الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
التعليل بالتَّفرُّد
قدمت في مدخل هذا الكتاب بيان أصل ما يعود إليه معنى التفرد، وأنه يساوي الغرابة، وبينت قسمي التفرد أو الغرابة: المطلق، والنسبي وأهم الصور التي يقع عليها التفرد.
كما ذكرتُ أن التفرد من حيث الجملة لا يعني ضعف الحديث فالأفراد فيها: الصحيح، والحسن، والضعيف المنكر.
والأصل في تفرد الثقات القبول، لا خلاف بين أهل العلم بالحديث في ذلك، وعلى هذا بنى أصحاب الصحاح كتبهم، وعليه جرى حكم الأئمة في تصحيح أكثر الحديث.
وعلى هذا جرى المبرزون من أئمة الحديث في معرفة علله، كأحمد وابن المديني والبخاري ومسلم، والرازيين، وغيرهم، يحتجون بأفراد الثقات.
مثل ما قال ابن أبي حاتم الرازي: سألت أبا زرعة عن حديث رواه علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الغار؟ قال أبو زرعة:" لا أعلم أنه رواه غير علي بن مسهر "، قلت له: هو صحيح؟ قال: " نعم، علي بن مسهر ثقة "(1).
(1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2833).
وحديث الغار الذي رواه هو حديث الثلاثة الذين أوَوا إلى غار فانطبق عليهم، فدَعوا بصالح أعمالهم، الحديث بطوله مُتفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3278) ومسلم (رقم: 2743) من طريق عليِّ بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر.
وهو حديث مَحفوظ عن نافع من وُجوه، لكن التفرُّد مشار إليه في كلام أبي زُرعة عَنى به عن عُبيد الله بن عُمر خاصّةً لا مُطلقاً.
وتحرير القول في الأفراد من جهة ما يكون سالماً محفوظاً أو معلولاً، كما يلي:
أولاً: تفرد الثقة بما لم يروه غيره مطلقاً، كحديث:" إنما الأعمال بالنيات " تفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يروه غيره.
فهذا التفرد صحيح محتج به، وأكثر الأحاديث الصحيحة من هذا.
لكن قد يختلفون فيه لشبهة، والتحقيق امتناعها وقبوله.
مثاله: ما رواه سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" نعم الإدَامُ الخلُّ "(1).
احتج به مسلم في " الصحيح "، وقال الترمذي:" حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث هشام بن عروة إلا من حديث سليمان بن بلال ".
وقال أبو عبد الله بن بطة الحنبلي: " ليس يعرف هذا الحديث من حديث عائشة إلا من هذا الطريق، ولا رواه عن هشام بن عروة غير سليمان بن بلال، وهو حديث صحيح، طريقه مستقيم، ولكن الحديث المشهور حديث جابر "(2).
(1) أخرجه الدَّارمي (رقم: 1977) ومسلم (رقم: 2051) والترمذي في " الجامع "(رقم: 1840) و " الشمائل "(رقم: 143) و " العلل الكبير "(2/ 769) وابنُ ماجة (رقم: 3316) وأبو عوانة في " مستخرجه "(5/ 402) وأبو نعيم في " الحلية "(10/ 30 رقم: 14403) والبيهقيُّ في " الكبرى "(10/ 62 _ 63) والخطيب في " تاريخه (10/ 30، 371 _ 372) والذهبي في " السير " (10/ 130، و12/ 229) من طرقٍ عن سليمان بن بلال، به.
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(10/ 372).
وقال الذهبي: " حديث صحيح غريب فرد على شرط الشيخين "(1).
وممن بقي عنده هذا الحديث من الحفاظ وكان يُقصد لأجله: الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وكان يرويه عن يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال، فقد جاء عنه أنه قال:" كان يقرع على بابي ببغداد، فأقول: من ذا؟ فيقول: يحيى بن حسان: نعم الإدَامُ الخلُّ "(2).
ولم يعرفه البخاري إلا من رواية يحيى بن حسَّان عن سليمان بن بلال، فيما نقله عنه الترمذي.
والصواب أنه معروف من رواية غير واحد عن سليمان، وإنما التَّفرد به من قبل سليمان.
وروي من طريق وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة، لكنه لا يصح (3)، وكذلك رواه أبو أويس المدني عن هشام، وأنكره أبو حاتم الرازي (4).
وقد ذهب بعض كبار النقاد إلى إنكار هذا الحديث:
منهم: أحمد بن حنبل (5).
وقال أحمد بن صالح المصري، وقد سئل عن هذا الحديث، وحديث
(1) سير أعلام النبلاء (12/ 230).
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(10/ 30).
(3)
أخرجه ابن جميع في " مُعجمه "(97 _ 98) ومن طريقه: الذهبي في " سير أعلام النبلاء "(9/ 167 _ 168)، وفيه شيخ ابن جُميع أبو بكر مُحمد بن الحسن البغدادي مَجهول.
(4)
في " علل الحديث " لابنه عبد الرحمن (2/ 19 _ 20)، وذكره عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن هشام، قال أبو حاتم:" هذا حديث منكر "، قلت: أبو أويس ليسَ بالقوي، وابنه مثله، ورواه مرّة أخرى عن غير أبيه بإسناد أثبت من هذا، كما سيأتي في سياق كلام أحمد بن صالح.
(5)
نقله ابنُ رجب في " شرح العلل "(1/ 477).
آخر في فضل التمر يرويان جميعاً بنفس الإسناد: " نظرت في كتب سليمان بن بلال، فلم أجد لهذين الحديثين أصلاً، وحدثني ابن أبي أويس، قال حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن رجل من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه سأل قوماً: ما إدامكم؟، قالوا: الخل، قال: نِعْمَ الإدَامُ الخلُّ "(1).
وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث بهذا الإسناد؟ فقال: " هذا حديث منكر بهذا الإسناد "(2).
قلت: سليمان بن بلال ثقة من أصحاب هشام بن عروة، ولكن عرضت الشبهة لمن أنكر روايته هذه من جهات ثلاث:
أولاها: كون الحديث معروفاً من حديث جابر بن عبد الله.
وثانيها: أن أحمد بن صالح لم يجده في كتب سليمان بن بلال.
وثالثها: أن ابن أبي أويس رواه عن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة على غير ما رواه سليمان.
وأقول: وهذه شبهات مردودة، لا يصلح بمثلها القدح على حديث الثقة.
فأما روايته من حديث جابر، فتلك بإسناد لا صلة له بهذا، وإنما هو حديث مستقل، واحتج به مسلم كما احتج بحديث عائشة.
وأما عدم وقوف أحمد بن صالح عليه في كتب سليمان، فلم يأتي عن سليمان أنه لم يكن يحدث إلا من كتبه، ولا أن أحمد بن صالح مع حفظه اطلع على جميع ما كان لسليمان من الأصول، على أن هذا الطعن يتوجه
(1) أخرج ذلك عن أحمد بن صالح: أبو الفضل بن عمار الشهيد في " علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج "(ص: 109 _ 110).
(2)
علل الحديث (2/ 292 _ 293).
إلى من دون سليمان، لكن له عنه طرق صحيحة لا مجال للطعن عليها في مجموعها.
وأما الاعتراض عليه برواية إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن أبي الزناد، فاعتراضٌ برواية الأدنى على الأعلى، فإسماعيل لم يكن بالمتقن مع صدقه، وابن أبي الزناد صدوق حسن الحديث لا يبلغ مبلغ سليمان في الثقة.
وبهذا المثال قايس في وجوب تحرير القول فيما تدعى عليه العلة، وهو من روايات هذا الصنف من الثقات.
ثانياً: تفرد الثقة من أصحاب من يدور عليهم الحديث، كتفرد حماد بن سلمة عن ثابت البناني بحديث، لا يرويه عن ثابت غير حماد، وقد يعرف عن غير ثابت.
فهذا صحيح محتج به.
ثالثاً: تفرد الثقة عن رجل ممن يدور عليهم الحديث، وليس ذلك الثقة من أصحاب ذلك الرجل، كتفرد معمر بن راشد عن قتادة بن دعامة السدوسي، بما لا يُعرف عند أصحاب قتادة المعروفين به، كشعبة بن الحجاج وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وغيرهم فهذا محل للتعليل.
كما قال مسلم بن الحجاج: " حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه، قبلت زيادته. فأما من تراه يعمد لمثل الزُّهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره،
…
أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث،
مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس " (1).
رابعاً: تفرد الصدوق الذي لم يبلغ في الإتقان مبلغ الثقات، كمحمد بن عمرو بن عَلْقَمَة، وعمر بن شعيب، وأسامة بن زيد اللَّيثي، بما لم يروه غيره مطلقاً.
فهذا مقبول بتحقيق ما يُطلب لحسن الحديث.
خامساً: تفرد الصدوق عن شيخ له، عرف بالاعتناء بحديثه والضبط له، كتفرد عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل شقيق بن سلمة، أو عن زر بن حبيش.
ومنه تفرد الصدوق المعروف بالاعتناء بحديث أهل بلده بشيء عنهم لا يرويه عنهم غيره، كتفرد إسماعيل بن عياش بحديث عن ثقة من أهل الشام.
ومنه تفرده في باب اعتنائه بما لم يروه غيره من أقرانه عن شيخ مشهور، كأفراد محمد بن إسحاق فيما سمعه من شيخ ثقة في أبواب السير والمغازي؛ لاعتنائه بهذا الباب وضبطه له.
سادساً: تفرد الصدوق عن مشهور من الثقات بما لا يوجد عند ثقات أصحاب ذلك المشهور، وليس لذلك الصدوق اعتناء بحديث الشيخ، كتفرد يحيى بن اليمان عن سفيان الثوري والأعمش بما لا يرويه أصحابهما عنهما.
فهذا محل للتعليل، وقد يبلغ النكارة، وربما اعتبر به إذا وجد له فيمن فوق الثوري أو الأعمش مثلا ً أصل.
ومن مثاله في الرواية: ما رواه محمد بن عمرو بن علقمة، قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش:
(1) مُقدمةُ صحيح مسلم (ص: 7).
أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا كان دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق "
…
(1).
قلت: هذا مما تفرد به محمد بن عمرو، وهو صدوق، ومثله لا يحتمل مثل هذا التفرد دون سائر أصحاب الزهري، بمتن لا يعرف في الباب عن غيره في جعل الفارق بين دم الحيض والاستحاضة هو اللَّونَ.
ولذا قال أبو حاتم الرازي حين سأله ابنه عن هذا الحديث: " لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر "(2).
(1) أخرجه أبو داود (رقم: 286، 304) _ ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى "(1/ 325) وابن عبد البر في " التمهيد "(16/ 64، و 22/ 105) _ والنسائي (رقم: 215، 362) وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني "(6/ 251 رقم: 3483) والدارقطني (1/ 206، 207) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1125) من طريق محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو.
تابع ابنَ المثنى: خلف بن سالم، حدثنا محمد بن أبي عدي، بإسناده نحوه.
أخرجه الدارقطني (1/ 207).
قال أبو داود بعد روايته المتقدمة (وهو عند من رواه من طريقه كذلك): وقال ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعدُ حفظاً، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة كانت تستحاض، فذكر معناه.
وهكذا أخرجه كما ذكره أبو داود من حديث عائشة، وساق لفظه: النسائي (رقم: 216، 363) _ وعنه: الطحاوي في " شرح المشكل "(7/ 154 رقم: 2729) _ وابن أبي عاصم (6/ 251 رقم: 3483) وابن حبان (4/ 180 رقم: 1348) والدارقطني (1/ 207) والحاكم (1/ 174 رقم: 618) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1125) جميعاً من طريق محمد بن المثنى، بإسناده به.
وذكر النسائي وابن أبي عاصم والدارقطني والخطيب عن محمد بن المثنى مثل ما ذكره أبو داود عنه عن ابن أبي عدي.
(2)
علل الحديث (رقم: 117).
قلت: والحديث صححه ابنُ حبان والحاكم، وليس كما قالا، وله علة أخرى بسْطها في محل آخر.