، وقيل: الركس الرجيع رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، قال الخطابي وغيره، والأولى أن يقال رد من حالة الطعام إلى حالة الروث، وقال ابن بطال لم أر هذا الحرف في اللغة يعني الركس بالكاف وتعقب بأن معناه الرد كما قال تعالى {واركسوا فيها} أي ردوا فكانه قال هذا رد عليك، قال الحافظ: فلو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال أركسه ركسًا إذا رده، وفي رواية الترمذي هذا ركس يعني نجسًا وهذا يؤيد الأول، وأغرب النسائي فقال عقب هذا الحديث الركس طعام الجن وهذا إن ثبت في اللغة فهو مريح من الأشكال.
(2)
حاصله أن الحديث المذكور فيه اضطراب كما أقربه المصنف نصًا وذلك لأن روى بعدة وجوه هكذا:
إسرائيل: عن أبي إسحاق
…
عن أبي عبيدة
…
عن عبد الله
وقيس
معمر:
…
((
…
عن علقة
…
((
وعمار
زهير:
…
((
…
عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه
…
((
زكريا:
…
((
…
عن عبد الرحمن بن يزيد
…
((
فاختلف على أبي إسحاق والإمام الترمذي سأله عن عبد الله فلم يرجح شيئًا من طرقه وكذا الإمام البخاري في سؤال الترمذي عنه لكنه لما ذكر في صحيحه رواية زهير فكأنه ترجيح منه لهذا الطريق دلالة والراجح عند الترمذي طريق إسرائيل لوجوه ذكرها وذكر الحافظ في مقدمة الفتح وجوه ترجيح الرواية التي رجحها البخاري فأرجع إليه لو شئت التفصيل.
أن ذلك لازم له لا أنه ألتزمه فإنه لما وضعه في جامعه بهذا السند دل ذلك على ترجحه عنده، وأما أنه لم يجب المؤلف بشيء ففيه دلالة على أنه لم يلتزم ترجيح إحدى طرقه ثم إن المؤلف ترجحت عنده إحدى طرقه فلذلك رام الرد على البخاري فيما قاله فقال وزهير في أبي إسحاق إلخ.
[قوله ما فاتني الذي فاتني إلخ] والغرض من هذا الكلام توثيق إسرائيل وترجيح روايته على رواية غيره، ومعنى الكلام (1) أن الذي فاتني من حديث
(1) هذا هو الظاهر في معناه بل هو المتعين في نظري القاصر وما ذكره حضرة الشيخ (يرد الله مضجعه) من البعد في معناه إنما يلزم إذا أريد به فوت حديث سفيان بالكلية لكن إن أريد بالموصول المقدار الخاص من حديث سفيان الذي لم يلتفت إليه عبد الرحمن فلا إشكال على الظاهر وسيعيد المصنف هذا الكلام في النكاح أيضًا، وذكر الشيخ فيه احتمالين لا غير، ويظهر من بعض التقارير الآخر أن المراد بالذي فاتني من حديث سفيان هو حديث النكاح خاصة فتأمل.
سفيان ولم أعتمد عليه كان السبب فيه اتكالي على إسرائيل فإنه كان يأتي برواية أبي إسحاق أتم من سفيان وعلى هذا فإسناد الفوت إلى الحديث لا إلى نفسه أدب كما في قولهم فاته الصلوات.
ولفظة [لما] على ما ذكرنا من المعنى تحتمل أن تكون شرطية تفيد معنى الظرفية وتحتمل أن تكون بتخفيف الميم واللام للتعليل، وعلى هذا التقرير يلزم أن يكون ابن مهدي قائل هذا القول لم يأخذ من سفيان روايته مع أنه لا يصح فالصواب في معنى العبارة أن يقال ما فاتني فهمه ولم يدهشني شيء ولم يلقني في حيرة وعمه شيء كما أوحشني وأدهشني حديث سفيان وما ورد على من الاضطراب في روايته على أن يكون الذي بمعنى كالذي والموصوف محذوف أي لم يهلكني شيء كما أهلكني حديث سفيان إلا إذا اتكلت على إسرائيل فإنه تخلصت من الهلكة باتكالي عليه وعلى هذا الأخير لا تكون كلمة ((لما)) إلا ظرفية، ولا يبعد أن يراد بالموصول الدهش والتحير والاضراب الذي قد كان وقع له في رواية سفيان، والمعنى أن الذي (1) فاتني من الاضطراب لم يفت إلا لاتكالي أو وقت اتكالي على رواية إسرائيل وعلى هذا فكلمة من ليست بيانًا للموصول بل الجار مع المجرور حال من ضمير الفاعل المستتر في الفعل أي لم يذهب مني الاضطراب الناشئ من رواية سفيان إلا وقت اتكالي أو لأجل اتكالي على رواية إسرائيل وهذا المعنى أولى المعاني فيه لولا أن كلمة الفوت لا تستعمل في مثل هذا الذاهب المقصود ذهابه بل كثر استعماله فيما لم يقصد فوته وحبب بقاؤه، والله تعالى أعلم.
[قوله بآخرة] أي في آخر عمر أبي إسحاق وكان قد توسوس في آخر عمره وساء حفظه، وأما زهير فليس به بأس إلا أنه روى عنه في آخره، فلم يعتبر ومما ينبغي أن يتنبه له أن المؤلف أثبت ههنا أن أبا عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه
(1) ويكون لفظ فات على هذا المعنى بمعنى زال وذهب يعني لم يذهب الاضطراب ولم يندفع إلا بعد اتكالي على حديث إسرائيل.
ليثبت بذلك مذهبه فيما بعد ومع ذلك الانقطاع تلقت الأمة هذا الحديث والأئمة بالقبول ولم يترك ففيه دلالة على اعتبار المنقطع من الروايات فليحفظ فإنه يفيد.
[قوله عمر بن مرة] وفي النسخة (1) القديمة المطبوعة عمرو بن مرة.
[قوله فإنه زاد إخوانكم إلخ] مسوق لبيان العلة في النهي الثاني والأول معلوم ضرورة (2) لتنجيسه ويحتمل كونه علة المسألتين كلتيهما بإرجاع الضمير إلى كل منهما وكون العظم من زاد الجن معلوم، وأما الروث فلكونه زاد دوابهم نسب إليهم مجازًا لأنهم ينتفعون بها والعلة مشيرة إلى كراهة الاستنجاء بماله ثمن وما هو منتفع به في الأكل وغيره للدواب وغيرها فيشمل الحكم للثياب والحشيش وغيرهما فأفهم. ثم الظاهر أن الجن تأكل الزاد المذكور من العظم كما هو ولا بعد فإن الكلب يأكله مع أنه أضعف منهم بكثير ويمكن أن يكون الله تعالى يخلق لهم لحمًا (3)
(1) قلت: وهو الصواب يعني بالواو كما عليه أكثر النسخ القديمة والجديدة وهكذا بالواو ذكره أهل الرجال الحافظ وغيره.
(2)
وتقدم قريبًا أنه صلى الله عليه وسلم ألقى الروثة وقال: إنها ركس.
(3)
ويؤيده رواية البخاري بسنده عن أبي هريرة وفيه فقلت ما بال العظم والروثة فقال هما من طعام الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت لهم أن لا يمروا بالعظم والروثة إلا وجدوا عليها طعامًا، انتهى، قال ابن رسلان: وفي دلائل النبوة: أنهم قالوا ليلة الجن أعطنا هدية فأعطاهم ذلك فإذا وجدوا عظمًا أو روثًا جعله الله لهم كأنه لم يؤكل وكذا الروث للدواب فإن كانوا أكلوا شعيرًا جعله الله شعيرًا وإن كانوا أكلوا تبنًا وغيره من العلف جعله الله كذلك ويشبه أن يجعل الله الفحم خشبًا لنارهم ويحتمل أن يكون رزقهم لذلك هو الرائحة التي يظهر لهم ونحو ذلك فتكون قوتهم لأنفس العين فإن أجسادهم لطيفة، انتهى، وسيأتي في باب الوضوء بالنبيذ أن ليلة الجن كانت ست مرات.
عليه وإن لم نعلم به ولم نبصره ولا يمكن أن يستنبط منه حرمتها للناس فإن جواز أكلها لهم وكونها زادهم لا يحرمها على الناس ولا يبعد أن يكون إشارة إلى جواز أكلها للناس فإن الجن إنما تستحقها إذا فضلت من حوائجنا.
[قوله وكان رواية إلخ] لأن حفص بن غياث رفع الجزء الموقوف وهو قوله قال الشعبي (1) إلخ فإن الشعبي وإن كان يروي هذا عن أحد ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينص على كونه مرويًا بهذا السند المذكور من قبل وهو علقمة عن ابن مسعود وهذا هو السبب في ترجيح رواية إسماعيل على رواية حفص فإن إسماعيل رواه كما ثبت بأن (2) الحديث بطوله عن علقمة عن ابن مسعود والجزء
(1) وإلى ذلك أشار مسلم في صحيحه إذ ميز قوله قال الشعبي إلخ عما قبله وذكر له عدة متابعات، قال النووي: انتهى حديث ابن مسعود عند قوله فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وما بعده من قول الشعبي، كذا رواه أصحاب داؤد الراوي عن الشعبي وابن علية (كذا في نسخ النووي الهندية والمصرية بالواو والصواب على الظاهر حذفه فإن ابن علية ومن بعده بيان لأصحاب داؤد فإن مسلمًا روى حديث ابن علية وابن إدريس عن داؤد وذكر الحافظ في تلامذة داؤد بن زريع وذكر أحمد في مسنده رواية ابن أبي زائدة عن داؤد) وابن زريع وابن أبي زائدة وابن إدريس وغيرهم، هكذا قاله الدارقطني وغيره ومعنى قوله: إنه من كلام الشعبي أنه ليس مرويًا عن ابن مسعود بهذا الحديث وإلا فالشعبي لا يقول هذا الكلام إلا بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
(2)
تفسير لقوله كما ثبت يعني أن الثابت عند المحدثين أن الحديث بطوله مروي عن علقمة عن ابن مسعود والجزء الأخير الذي ذكره بلفظ قال الشعبي هو موقوف على الشعبي فإسماعيل رواه هكذا مفصلاً مميزًا للموقوف عن الموصول وحفص بن غياث جمعهما في سند واحد والحديث بطوله ذكره المصنف في تفسير الأحقاف ومسلم في صحيحه.