الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: الكتب المؤلفة في تمييز الأحاديث الموضوعة
.
اعلم أن الأحاديث الموضوعة في أزمان أولئك الكذابين كانت كثيرة، ولكن الله نفى أكثرها بأئمة الهدى الذين سخرهم للذب عن دينه، ففضح بهم أمر الكذابين، وكشفوا عن حقيقة أمرهم، وأبطلوا ما جاءوا به، ثم صنفت التصانيف الموثقة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد أصحابها إلى انتقاء الحديث فيها، متقين ما انكشف وظهر بطلانه ووضعه، وأكثروا تخريج أحاديث الثقات، وانعدم تارة وندر أخرى فيما خرجوه أحاديث الكذابين، خصوصاً تلك الكتب الأمهات المحتوية على تفاصيل السنن، والتي لا يكاد يخرج عنها من الحديث الصحيح إلا ما ندر.
فحين ترى مثلاً ما جاء عن الرجل الواحد من رءوس الكذب أنه وضع الآلاف من الحديث، فلا يغرنك هذا فتحسب له أثراً في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك كقول الحاكم النيسابوري: " مُحمد بن تميم الفاريابي، قد وضَعَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشْرة آلافِ حديث، وهُو قريبٌ من الجوباري "(1).
قول ابن حبان في (محمد بن يونس الكديمي): " يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث "(2).
فهذا وشبهه جميعاً مما لم يبق له وجود من رواية هؤلاء وأمثالهم إلا الشيء اليسير المتميز الذي تسلم منه أمهات السنة بفضل الله ونعمته، فله الحمد.
ولعل من حكمة بقاء ذلك اليسير أن يستدل به على كذب هؤلاء وفضيحتهم، وقد اعتنى ببيانه علماء الأمة، ولا يزالون.
(1) سؤالات مسعود السجزي (النص: 137).
(2)
المجروحين (2/ 313) .......
ومن أشهر المؤلفات فيه كتاب " الموضوعات " لأبي الفرج ابن الجوزي.
وهو كتاب نافع، غير أنه انتقد في مواطن منه، وعيب عليه فيه أمران أساسيان:
الأول: أنه أدخل فيه أحاديث لا تبلغ الوضع، بل الضعف، إنما هي من الحديث المقبول، وبعض ذلك في كتب " السنن" و " مسند أحمد "، بل فيه حديث هو في " صحيح مسلم "(1).
وأكثر من اجتهد في تعقبه في ذلك: جلال الدين السيوطي في كتاب " اللآلئ المصنوعة "، وكان قبله قد تعقبه العراقي وابن حجر فيما أورده في " الموضوعات " من أحاديث " المسند ".
والتحقيق: أن زعم أن يكون شيء مما أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " مما هو من قسم المقبول، محل بحث في أكثره، فقد يسلم فيه الحديث بعد الحديث، لكن أغلب ذلك مما اجتهد في دفع الضعف عنه بتكلف لا يخفى على من تأمله.
وإنما يصدق النقد لابن الجوزي في أنه حكم على ما ضمنه كتابه بالوضع، وفيه أحاديث كثيرة لا تهبط إلى ذلك القدر، بل هي من قسم الضعيف.
وعلة أوهام ابن الجوزي في كثير منها ناتجة عن التقليد لمن تقدمه كابن عدي والعقيلي وابن حبان، حيث يتابعهم في إيراد أحاديث انتقدوها
(1) وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك إن طالت بك مدة، أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله ". أخرجه مسلم (رقم: 2857)، وهو في " الموضوعات " لابن الجوزي (رقم: 1544)، وابن الجوزي قلد في إيراده ابن حبان في " المجروحين "(1/ 176)، فإنه قال:" خبر بهذا اللفظ باطل " .......
على بعض الرواة، ربما لم يحكموا عليها بأكثر من النكارة، فيوردها ابن الجوزي على أنها موضوعة.
والثاني: أنه بنى في نقده على إعماله الجرح غير المحرر في الراوي المختلف فيه، وأوهامه في هذا كثيرة في جميع كتبه التي تعرض فيها لنقد الأحاديث أو الرجال، فإنه يذكر الجرح ويقصر في التعديل، أو يغفله جملة، وغاية أمر الراوي أن يكون ضعيفاً لا يتهم.
قال الذهبي وذكر قدر معرفة ابن الجوزي بنقد الحديث: " أما الكلام على صحيحه وسقيمه، فما له فيه ذوق المحدثين، ولا نقد الحفاظ المبرزين، فإنه كثير الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، مع كونه كثير السياق لتلك الأحاديث في الموضوعات، والتحقيق أنه لا ينبغي الاحتجاج بها، ولا ذكرها في الموضوعات وربما ذكر في الموضوعات أحاديث حساناً قوية، ونقلت من خط السيف أحمد بن المجد (1) قال: صنف ابن الجوزي كتاب " الموضوعات "، فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل. ومما لم يصب فيه إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها، كقوله: فلان ضعيف، أو: ليس بالقوي، أو: لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا حجة بأنه موضوع، سوى كلام ذلك الرجل في راويه، وهذا عدوان ومجازفة "(2).
قلت: نعم، أكثر ما في كتاب " الموضوعات " من الحديث الأحاديث الموضوعة.
قال ابن تيمية: " الموضوع في اصطلاح أبي الفرج: هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه؛ ولهذا
(1) هو الحافظ سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى بن موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى سنة: 643).
(2)
تاريخ الإسلام (حوادث وفيات 591 _ 600)(ص: 300).