الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثالث: ضبط الرواة
.
والمعتبر في الضبط أن يكون الراوي حافظاً لحديثه، إما عن ظهر قلب، وإما في كتاب متقن صحيح، بحيث يقدر على أداء الحديث كما سمعه، لفظاً أو معنى، على ما تقدم شرحه في القسم الأول.
واعتبار الحفظ شرط لا يختلف فيه لصحة الحديث.
وأما فقه الراوي فوجده ليس علامة على كونه ضابطاً؛ فإن من الفقهاء من كان همه الاستدلال للمسألة، فلا يبالي كيف ساق متن الحديث، فربما تصرف في لفظه وحدث به على ما فهم، وهذا كثير شائع في كتب الفقه.
كما أن طائفة منهم لغلبة اعتنائها بالفقه فإنهم لم يكونوا يقيمون الأسانيد، فتراهم تكثر في رواياتهم المراسيل، وحمل اللفظ على اللفظ، وإدخال حديث في حديث، مثل الفقيه: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1).
لا ريب أن الفقه إذا انضم إلى الحفظ فهو مزية للتقديم، ولكنه ليس بشرط يطلب لصحة الحديث.
وقد كان أئمة السلف يعتبرون فقه الراوي مع حفظه مرجحاً على مجرد الحفظ، وإنه والذي نفسي بيده لجدير بذلك.
كما جاء عن وكيع بن الجراح، قال:" أيما أحب إليكم: سفيان عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي؟ أو سفيان عن منصور، عن إبراهيم، قال: قال علي؟ "، قيل له: أبو إسحاق عن عاصم عن علي، قال:" كان حديث الفقهاء أحب إليهم من حديث المشيخة "(2).
(1) انظر: المجروحين، لابن حبان (1/ 93) .......
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 25) وإسناده صحيح.
كذلك قال الثقة عبد الله بن هاشم النيسابوري: قال لنا وكيع: " أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله؟ أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ "، فقلنا: الأول، فقال:" الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، ومنصور فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه، وحديث يتداوله الفقهاء خير مما يتداوله الشيوخ "(1).
وكان مالك بن أنس لا يحمل الحديث عمن لم يكن يفهمه، حيث قال:" لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئاً، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافاً: فمنهم من كان كذاباً في غير علمه، تركته لكذبه، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله، ومنهم من كان يدين برأي سوء "(2).
وقال مالك: " أدركت بالمدينة مشايخ أبناء مئة وأكثر، فبعضهم قد حدثت بأحاديثه، وبعضهم لم أحدث بأحاديثه كلها، وبعضهم لم أحدث من أحاديثه شيئاً، ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا، إلا أنهم حملوا شيئاً لم يعقلوه "(3).
وقد شدد ابن حبان، فجعل الفقه شرطاً في راوي الحديث الصحيح، وبين علة ذلك بقوله: " إذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهاً وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغير المعنى؛ حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلي شيء ليس منه وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي
(1) أخرجه ابن عدي في" الكامل "(1/ 172) والحاكم في " تاريخه "(كما في " السير " 12/ 328 ـ 329) والسياق له، والبيهقي في " المدخل " (رقم: 14، 15) وإسناده صحيح. وأخرجه الرامهرمزي (ص: 238) عن شيخٍ مجهول بإسناده إلى ابن هاشم. كما أخرجه الحاكم في " المعرفة "(ص: 11) والخطيب في " الكفاية "(ص: ) من رواية علي بن خشرم، عن وكيع.
(2)
أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 65) بإسناد صحيح.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 67) وإسناده حسن.
الاحتجاج بخبر من هذا نعته، إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار " (1).
قلت: وهذا تعليل ذاهب الأثر باشتراطنا الإتقان للمحفوظ؛ إذ القلب في الرواية وتغيير المعنى مظنة لا تجتمع في الراوي مع نعته بالحفظ.
قال الخطيب: " إن لم يكن من أهل العلم بمعنى ما روى لم يكن بذلك مجروحاً؛ لأنه ليس يؤخذ عنه فقه الحديث، وإنما يؤخذ منه لفظه، ويرجح في معناه إلى الفقهاء، فيجتهدون فيه بآرائهم "(2).
واستدل لذلك بحديث: " نضر (3) الله امرأ سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه. . " الحديث (4).
قلت: وهذا الذي قاله الخطيب هو الصواب، ولو تأملت حال أكثر النقلة الثقات لم تجدهم ممن عرف بالفقه، أو حتى ذكر به أصلاً، فالعبرة بثقة الراوي وصحة الإسناد.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صح مثل حديث سعيد وأبي سلمة، والرواية عن علقمة والأسود عن ابن مسعود، والرواية عن سالم عن ابن عمر، إذا رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال:" كل ثقة، وكل يقوم به الحجة إذا كان الإسناد صحيحاً "(5).
وذكر ابن رجب كلام ابن حبان المتقدم، وقال: " وفيما ذكره نظر،
(1) المجروحين (1/ 93) .......
(2)
الكفاية (ص: 157).
(3)
بالتخفيف أصح، وانظر ما تقدم من تعليقٍ بخصوصه في (المبحث السابع) من مباحث (تفسير التعديل).
(4)
سبق تخريجه في القسم الأول في المبحث المشار إليه في التعليق السابق.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 25) وإسناده صحيح.