الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والواجب حصْرها بالمخالفة التي لا وجه لها، وقامت الحُجة على الخطأ فيها، لتعذّر جمعها إلى رواية الأحفظ.
النوع الثاني: مُخالفة القرآن
اعلم أنه يُخطئ على هذا العلم من أقام المعارضة بين القرآن والحديث يَزعم صِحته، فالمفارقة بين طريقي نقلهما كافيةٌ للقضاء أن لا يوجد حديث يقوم لمعارضة القرآن.
لذا ما يُمكن تصور وُجوده من ذلك إن كان ظاهرُه الصحة نقلاً، فلا يَخلو من أحد حاليين:
الأول: أن تكون المعارضة بينه وبين القرآن لا تعدو أن تكون غلطاً من مُدعيها، لا غلطاً في نفس الأمر، وهذا يكون تارةً وهْماً، وتارة هوىً.
والثاني: أن تكون مُعارضة حقيقة، وعندئذ لا يَسلم الإسناد من علةٍ خفيَّة.
والمقصود: منع وُقوع التعارض الحقيقي بين آية من كتاب الله، وحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا على معنى وُجود النسخ، وواقع الحال: امتناع أن يأتي حديث يَسلمُ من علةٍ، يُعارض آية من كتاب الله، وإنما توجد أمْثلة من الحديث يحسبها بعْض المشتغلين بالحديث صحيحة، ولم يقفوا على عِللها، ووجدها غيرُهم مما يخالف القرآن.
وعرض الحديث على القرآن طريقٌ من طُرق فحصه، اعتبره أئمة هذا العلم وبنوا عليه التعليل لبعض الحديث الآتي على خلافه.
وقد روي في اتباع هذا المنهج في عرض الحديث على القرآن حديثٌ ضعيف.
فعن عليِّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها تكون بعدي
رُواةٌ يرون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فُخُذوا به، وما لم يُوافق القرآن فلا تأخذوا به " (1).
كما روي معناه من وُجود أخرى، ولا يثبت في هذا خبرٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ولسْنا بحاجة إلى مثله لإقرار صِحة هذا المنهج، فإن القرآن حكمٌ
(1) أخرجه الدارقطني في " سننه "(4/ 208 _ 209) من طريق جُبارة بن المغلس، والهروي في " ذم الكلام " (ص: 170) من طريق أبي كُريب محمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب، به.
قال الدارقطني: " هذا وهْم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مُرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
قلت: وعلته من جهة ضَعف حفظ أبي بكر بن عياش، ولذا حكم الدارقطني بوهم هذا الإسناد. كما أخرج ابن حزم في " الإحكام "(2/ 76) من وجه آخر عن علي، وإسناده واهٍ.
(2)
رُوي فيه كذلك من حديث ثوبان وعبد الله بن عمر، فأما حديث ثوبان، فعنْه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن رَحى الإسلام دائرة "، قال: فكيف يُصنع يا رسول الله؟ قال: " اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو مني، وأنا قلته ". أخرجه الطبراني في " الكبير "(2/ 94 رقم: 1429) وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو منكر الحديث عن أبي الأشعث.
وأما حديث ابنِ عُمر، فأخرجه الطبراني كذلك (12/ 316 رقم: 13224) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سُئلت اليهود عن موسى، فأكثروا، وزادوا، ونقصوا، حتى كفروا، وسُئلت النصارى عن عيسى، فأكثروا فيه، وزادوا، ونقصوا، حتى كفروا، وإنه سَيفشو عني أحاديث، فما أتاكم من حديثي فاقرأوا كِتاب الله واعْتبروه، فما وافق كتاب الله فأنا قُلته، وما لم يُوافق كتاب الله فلم أقله ". قلت: وفي إسناده أبو حاضرٍ يرويه عن الوَضين بن عطاء، قال أبو حاتم الرازي:" مجهول "(علل الحديث 2/ 133)، وسماه غيرُ واحد من الأئمة (عبد الملك بن عبد ربِّه) وقال الذهبي في " الميزان " (2/ 658):" منكر الحديث، وله عن الوليد بن مسلم خبرٌ موضوع "، وذكره ابنُ حبان في " ثقاته "(7/ 99) فلم يُصب.
كما رُوي فيه بعض المراسيل، لم تقتصر عِللها على الإرْسال، إنما في أسانيدها من العلل سِواه.
على ما سواه، ووجدْنا في صنيع بَعْض أعيان أئمة الصحابة من استعمل هذا المنهج في نقد الروايات.
وذلك مثل: ما صحَّ عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين حدثت فاطمة بنْت قيسٍ بقصتها في سُكنى المطلقة:
فعن أبي إسحاق السبيعي، عن الشعبي، عن فاطمة بنْت قيس، قالت: طلقني زوجي، فأردت النُّقلة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" انْتقلي إلى بيت ابن عمك عمْرو بن أم مكتوم، فاعتدَّي فيه ". فحصبه (1) الأسود، وقال ويْلك، لم تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة:{لا تُخرجوهنَّ من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة بينة} [الطلاق: 1](2).
(1) هذا من قوْل أبي إسحاق، والأسود هو ابن يزيد النخعي، حَصبَ عامراً الشعبي حين حدَّث بهذا.
(2)
حديث صحيح.
أخرجه بهذا السياق النسائي في " الكبرى "(رقم: 5743) وأبو عوانة (رقم: 4617) من طريق الأحوص بن جوَّاب، قال: حدثنا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق، به. وإسناده جيد.
وتابع الأحوص عليه: قبيصَة بن عقبة، عند أبي عوانة (رقم: 4618) والدارقطني (34/ 26) مثله.
ويحيى بن آدم عند الدارقطني أيضاً وأبي نُعيم (رقم: 3504) بنحوه.
كذلك تابعهم: أبو أحمد الزُّبيري، عند مسلم في " صحيحه " (2/ 1118 _ 1119) وأبي داود (رقم: 2291) وأبي عوانة (رقم: 4615، 4616) والطحاوي في (شرح المعاني)(3/ 67) والدارقطني (4/ 25) وأبي نعيم (رقم 3504) والبيهقي في " الكبرى "(7/ 475)، وفي لفظه:" لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة ".
لكنَّ ذكرَ (السنة) أعله الدارقطني، من أجل تفرُّد أبي أحمد الزبيري دون سائر من رواه، غير أني وجدت في سياق رواية يحيى بن آدم عند أبي نعيم في " المستخرج " ما يُوافقها.
وانظر تعليل الدارقطني في: " السُّنن "(4/ 26) و " العلل "(2/ 141).
كما رواه سُليمان بن معاذ الضبي عن أبي إسحاق، بنحو رواية الأحوص، دون ذكر (السنة)، أخرجه أبو نعيم (رقم: 3505)، لكن سُليمان هذا لين الحديث.
وحسِبَ بعْض الناس أن سبب رد عمرَ رواية فاطمة من أجل كونها امرأة، وليس كذلك، فقد قبل عمر وغيره روايات النساء كعائشة وغيرها، ولا معنى للتعليل بكونها امرأة، وإنما حين عرض ما روت على القرآن، قامت عنْده الشبْهة في قبول رواية تأتي في ظاهرها على خلاف عموم دلالة القرآن، لذا قال في رواية أبي أحمد:" لا ندري لعلها حَفظت أو نسيت "، وطلب على قولها شاهدين، وهذا قد فعل عمر نظيره في رواية بعضِ الرجال من الصحابة، كأبي موسى الأشعري في قصة الإستئذان.
وكانت أم المؤمنين عائشة تعرض ما يبلغها من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتاب الله، وكانت ترد من ذلك ما يأتي على خلاف القرآن، في وقائع عدة.
كقصتها في تخطئة عمر وابنه عبد الله عندما حدثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه "، فقالت عائشة: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهل عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهل عليه "، وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى} [الإسراء: 15].
وقالت في رواية: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ (1).
وعن عروة بن الزبير، قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه "، فقالت: وَهل (2)، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن "، وذاك مثل قوله (3): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال:" إنهم ليسمعون ما أقول "، وقد وهل، إنما قال:" إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " ثم
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1226) ومُسلم (2/ 640 _ 642)، والرواية الأخرى له.
(2)
أي: غلط ونسي.
(3)
تعني ابن عمر.
قرأت: {إنك لا تسمع الموتى} الآية [النمل: 80]، {وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: 22] (1).
قلت: في هذا الذي استدركته عائشة في الجملة مناقشة وكلام، ولكن المقصود أن من أعيان الصحابة من كان يعرض ما يبلغه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ولا يقبل منها ما أتى على خلافه.
وسئل الأوزاعي: أكل ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقبله؟ فقال: " نقبل منه ما صدقه كتاب الله عز وجل، فهو منه، وما خالفه فليس منه "، فقيل له: إن الثقات جاءوا به؟ قال: " فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات؟ "(2).
ومن أمثلته في نظر المتقدمين ما سأذكره عن الشافعي في النوع التالي.
…
وتعليل بعض أهل العلم لحديث أبي هريرة، قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال:" خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل "(3).
فهذا رده جماعة من محققي الأئمة، وأقوى مستند في رده معارضة القرآن، فإنه إذا استثني اليوم السابع في خلق آدم، فإن الحديث دل على أن الأرض خلقت في ستة أيام، والله عز وجل يقول في كتابه:{قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} [فصلت: 9، 10]، أي فعدة مدة خلق الأرض بما فيها أربعة
(1) أخرجه مسلم (رقم: 932).
(2)
أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه "(1/ 271) وإسناده جيد.
(3)
أخرجه مسلم في " صحيحه "(رقم: 2789).