الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول: اختلاف غير قادح
.
ولهذا صور، منها:
الصورة الأولى: أن تتكافأ الطرق قوة عن راو ثقة، يروي حديثاً، فيقول فيه مرة:(عن فلان)، ومرة:(عن رجل آخر)، لا على سبيل الشك، وإنما افتراق الوجهان بافتراق طرق كل عن ذلك الثقة.
مثل أن يروي بعض أصحاب سهيل بن أبي صالح حديثاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وغيرهم عنه عن أبيه عن أبي سعيد.
فهذا لا يخلو من واحد من احتمالين:
أولهما: أن يكون صوابه من أحد الوجهين، فيكون أخطأ فيه ذلك الثقة، وقد يترجح الصواب بعينه بقرينة، فيصار إليه، وقد لا يترجح شيء، فتقبل الرواية أيضاً؛ لأنه غاية أمرها أن تكون محفوظة بأحد الإسنادين.
وثانيهما: أن يكون محفوظاً من الوجهين جميعاً.
وهذا طريق لا يصار إليه إلا إذا كان ذلك الثقة ممن لا يعاب من مثله تعدد الأسانيد، من مثل الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، ومنصور بن المعتمر، وشبههم.
وطائفة من المتأخرين يصيرون إلى ترجيح الاحتمال الثاني، بعضهم يقول:" ذلك أولى من تخطئة الثقة "، وبعضهم يجعله منه من أجل ثقته قوة للحديث أن حفظه من وجهين.
كما قال ابن حزم في مثل هذا: " هذا قوة للحديث وزيادة في د لائل صحته ".
فقال مثلاً في المثال المذكور: " في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة، ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا، ومرة عن هذا "(1).
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 149).
والتحقيق: أنه لا يكون علة قادحة؛ من أجل أن كلا الاحتمالين لا يمنع القول بثبوت الحديث.
ومن أمثلة ما يقوى فيه ترجيح الاحتمال الثاني:
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ".
رواه أبو رجاء العطاردي، فاختلف عنه، فرواه عوف بن أبي جميلة وسلم بن زرير وقتادة وأيوب السختياني من طريق صحيح عن أبي رجاء عن عمران بن حصين. ورواه أيوب السختياني في أكثر الطرق عنه وأبو الأشهب جعفر بن حيان وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن ابن عباس.
وأخرج الحديث الشيخان: البخاري من حديث عمران بن حصين (1)، ومسلم من حديث ابن عباس (2).
وقال الترمذي: " كلا الإسنادين ليس فيهما مقال، ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعاً "(3).
ورواه أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا أبو الأشهب، وجرير بن حازم، وسلم بن زرير، وحماد بن نجيح، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، وابن عباس، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، به (4).
قلت: وهذا _ فيما أرى _ من صنيع أبي داود أشبه، حمل رواية بعضهم على بعض، وهو مرجح لما ذهب إليه الترمذي.
(1) صحيح البُخاري (رقم: 3069، 4902، 6084، 6180).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 2737).
(3)
جامع الترمذي (بعد الحديث رقم: 2603).
(4)
مُسند الطيالسي (رقم: 833).
الصورة الثانية: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثاً بإسناد معين، وينفرد ثقة متقن عنهم، فيرويه عن ذلك الثقة بإسناد آخر للحديث.
مثاله: ما رواه عامة أصحاب الأعمش عنه، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال اليهود إياه عن الروح، ونزول قوله تعالى:{ويسألونك عن الروح} .
كذلك قال في إسناده عن الأعمش: وكيع بن الجراح، وأبو معاوية الضرير، وحفص بن غياث، وعيسى بن يونس، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم (1) وهؤلاء من الحفاظ الأثبات من أصحاب الأعمش.
خالفهم عبد الله بن إدريس الأودي، فقال: عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود، به (2).
وابن إدريس ثقة حافظ لا يختلف فيه.
وهذه الرواية تختلف عن الأولى، لكنها لا تناقضها، ويخاف من مثلها من راو صد وق لم يعرف بمتانة الحفظ، أو كان ثقة قليل الحديث، فلا يحتمل أن يأتي بمثل هذه المخالفة؛ لعدم تبين إتقانه لمثلها لقلة ما جاء به، بل ربما كان مجيء مثل هذه الرواية عنه دليلاً على لينه.
أما من ثبت كونه من الثقات المتقنين المكثرين، فالأصل: أن نقبل ما
(1) أخرجه أحمد (6/ 214، و 7/ 280 رقم: 3688، 4248) والبخاري (رقم: 125، 4444، 6867، 7018، 7024) ومسلم (رقم: 2794) والترمذي (رقم: 3141) والنسائي في " التفسير "(رقم: 319) والهيثم بن كليب الشاشي (رقم: 369) وأبو يعلى (9/ 267 رقم: 5390) والبزار (رقم: 1529) وابن أبي عاصم في " السنة "(رقم: 592، 593) وابن جرير في " تفسيره "(15/ 155) والطبراني في " الصغير "(رقم: 981) وابن حبان (رقم: 98) والواحدي في " أسباب النزول "(ص: 299) من طرق عِدة عن الأعمش.
وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2)
أخرجه أحمد وابنه عبد الله (7/ 13 رقم: 3898) ومسلم (4/ 2153) وابن أبي عاصم في " السنة "(رقم: 593، 594) وابن حبان (رقم: 97).
روى حتى يقوم دليل على خطئه، وليس مما يدل على خطئه أن يستقل دون الجماعة بما لا يروونه، وإنما يروي ما يناقض رواية الجماعة، ولا يكون له مخرج سوى الحكم بخطئه أو بخطأ الجماعة، وحيث امتنع الثاني، فقد تعين الأول، وهو (الشذوذ) كما سيأتي.
والدارقطني متشدد، وقد يعل رواية الثقة بمجرد المخالفة وإن لم تكن مناقضة لرواية من هو أولى منه، ولكنه قال في هذا الحديث وقد ذكر مخالفة ابن إدريس للجماعة:" ولعلهما صحيحان، وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابع على هذا القول "(1).
وهكذا دل صنيع مسلم حيث أخرج الحديث بالروايتين، وقال ابن حبان عقب إخراجه الحديث من رواية ابن إدريس التي تفرد بها:" ذكر البيان بأن الأعمش لم يكن بالمنفرد في سماع هذا الخبر من عبد الله بن مرة دون غيره " وساق روايته عن إبراهيم كما رواها عنه الجماعة، فأفاد تصحيح الخبر من الطريقين.
بل في سياق رواية مسلم ما يشعر بوقوع الحديث لابن إدريس من الوجهين، حيث قال:" سمعت الأعمش يرويه عن عبد الله بن مرة " وذكر إسناده، فكأنه يقول: هذا الحديث الذي رواه الأعمش عن إبراهيم سمعته كذلك يرويه عن عبد الله بن مرة.
وكذلك وجدته رواه عبد الله بن محمد الكرماني، وهو ثقة، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله (2).
وهذه كرواية الجماعة، دلت على وقوع الحديث لابن إدريس من
(1) العلل (5/ 252).
(2)
أخرجه الهيثم بن كليب في " مُسنده "(رقم: 370) قال: حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا عبدُ الله بن محمد، به. وإسناده صحيح. وكذلك وقفت عليه منقولاً عن " تاريخ ابن أبي خيثمة " في " شرح العلل " لابن رجب (2/ 721).