الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا مما رواه كل منهم بسياق غبر سياق الآخر، لكن اتفقوا فيه على المعنى، فكانت قرينة على المفارقة، كذلك معلوم أن الثلاثة من التابعين تفاوتوا تفواتاً بيناً في تباعد الطبقات، فقيس من كبار التابعين كاد أن يكون صحابياً، أدرك وروى عمن لم يدركه عامر وإبراهيم، إذ عامر من أوساط التابعين، وإبراهيم له شرف التابعية وأكثر روايته عن أصحاب ابن مسعود وعلي، وهذا التفاوت بين الثلاثة مفارقة أخرى (1).
مناقشة قول الشافعي فيما يتقوى به المرسل:
قال الشافعي: " من شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور:
منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده، قبل ما ينفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر:
هل يوافقه مرسل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟
فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يوجد ذلك، نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله.
(1) خرَّجت الحديث في كتابي " أحكام العورات "، وذكرْتُ فيه أنَّ إسحاق بن راهويه ممن احتجَّ به.
وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه " (1).
قلت: وهذا عند الشافعي في تقوية مرسل التابعي الذي له قدم في التابعية، من أجل استثنائه مراسيل الصغار منهم، فإنه قال بعد:
" فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم منهم واحداً يقبل مرسله؛ لأمور:
أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه.
والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر: كثرة الإحالة.
كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه " (2).
وذكر من حجته: الزهري وما له من المنزلة في الإتقان والحمل عن الثقات، ومع ذلك فربما أحال على غير مليء ودلسه، مثل سليمان بن أرقم.
وبين الشافعي عذره بقوله: " رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبل عنه وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروى عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب، لم يؤمن مثل هذا على غيره "(3).
(1) الرسالة (ص: 461 _ 463) .......
(2)
الرسالة (ص: 465 الفقرة: 1277).
(3)
الرسالة (ص: 470 الفقرتان: 1304، 1305) .......
قلت: هذا نص الشافعي في تقوية المرسل، قد صار فيه إلى التفريق بن مراسيل الكبار والصغار، فمنعه في مراسيل صغار التابعين، وقواه في مراسيل الكبار بقرائن، حاصلها:
1 _
تقوية المرسل بالمتصل المحفوظ من طريق أخرى، وهذا ظاهر.
2 _
تقوية المرسل بمرسل مثله بشرط أن لا يكون شيوخ أحدهما شيوخ الآخر.
3 _
تقوية المرسل بالمنقول عن آحاد الصحابة قوله.
4 _
تقوية المرسل بجريان الفتوى عند أهل العلم على وفقه.
وظاهر كلامه أن تكون تقويته بالقرائن الثلاثة الأخرى مشروطة كذلك بأن لا يعرف عن ذلك التابعي عادة أنه يروي عمن يرغب عن الرواية عنه من المجهولين والضعفاء، والذي من أجله منع القول بتقوية مراسيل صغار التابعين.
وقبل نقد التقوية بالطرق الثلاثة الأخريرة، يجب أن تلاحظ أن الشافعي لم يقل في شيء من عبارته: هذه القرائن تصحح نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما بين أنها تثبت لما دل عليه المرسل أصلاً فلا يقال فيه: منكر، أو العمل به مردود، مع الميل بما دل عليه إلى جانب القبول، من أجل القرينة.
وهذا المعنى في الواقع حاصل في شأن أكثر أحاديث الضعفاء، فإنك تجدها تفيد أحكاماً هي معلومة من غير ذلك الوجه، لكن لا تجد من القرائن ما يجعلك تصحح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه قال أو فعل، إنما تتبع ما هو معلوم الثبوت بغير هذا الطريق الضعيف، وقد تذكر الضعيف استئناساً.
فإذا تبين هذا، فاعلم أن ما جعله الشافعي قرائن مقويات للمرسل لا يخلو منه شيء من الاحتمالات المضعفة:
فما ذهب إليه في تقوية المرسل بالمرسل، واشتراط التغاير في
الشيوخ مما يعسر تحققه في الواقع إلا على سبيل الظن الغالب؛ لأن احتمال أن يكون مرجع المرسلين إلى أصل واحد باق وإن تغايرا في الشيوخ، فلا ينفك مثلاً سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير من الرواية عن شيخ من الصحابة، لكن حيث إن محل اتفاقهما يغلب أن يكون فيمن يسقط ذكره من الصحابة، فإن مظنة التلقي لذلك الحديث عن واسطة مجروحة تصبح في غاية الضعف.
فيتجه ما ذكره الشافعي في هذا، لغلبة مظنة التغاير في الواسطة، أو لغلبة أن تكون هي الصحابي، ولا يضر عود الحديث إليه من طريقيه وإن كان واحداً؛ إذ ليس الصحابي محلاً للضعف.
وأما التقوية بما جاء عن الصحابة موافقاً له، فإن الصحابي قد يقول الشيء بمجرد رأيه، ويكون المرسل بلغه ذلك القول عن الصحابي فظنه حديثاً فأرسله، وهذا قد يدفع أثره قليلاً كون المرسل من الثقات الحفاظ كسعيد بن المسيب، فيكون الشافعي قد اعتبر وفاق رأي الصحابي علامة على أن لرأيه أصلاً من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .......
وهذا أمر يجب تحريره في نماذج حقيقية جاءت على هذه الصفة، فإن من قال من أهل الفقه والأصول بصحة الاحتجاج بمذهب الصحابي، كان هذا مما اعتمدوا عليه، أن الصحابي لا يمكن أن يقول بالشيء دون أصل، لكن هذا الظن الحسن لا يصلح أن يكون مستنداً في تصحيح نسبه قول إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقصت فيه بعض صفات القبول، ولم يأت له من درجته ما يشده، إنما يقع به تعضيد الحكم المستفاد من ذلك الحديث، وقد لا يبلغ بتلك القوة الثبوت.
والتقوية بموافقة قول الفقهاء أضعف من التقوية بالموقوف (1).
(1) وانظر معنى هذا النقد في كلام ابن رجب في " شرح علل الترمذي "(1/ 305).