الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمراسيل هذه الطبقة صالحة تكتب ويعتبر بها.
الطبقة الثالثة: صغار التابعين، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة في الأمصار، الواحد والاثنين والعدد اليسير، كمن سمع من أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي أمامة الباهلي.
وهؤلاء مثل: ابن شهاب الزهري، وقتادة بن دعامة السدوسي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحميد الطويل، وشبههم.
فمراسيل هذه الطبقة ألصق بالمعضل منها بالمراسل، من أجل أن أكثر حديثهم حملوه عن التابعين، فإذا أرسل أحدهم فالمظنة الغالبة أن يكون أسقط من الإسناد رجلين فأكثر.
ولنقاد المحدثين نزاع في تقوية بعض المراسيل وتضعيف بعضها، وذلك تارة من جهة التسهيل في الاعتبار بها، لا من جهة كونها صحيحة صحة المتصل، وتارة: من أجل أن الاستقراء لتلك المراسيل دل على أنها محفوظة من وجوه ثابتة.
وفي الحالتين جميعاً ما يدل على أن المرسل ضعيف لذاته لنقص شرط الاتصال في الرواية، وإنما يكتسب القوة بسبب خارجي.
وهذه أمثلة من أقوالهم في طائفة من أئمة التابعين مختلفي الطبقات، تحرر ذلك إن شاء الله:
القول في مراسيل سعيد بن المسيب:
قال أحمد بن حنبل: " مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات "(1)، وقال:" مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته "(2).
(1) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ "(3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 571) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه البيهقي في " الكبرى "(6/ 42) وإسناده صحيح .......
وقال يحيى بن معين: " مرسلات سعيد بن المسيب أحسن من مرسلات الحسن "(1)، وقال:" أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب "(2).
قلت: أحسن المراسيل عندهم مراسيل ابن المسيب، وما ذلك من جهة صحة آحادها لذاتها، وإنما الشأن كما قال الحاكم:" تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله، فوجدوها بإسانيد صحيحة "(3).
وهل اتفقوا على تسليم ما استخلصوه بالاستقراء؟
لا، فهذا علي بن المديني يقول: قلت ليحيى بن سعيد: سعيد بن المسيب عن أبي بكر؟ قال: " ذلك شبه الريح "(4).
فهذا إمام النقاد يحيى بن سعيد القطان يضعف مرسل سعيد عن أبي بكر، فكيف يكون عنده ما يرسله سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
وطائفة نسبت إلى الشافعي أنه صحح مراسيل سعيد مطلقاً، واحتج بها، بل عدَّى بعضهم قوله إلى سائر الطبقة الأولى.
فما حقيقة قول الشافعي في ذلك؟
قال رحمه الله: ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب " (5).
وقال بعد أن ذكر من رواية ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وأتبعه بأثر عن أبي بكر، ومذهب جماعة من التابعين في النهي عن ذلك:" إرسال ابن المسيب عندنا حسن "(6).
وأصحاب الشافعي اضطربوا في تفسير مراده في قبول مرسل ابن المسيب، وذكر الخطيب لهم في تفسيره قولين:
أولهما: مرسل سعيد حجة، فإنه استدل به في النهي عن
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 957).
(2)
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث "(ص: 26) والخطيب في " الكفاية "(ص: 571) وإسناده صحيح.
(3)
معرفة علوم الحديث (ص: 26).
(4)
أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 243) وإسناده صحيح.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه "(ص: 232) ومن طريقه: الخطيب في " الفقيه والمتفقه "(1/ 533) وإسناده صحيح.
(6)
مختصر المُزني (ص: 78)، وأخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 571).
بيع اللحم بالحيوان، وجعله أصلاً لذاته.
وثانيهما: ليس بحجة، والشافعي لم يقل: هو حجة، وإنما رجح به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يثبت به الحكم لذاته.
قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح، وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه "(1).
وقال الخطيب أيضاً: " أما قول الشافعي: وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، فقد ذكر بعض الفقهاء أن الشافعي جعل مرسل ابن المسيب حجة؛ لأن مراسيله كلها اعتبرت فوجدت متصلات من غير حديثه، وهذا القول ليس بشيء؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد متصلاً من وجه بتة، والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح بمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلاً من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلاً يحتج به "(2).
قلت: وهذا الذي رجحه الخطيب ذهب إليه قبيله الحافظ البيهقي ،
(1) الكفاية (ص: 572) .......
(2)
الفقيه والمتفقه (1/ 546).
وهو من هو في معرفة أدلة الشافعي ومذهبه، فإنه قال:" الشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها،. . وإذا لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبله، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره، وقد ذكرنا. . مراسيل لابن المسيب لم يقل بها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قد قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ "(1).
قلت: من ذهب إلى أن الشافعي كان يرى مراسيل ابن المسيب جميعاً حجة، فإنما استفاد ذلك من نص الشافعي حيث قال في جواب من قال له: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره؟ قال: " قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا أثره عن أحد فيما عرفناه عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول، ويسمي من يرغب عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض من لم يلحق من أصحابه المستنكر الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم، ولم نحاب أحداً، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناه من صحة روايته "(2).
قلت: والتحقيق أن الشافعي يبين في هذا قوة مراسيل سعيد، من جهة أنها جاءت من وجوه صحيحة، فهو لم يقل: مرسل سعيد حجة لذاته، أو صحيح لذاته، إنما هو صحيح من جهة مجيئه من غير ذلك الوجه المرسل متصلاً محفوظاً، فصحته عنده حاصلة بأمر خارج عن نفس روايته المرسلة.
يؤيد ذلك أن هذا النص منه إنما جاء عقب استدلاله بمرسل لسعيد في (الرهن)، ساقه من بعد من طريق موصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي
(1) مناقب الشافعي، للبيهقي (2/ 32).
(2)
الأم (7/ 159) .......
عنى بقوله آخر النص المتقدم: " ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناك من صحة روايته "(1).
وتقوية المرسل بالقرائن، كان الشافعي قد أصل له تأصيلاً دقيقاً في " الرسالة "، سيأتي في (الفصل الثالث).
ومما يلحق بهذه المسألة المختصة بأن المسيب، أن أهل العلم قبلوا ما رواه ابن المسيب عن عمر بن الخطاب، وأجروه مجرى المسند، وهو لم يسمع منه أكثر ما حدث به عنه، فقد كان صغيراً يوم قتل عمر، رضي الله عنه.
لكن كما قال مالك بن أنس: " ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه "(2) يريد حتى كأنه كان أخذ ذلك عنه؛ لأن رؤيته له صحيحة.
وذكر مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره.
بل قال فيه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو تلميذه: " يسمى رواية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته "(3).
ومن أجل الإدراك في الجملة، وصحة النقل لمادة ما نقله عن عمر، قال أحمد بن حنبل:" هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يُقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ "(4).
والقاعدة أن يكون هذا ضعيفاً لذاته لانقطاعه، لكن قبول السلف له، مع ما ينضم إليه من كونه مذاهب عمر في القضاء وشبهه، ومثله ليس من
(1) انظر: تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقَّن (1/ 137).
(2)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة "(1/ 468) بإسناد حسن.
(3)
أخرجه يعقوب بن سفيان (1/ 470 _ 471) بإسناد صحيح.
(4)
الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 61) .......