الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس:
الحديث الشاذ
الشذوذ هو: مخالفة الثقة في روايته لمن هو أقوى منه، وقعت المخالفة في المتن أو السند.
والأقوى منه قد يكون ثقة آخر، وقد يكون عدداً حاصلاً بمجموعهم رجحان إتقانهم على إتقانه.
كما أنه إذا وقع فقد يكون في سند أو بعض سند، ومتن أو بعض متن.
وقد عرفه الشافعي بقوله: " ليس الشاذ من الحديث: أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث: أن يروي الثقات حديثاً، فيشذ عنهم واحد، فيخالفهم "(1).
وعرفه الحاكم بقوله: " حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة "(2).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه "(ص: 233) بإسناد صحيح ، ونحوه (ص: 234).
(2)
معرفة علوم الحديث (ص: 119)، وفي سؤالات مسعود السجزي له (النص: 150) قال: " بهْز بن حكيم بن معاوية بن حيْدة القشيري من ثقات البصريين ممن يُجمع حديثه، وإنما أسقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذةٌ لا مُتابع لها في الصحيح ". قلت: بل لم يُخرجاها لأنها دون شرطهما في القوة، وإلا فهي جيدة قوية .......
ثم استدل بتعريف الشافعي للشاذ، وبين التعريفين مفارقة، وهي أن الشافعي اشترط لصحة الوصف بالشذوذ المخالفة من قبل الثقة، واقتصر الحاكم على مجرد تفرد الثقة بما لم يأت عن غيره.
والتحقيق أن تعريف الشافعي يبطل تعريف الحاكم الذي استشهد به، فإنه نفى أن يكون الشذوذ تفرد الثقة، والحاكم يجعله تفرد الثقة، وأكده بالمثال الذي مثل به، وهو حديث معاذ بن جبل في جمع الصلاتين في غزوة تبوك، وهو حديث لم تأت في إسناده ولا في متنه مخالفة من ثقة، ولكنه حديث فرد.
والحاكم حكم عليه بالشذوذ، بل زعم أن الحديث موضوع، مع أنه قال:" لا نعرف له علة نعلله بها "(1).
والتحقيق: أن تفرد الثقة بحديث من غير مخالفة لا يعد من الشذوذ، بل وقوع المخالفة شرط في الشذوذ، أو ما ينزل منزلة المخالفة، كزيادة الثقة المتوسط الرفع أو الوصل وليس محله في الإتقان محل من تسلم زيادته على من لم يأت بها، هذه هي القاعدة (2).
مثال الشذوذ في الإسناد:
حديث حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول:" اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "(3).
(1) معرفة علوم الحديث (ص: 120).
(2)
انظر الكلام حول التفرد في (النقد الخفي).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 386) وأحمد (6/ 144) والدارمي (رقم 2127) وأبو داود (رقم: 2134) والترمذي في " الجامع "(رقم: 1140) و " العلل "(1/ 448) والنسائي (رقم: 3943) وابن ماجة (رقم: 1971) وابن أبي حاتم في " العلل "(رقم: 1279) والطحاوي في " شرح المشْكل "(رقم: 232، 233) وابن حبان (رقم: 4205) والحاكم (2/ 187 رقم: 2761) والبيهقي في " الكبرى "(7/ 298) والخطيب في " الموضع لأوهام الجمع والتفريق "(2/ 107) من طرق عن حماد بن سلمة، بإسناده به.
حماد بن سلمة ثقة، لكنه تفرد بوصل هذا الحديث.
قال أبو زرعة الراوي: " لا أعلم أحداً تابع حماداً على هذا "(1).
قلت: خالفه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، فقالوا: عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث (2).
وهذه رواية مرسلة، وحماد بن زيد وابن علية وعبد الوهاب كل واحد منهم أوثق من حماد بن سلمة، فكيف بهم مجتمعين؟.
فلذا حكم جماعة من الحفاظ بترجيح روايتهم المرسلة.
فرجح أبو زرعة الرازي الإرسال.
وقال الترمذي بعد ذكر مخالفة حماد بن زيد وغير واحد لابن سلمة: " وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة "، وكان في " العلل " سأل البخاري عنه؟ فأشار إلى تعليله بإرسال حماد بن زيد له.
وكذلك أعقبه النسائي بذكر إرسال ابن زيد له، مشيراً إلى علته.
(1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1279).
(2)
أخرجه ابن جرير في " تفسيره "(5/ 315) من طريق حماد بن زيد. وابن أبي شيبة (4/ 386) وابنُ سعد في " الطبقات "(8/ 168) عن ابنِ عُلية. وابن جرير أيضاً (5/ 314) من طريق ابنِ عُلية وعبد الوهاب.
وكان قد أخرجه عن عبد الوهاب بواسطة مُحمد بن بشار عنه، بالرواية المرسلة، وأخرجه (5/ 315) عن سُفيان بن وكيع، عن عبد الوهاب، بمثل رواية حماد بن سلمة موصولة، لكن هذه رواية ضعيفة، ابنُ وكيع ضعيف، وخالف ابن بشار الثقة الحافظ عن عبد الوهاب .......
وحاصله: أن رواية الجماعة (محفوظة) ورواية ابن سلمة (شاذة).
وهذا مثال للشذوذ مع أن وجه المخالفة فيه ليس على معنى المعارضة للرواية الأخرى، وإنما جاء من جهة أن حماد بن سلمة ليس في الإتقان في درجة من يستقل عن الجماعة بزيادة، لما له من الأوهام مع ثقته.
مثال الشذوذ في المتن:
ما رواه همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ".
قال فيه أبو داود: " هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه، والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام "(1).
قلت: أراد أبو داود بالمنكر الشاذ؛ لأن مخالفة الثقة شذوذ لا نكارة، وهمام ثقة، لكن هذا معنى اصطلاحي واسع، وإنما ذكرت هذا الحديث مثالاً للتنبيه أيضاً على إطلاقهم النكارة على الشذوذ، بجامع الوهم والخطأ في كلٍّ.
وما ذكره من تفرد همام به بهذا اللفظ صحيح بالنظر إلى وروده من طريق ثقة، وإلا فقد جاء من وجه آخر ضعيف لا يعتبر به.
وقد قال النسائي: " هذا الحديث غير محفوظ "(2)، وهذه العبارة ألصق بالاصطلاح من عبارة أبي داود.
والحديث شاذ لمخالفة سياق متنه لما هو المحفوظ من رواية أصحاب الزهري كيونس بن يزيد الأيلي وشعيب بن أبي حمزة وإبراهيم بن سعد
(1) سنن أبي داود (رقم: 19).
(2)
السنن الكبرى (رقم: 9542).