الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن الشيخ المجبولة عليه الطباع يتقضي الضن بالمال وفي إنفاقه على الجناية إقلاع عنها وامتناع منها لما يتعقبه من بذل المال الثقيل على النفس مع ما فيه من إطفاء نار غضب الرب تعالى وذخيرة الخير المكافئة لما نقصته الخطايا ثم المراد بأمر التكفير (1) في قول الأولين إن كان هو الوجوب فالمراد بقول الآخرين لا كفارة عليه نفي الوجوب ليظهر بين قوليهما فرق وإن كان المراد في قول الأولين هو الاستحباب فمعنى قول هؤلاء لا كفارة عليه أن الكفارة ليست بكافية ما لم يتب منها وأن الكفارة لا تفيد رفع الجناية وإن لم يخل عن فائدة ما، والأظهر أن يقال مقصود الفريقين واحد وإن من أثبت الكفارة قصد استحباب الإتيان بها ومن نفاه نفى الوجوب أو الاكتفاء بها دون التوبة وعلى هذا فذكر المؤلف كلاً من القولين بعبارة أخرى لاختلاف أقوالهما التي وصلت إليه بحسب ألفاظها وإن اتفقت معانيها وأيًا ما كان فاستحباب التكفير لا ينكر (2).
[باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب]
لما كان الأمر بفرك المني
(1) قلت: من قال بالكفارة من الأئمة قال بالوجوب، قال الشيخ في البذل: اختلف العلماء في وجوب الكفارة فقال الشافعي في أصح قوليه وهو الجديد ومالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير السلف أنه لا كفارة عليه وعليه أن يستغفر ويتوب، وقال الشافعي في القول القديم الضعيف أنه يجب عليه الكفارة وهو مروي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير وابن عباس وإسحاق وأحمد في الرواية الثانية عنه واختلف هؤلاء في الكفارة فقال الحسن وسعيد عتق رقبة، وقال الباقون دينارًا ونصف دينار وتعلقوا بهذا الحديث وهو ضعيف والصواب أن لا كفارة قاله النووي، انتهى.
(2)
ففي الدرالمختار: يندب تصدقه بدينار أو نصفه ومصرفه كزكاة وهل على المرأة تصدق، قال في الضياء: الظاهر لا.
والتخفيف فيه حتى اكتفى بالتقليل وإن لم يوجد الإزالة يوهم أن الحكم في باب الحيض كذلك لكثرة ما يرد على النساء منه سأل السائل عنه فدفع النبي صلى الله عليه وسلم شبهته ذلك بالمبالغة في أمر إزالتها فقال حتيه أي يابسًا ثم أقرصيه بالماء أي بالغي في الدلك بعد صب الماء عليه ثم رشي عليه الماء ليخرج عن الثوب بالكلية ولعل الوجه في التخفيف في باب المني حيث اكتفى فيه بالتقليل والحك وشدد في دم الحيض مع أن الضرورة تشملهما على السوية أن أمر الحيض متعلق بالنساء والمني (1) بالرجال ولا يخفى ما في أمزجتهن من قلة المبالات في أمثال هذه الأمور فلو وجدن فيه سبيلاً إلى التخفيف لأتى الأمر إلى ما لا يكاد يرتضيه عقل ولا شرع فلم يسغ فيه ما ساغ في باب المني لأجل ذلك مع أن النجاسة لعلها في دم الحيض أكثر منها في المني وإن كانت النجاسات كلها تشترك في أنها لا تصح معها صلاة إلا أن منع الحيض عن وجوب الصلاة على المرأة يرشد إلى غلظ في الدم بحسب النجاسة ولا كذلك المني ويمكن توجيه أصل الرواية بأن الفرق بين دم الحيض والاستحاضة بجواز الصلاة والصوم وإتيان الزوج في الثاني دون الأول لما كان يوهم أن نجاسة دم الحيض لعلها تزيد على نجاسة دم الاستحاضة لما ظهر من بون بين بين آثارهما ظن السائل أن دم الحيض لعله لا يطهر بالغسل بالماء بل لا بد له من قرص ذلك الموضع وقرضه حتى يزول بالكلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيبًا له إن ذلك غير لازم بل الثوب يطهر بالغسل إلا أنه شدد فيه مراعاة لظن السائل لئلا يخرج من قلبه نجاسته وعلى هذا فالأصل في الجواب قوله صلى فيه والباقي تمهيدًا له.
[ولم يوجب بعض أهل العلم إلخ] والظاهر (2) أن معنى هذا القول أنهم
(1) أي باعتبار الأغلب والأكثر وندرته في النساء حتى روى عن النخعي وغيره إنكار وجود المني لها وأنكره طائفة من الفلاسفة وإن كان جمهور الفقهاء على وجوده لهما كما في الأوجز.
(2)
وتوضيح كلام الترمذي واختلاف الفقهاء في ذلك أن الإمام الترمذي ذكر في المسألة أربعة مذاهب: الأول قول بعض التابعين إذا كان الدم مقدار الدرهم ولم يغسله أعاد الصلاة وحكاه ابن قدامة عن بعضهم فقال قال قتادة موضع الدرهم فاحش ونحوه عن النخعي وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم، انتهى، والثاني مذهب الثوري وابن المبارك أن الأكثر من قدر الدرهم يفسد الصلاة وهو مذهب الحنفية وسيأتي البسط في ذلك، والثالث مذهب أحمد لا يجب الإعادة وإن كان أكثر من الدرهم وكلام الترمذي هذا موهم لعدم فساد الصلاة عند أحمد مطلقًا ولذا اضطر الشيخ إلى توجيه بحمله على النسيان أو على الشرائط الساقطة وغير ذلك والحق أن في مسلك الإمام أحمد تفصيلاً في ذلك ففي المغني وإن صلى وفي ثوبه نجاسة وإن قلت أعاد إلا أن يكون ذلك دمًا أو قيحًا يسيرًا مما لا يفحش في القلب وأكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم والقيح وممن روى عنه ذلك ابن عباس وأبو هريرة وجابر وابن أبي أوفى وغيرهم، وقال الحسن كثيره وقليله سواء ونحوه عن سليمان التيمي لأنه نجاسة فأشبه البول ولنا ما روى عن عائشة في الدرح فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها رواه أبو داؤد وهذا يدل على العفو لأن الريق لا يطهر به ويتنجس به ظفرها وهو إخبار عن دوام الفعل ومثل هذا لا = يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدر إلا عن أمره ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعًا فظاهر مذهب أحمد أن اليسير ما لا يفحش في القلب وروى عنه أنه سئل عن الكثير فقال شبر في شبر، وفي موضع قال: قدر الكف فاحش وظاهر مذهبه والذي استقر عليه قوله في الفاحش أنه قدر ما يستفحشه كل إنسان، انتهى، فعلم من ذلك ما يوهم كلام المصنف عدم فساد الصلاة مطلقًا ولو أكثر من قدر الدرهم مقيد بعدم الفحش، والرابع مذهب الشافعي وسيأتي قريبًا.
* * * *
وإن كانوا قائلين بنجاسة الدماء إلا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان أسقط عنه الإعادة إذا صلى جاهلاً أو ناسيًا مع تلبسه بشيء منه قليل أو كثير وعلى هذا فلا فرق بين الشافعي رحمه الله تعالى وبينهم وإن أوجب الشافعي (1) رحمه الله تعالى تشدوا في غسله وعلى هذا فتصريح المؤلف بعزو عدم الإعادة إلى أحمد وإسحاق ليس لبيان الفرق بين مذهبه ومذهبهم بل المذهب واحد وإنما نسب إلى كل منهم ما وصل إليه من أقوالهم ولا يبعد أن يكون الطهارة من النجاسات عند أحمد وإسحاق من الأمور التي أمر بها من غير أن تكون شرط جواز وسقوط فرض كما سبق في أول الكتاب من مذهب مالك رحمه الله تعالى أنه لم يجعل الوضوء (2) شرطًا لإسقاط الفريضة وإن كان شرطًا للقبول وعلى هذا فلا يحتاج إلى بناء مذهبهما على الرواية التي ذكرناها آنفًا ويتبين الفرق بين مذهب الشافعي ومذهبها ويكون إيراد المؤلف قول كل منهما على ظاهره ويمكن أن يكونا قد جعلاها من الشرائط القابلة للسقوط كالاستقبال والقيام في حق المسبوق هذا، وأما ما ذكره من المذاهب
(1) هذا هو المذهب الرابع والذي حكى الترمذي من مذهب الشافعي تشددًا فيه هو قول له، ففي الأوجز: إن قوله الجديد أنه لا يعفى عنه وقوله القديم أنه يعفى عنه عما دون الكف، انتهى، قلت: وهذا الثاني هو مختار فروعه قاطبة من التحفة والإقناع والروضة والتوشيح وغيرها فكلمهم صرحوا بعفو ليسير من الدم فعلم أن ما حكاه الترمذي من مذهبه هو المرجوح من قوليه.
(2)
لم أر أحدًا لم يجعل الوضوء شرطًا وقال لصحة صلاة الحدث نعم المشهور عند المالكية كما تقدم في أول الكتاب أن الطهارة من الأنجاس ليس بشرط لصحة الصلاة.